واشنطن – الرياض... تحالف لمئة عام من النفط إلى الذكاء الاصطناعي

مرحلة جديدة لشراكة متجددة ومتوازنة تقودها شراكات دفاعية وتكنولوجية كبرى

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يستقبل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض بواشنطن العاصمة، 18 نوفمبر 2025.

واشنطن – الرياض... تحالف لمئة عام من النفط إلى الذكاء الاصطناعي

مثلت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في العاصمة الأميركية واشنطن في نوفمبر/تشرين الثاني 2025 ومحادثاته مع الرئيس دونالد ترمب، نقطة تحول مفصلية في مسار العلاقات الثنائية بين البلدين. تجاوزت المفهوم التقليدي القائم على معادلة "الأمن مقابل الطاقة" التي سادت القرن العشرين، لتعيد صياغة التحالف حول ركائز ثلاث جديدة: التكنولوجيا المتقدمة وتحديدا الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، ومرونة سلاسل الإمداد الحرجة مثل المعادن الأرضية النادرة واللوجستيات الدفاعية، وهيكلة دفاعية استراتيجية رسمية وموثقة.

شملت أبرز محطات القمة توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي، وتصنيف السعودية كـ"حليف رئيس من خارج حلف شمال الأطلسي" (الناتو)، والموافقة على حزمة تسليح نوعية تشمل مقاتلات "إف-35" و300 دبابة.

وعلى الصعيد التجاري، تميزت بصفقات ضخمة، عقدت في منتدى الاستثمار السعودي-الأميركي في مركز كنيدي، أبرزها استحواذ "هيوماين" على آلاف شرائح الذكاء الاصطناعي من شركة "إنفيديا"، ومشروع مشترك للبنية التحتية لمراكز البيانات بين "هيوماين" وشركتي "سيسكو" و"AMD"، وتطوير مراكز بيانات ومجموعات كمبيوتر فائقة بين شركة إيلون ماسك "xAI" و"هيوماين" لدفع البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، ومشروع مشترك لتكرير العناصر الأرضية النادرة بين "MP-Materials" وشركة "معادن"، بالإضافة إلى استثمارات واسعة النطاق لشركة "أرامكو السعودية" في قطاع الغاز الطبيعي المسال والصناعات التحويلية.

بدأت العلاقات الاقتصادية بين السعودية والولايات المتحدة رسميا في 23 فبراير 1930. كانت تلك المرحلة التأسيسية تتسم بتركيز مبكر على المصالح التجارية المتبادلة

بالنسبة للسعودية، فإن هذه الاتفاقيات تمثل آليات ضرورية لتسريع الانتقال بعيدا عن الاقتصاد النفطي، والتركيز على توطين التصنيع العسكري 50 في المئة من الإنفاق العسكري. وتأسيس قدرة "سيادة الذكاء الاصطناعي" من خلال كيان "هيوماين" المدعوم من الدولة، يوضح أن الرياض لم تعد مجرد مشتر للسلع الجاهزة، بل شريك في التنمية الصناعية.

كان من أبرز إنجازات القمة التوقيع على الإعلان المشترك حول استكمال المفاوضات بشأن التعاون في مجال الطاقة النووية المدنية. يمهد هذا الإعلان الطريق لاتفاقية رسمية تُعرف بـ"اتفاقية 123"، المطلوبة بموجب قانون الطاقة الذرية الأميركي لنقل تكنولوجيا نووية كبيرة. حيث تخطط الرياض لبناء ما يصل إلى 16 مفاعلا نوويا على مدى العقدين المقبلين لتنويع مزيج الطاقة المحلي لديها.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لدى وصولهما إلى منتدى الاستثمار السعودي الأميركي في مركز الملك عبد العزيز الدولي للمؤتمرات بالرياض في 13 مايو 2025.

اندرجت زيارة ولي العهد السعودي لواشنطن ضمن مرحلة تشهد تحولات استراتيجية عميقة في العلاقات الدولية، وتتزامن مع نقاش أميركي داخلي حول إعادة تعريف الدورين السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة في العالم، ولا سيما في مستهل العهد الثاني للرئيس ترمب. وبرزت في المفاوضات الثنائية السعودية-الأميركية، تحولات الاقتصاد العالمي، ومتطلبات حماية منظومات الطاقة والتكنولوجيا، وتأمين سلاسل التوريد، وتعزيز الأسواق المشتركة وضمان حقوق الملكية الصناعية والتكنولوجية.

تمثل العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية نموذجا للشراكات الاستراتيجية، انطلقت هذه العلاقة في ثلاثينات القرن الماضي على أساس مبدأ "النفط مقابل الأمن". ومع ذلك، يشهد التحالف خلال السنوات الأخيرة تحولا جوهريا، ليصبح شبكة من المصالح المشتركة تتجاوز الطاقة والدفاع التقليدي إلى قطاعات المستقبل كالاستثمار السيادي، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والطاقة المتجددة.

الأسس التاريخية لـ"التحالف" 1930–1973

بدأت العلاقات الاقتصادية بين السعودية والولايات المتحدة رسميا في 23 فبراير/شباط 1930. كانت تلك المرحلة التأسيسية تتسم بتركيز مبكر على المصالح التجارية المتبادلة. وتوثقت العلاقة أكثر في عام 1931 مع بداية التدفق التجاري للنفط، وتبع ذلك قرار الملك عبد العزيز آل سعود منح حق التنقيب عن النفط لشركة "ستاندارد أويل" الأميركية.

انتقلت العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة جديدة من التعاون المؤسسي في 8 يونيو 1974، عبر تأسيس اللجنة السعودية-الأميركية المشتركة للتعاون الاقتصادي

من هنا تعود بدايات "أرامكو" إلى عام 1933، عندما أُبرمت اتفاقية الامتياز بين المملكة وشركة "ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا" (سوكال). حينها، تم إنشاء شركة تابعة لها سميت بـ"كاليفورنيا أرابيان ستاندارد أويل كومباني" (كاسوك) لإدارة هذه الاتفاقية.

يُعدّ عام 1932 مفصليا في علاقة البلدين، حيث شهد توحيد الدولة السعودية، وتوقيع الاتفاقية الدبلوماسية التجارية المؤقتة بين البلدين، لتمثل أول معاهدة بين واشنطن والرياض تغطي التمثيل السياسي والقنصلي، والتجارة والملاحة، والضمانات القضائية.

قمة كوينسي 1945

شهد مسار العلاقات نقطة تحول في 14 فبراير/شباط 1945، مع عقد اللقاء التاريخي بين الملك عبد العزيز والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت على متن الطراد "يو إس إس كوينسي"، بعد عودة روزفلت من مؤتمر يالطا.

يُعرف هذا اللقاء باسم "اتفاق كوينسي"، كان جوهره ربط أمن الخليج بضمان وصول الولايات المتحدة وحلفائها إلى إمدادات النفط. وعلى الرغم من أن هذا التفاهم لم يكن معاهدة رسمية في البداية، إلا أنه كان بمثابة "مذكرة تفاهم" غير قابلة للتصرف، ربطت أمن منطقة الخليج بأمن الطاقة العالمي، وجعلت الرياض ركيزة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط طوال فترة الحرب الباردة وما بعدها.

غيتي
الملك عبد العزيز بن سعود يستمع إلى مترجم فيلق مشاة البحرية الأميركية العقيد ويليام أ. إيدي، والرئيس الأميركي فرانكلين د. روزفلت، على متن السفينة الحربية الأميركية كوينسي، مصر في 14 فبراير 1945.

بعد تولي الملك سعود عام 1953، تعمقت العلاقات ضمن استراتيجية احتواء الاتحاد السوفياتي التي تبنتها واشنطن خلال الحرب الباردة، إلا أن أزمة حظر النفط عام 1973 كشفت عن هشاشة الارتباط المباشر بين النفط والسياسة، وسرعت الحاجة إلى مأسسة العلاقة الاقتصادية.

الهندسة المالية والسياسية

انتقلت العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة جديدة من التعاون المؤسسي في 8 يونيو/حزيران 1974، عبر تأسيس اللجنة السعودية-الأميركية المشتركة للتعاون الاقتصادي. تأسست هذه اللجنة في أعقاب الحظر النفطي وارتفاع الأسعار، بهدف تلبية احتياجات السعودية من المواد والخبرات لدعم مشروعات التنمية التي كانت تشهدها البلاد آنذاك.

من الناحية الاقتصادية الاستراتيجية، لم تكن اللجنة المشتركة مجرد آلية تعاون، بل كانت أداة لـ"الهندسة المالية والسياسية".

تضمنت جهود الرياض استثمارات في تدريب وبناء القدرات الرقمية بالشراكة مع شركات أميركية كبرى مثل "غوغل" و"آبل" و"أمازون"، مما ساهم في رفع عدد الكفاءات الرقمية السعودية

ولتعزيز دور القطاع الخاص في العلاقة، أُنشئ مجلس الأعمال السعودي-الأميركي في عام 1993 الذي عمل على تشجيع الصناعات التحويلية والمشاريع المشتركة، بالإضافة إلى نشر الوعي بالفرص المتاحة في السعودية للشركات الأميركية وزيادة المعرفة والفهم لبيئات الأعمال والثقافة لكلا البلدين.

الاستثمار السيادي كرافعة اقتصادية

على مدى سنوات، تحول صندوق الاستثمارات العامة (PIF) من كونه مستثمرا ماليا إلى أداة اقتصادية استراتيجية، وارتفعت ملكية الصندوق في السوق الأميركية، قبل الزيارة، لتصل إلى 20.66 مليار دولار، وتخضع هذه المحفظة لتغيرات دورية.

يركز الصندوق بشكل استراتيجي على قطاعات التكنولوجيا والخدمات ذات النمو العالي، التي ترتبط بشكل مباشر ببرامج "رؤية 2030"، ومن هذه الاستثمارات: شركة "أوبر تكنولوجي" للنقل والخدمات الحضرية، وشركة "لوسيد غروب" للسيارات الكهربائية، وشركات مثل "Electronic Arts" و"Take-Two" للألعاب والترفيه. كما تشمل الاستثمارات الحديثة قطاعات الرعاية الصحية والتكنولوجيات الأساسية.

إن وجود صندوق الاستثمارات العامة كمساهم رئيس في شركات التكنولوجيا الأميركية يسمح للرياض بضمان "مقعد إلى الطاولة" في اتخاذ القرارات التكنولوجية الحساسة، مما يقلل الأخطار السياسية التي تهدد تدفق التكنولوجيا الحيوية.

توطين الصناعات الدفاعية

لم تعد الرياض تكتفي بشراء الأسلحة الجاهزة، بل أصبحت تسعى للاستفادة من قدرات الشركاء لنقل التكنولوجيا والتطوير المشترك و"توطين المحتوى"، ما يعني أن الشركات العالمية، ومنها الأميركية، مطالبة ببناء مصانع لتصنيع جزء من المنتجات النهائية محليا.

كما أن هذا الشرط يخدم هدفين استراتيجيين: أولا، يضمن نقل المعرفة والخبرات التكنولوجية إلى الكوادر السعودية.

غيتي
منظر جوي لمكاتب شركة "أرامكو" في الظهران، المملكة العربية السعودية، حوالي عام 1955.

 ثانيا، يحول الإنفاق الدفاعي من مجرد تكلفة أمنية إلى محرك للتنمية الاقتصادية المحلية وخلق الوظائف.

المستقبل الرقمي والطاقة المتجددة

ركزت الشراكة الحديثة على القطاعات التكنولوجية المتقدمة، حيث تسير السعودية نحو التحول من اقتصاد تقليدي إلى اقتصاد رقمي يقوده الابتكار، ومثّل الذكاء الاصطناعي حجر الزاوية في هذه العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.

تضمنت جهود الرياض استثمارات في تدريب وبناء القدرات الرقمية بالشراكة مع شركات أميركية كبرى مثل "غوغل" و"آبل" و"أمازون"، مما ساهم في رفع عدد الكفاءات الرقمية السعودية. وتؤكد هذه الشراكات أن المملكة أصبحت "لاعبا دوليا محوريا" في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي من خلال الاستثمار في البنية التحتية الرقمية.

في قطاع الطاقة، تجاوز التعاون التركيز على النفط ليشمل الطاقة النظيفة. وأبرز مثال على ذلك، مشروع "نيوم للهيدروجين الأخضر"، وهو شراكة استثمارية مع شركة "إير برودكتس" الأميركية و"أكوا باور".

 ويُنتظر أن يساهم هذا المشروع في تلبية ما يقرب من 10 في المئة من المستهدف العالمي لإنتاج الهيدروجين. وشهدت زيارة الرئيس ترمب للرياض في مايو/أيار 2025، نقطة تحول اقتصادية في مسار العلاقات الثنائية، وتحولت إلى منصة لإعادة تأكيد العمق التجاري والاستثماري الذي يربط البلدين، السعودية وأميركا.

كانت السمة الأبرز للزيارة هي حجم التعهدات والاتفاقيات الاقتصادية التي تم إعلانها، والتي تجاوزت الصفقات الدفاعية التقليدية لتشمل قطاعات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والبنية التحتية.

لم تعد واشنطن تكتفي بضمان إمدادات الطاقة، ولم تعد الرياض ترى في الحماية العسكرية الضامن الوحيد لأمنها الوطني. ما بات يربط الطرفين، هو شبكة مصالح اقتصادية واستثمارية وتقنية، تُدار بمنطق التبادل والتكافؤ

أعلنت الرياض عبر شركة "Data Volt" الاستثمار في مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي وبنى تحتية للطاقة في الولايات المتحدة.

وأعلن عدد من الشركات الأميركية، "غوغل" و"أوراكل" و"أوبر" وغيرها، استثمارات مشتركة أو مشاريع تقنية مع شركاء سعوديين في الولايات المتحدة والمملكة.

كما عقدت اتفاقيات تعاون في مجال الطاقة، مع مذكرة تفاهم حول تطوير البنى التحتية للطاقة والمعادن الحرجة.

في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، تم توقيع شراكات مع شركات مثل "إنفيديا" و"AMD" لدعم البنى التحتية السعودية للذكاء الاصطناعي وتوسعة قدرات المملكة في هذا المجال.

مرحلة جديدة

عززت الاتفاقات الجديدة التزام التنويع بعيدا عن النفط، وبدل الاكتفاء بالنفط انتقلت العلاقة إلى مرحلة التكنولوجيا من خلال تأمين الاستثمار والشراكة المعرفية في قطاعات النمو المرتفع مثل الذكاء الاصطناعي، والسيارات الكهربائية، والترفيه. وضمنت الاستثمارات السعودية في الشركات التكنولوجية الأميركية الحساسة، مثل شركات الرقائق وأشباه الموصلات، "مقعدا إلى الطاولة" في اتخاذ القرارات التكنولوجية.

تدخل العلاقات السعودية-الأميركية اليوم مرحلة جديدة تعيد تعريف الأولويات وأدوات الشراكة، لم تعد واشنطن تكتفي بضمان إمدادات الطاقة، ولم تعد الرياض ترى في العلاقات العسكرية الضامن الوحيد لأمنها الوطني. ما بات يربط الطرفين، هو شبكة مصالح اقتصادية واستثمارية وتقنية، تُدار بمنطق التبادل والتكافؤ.

كشفت زيارة واشنطن عن عمق التحولات في العلاقة، الاستثمارات السعودية في السوق الأميركية، واتساع رقعة التعاون في قطاعات الذكاء الاصطناعي والطاقة النظيفة والدفاع الموطَّن، تؤشر إلى أن التحالف بات يتأسس على قواعد اقتصادية تزداد مؤسسية وتشابكا.

font change

مقالات ذات صلة