استراتيجية ترمب الجديدة... ما أولويات أميركا في العالم؟

تعكس تحولا عميقا في نظرة واشنطن لدورها العالمي

استراتيجية ترمب الجديدة... ما أولويات أميركا في العالم؟

أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب الجمعة عن استراتيجية جديدة طال انتظارها، تعكس تحولا عميقا في نظرة واشنطن لدورها العالمي. فبدلا من النموذج التقليدي الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة والقائم على السعي للحفاظ على موقع "القوة العظمى الوحيدة"، تُظهر الوثيقة أن تركيز الولايات المتحدة سينتقل إلى مناطق تراها الإدارة أكثر ارتباطا بمصالحها المباشرة، خاصة أميركا اللاتينية وملف الهجرة.

وتشير وثيقة الأمن القومي إلى أن ترمب يعتمد رؤية مختلفة جذريا عن الإدارات المتعاقبة، قائمة على شعار "أميركا أولا"، ومبنية على قناعة بأن النظام الدولي لم يعد يسمح بسياسة الانخراط الأميركي الواسع في كل منطقة من العالم. ورغم أن الوثيقة لا تتجاهل الصين، وتعتبرها المنافس الأكبر، فإنها تبتعد عن التركيز التقليدي على "محور آسيا" الذي هيمن على الاستراتيجيات الأميركية الأخيرة.

وقال ترمب في مقدمة الوثيقة: "في كل ما نقوم به، نضع أميركا أولا". وتضيف الوثيقة أن هذه الاستراتيجية تتطلب إعادة تقييم جذرية للعلاقات والتحالفات الدولية. فالهدف لم يعد دعم نظام عالمي ليبرالي واسع، بل حماية القوة الأميركية مع تقليل الأعباء الخارجية، وتركزها في مناطق "العائد المباشر". كما تؤكد أن "عصر الهجرة الجماعية يجب أن ينتهي"، وأن الولايات المتحدة ستتخذ خطوات داخل أوروبا وأميركا اللاتينية للحد من الهجرة نحو حدودها.

في قطيعة واضحة مع الخطاب الأميركي التقليدي، تؤكد الاستراتيجية أن "الولايات المتحدة ترفض أن تنتهج بنفسها المبدأ المشؤوم للهيمنة على العالم". وهذا تصريح يُعد الأول من نوعه في الوثائق الأميركية الحديثة، إذ يعترف ضمنيا بأن تكاليف الحفاظ على الهيمنة العالمية باتت باهظة وغير قابلة للاستمرار.

وتضيف الاستراتيجية أن واشنطن ستعمل على منع القوى الكبرى، وعلى رأسها الصين وروسيا، من اكتساب نفوذ مفرط، لكنها تشدد على أن ذلك "لا يعني هدر الدماء والأموال للحد من نفوذ جميع قوى العالم العظمى والمتوسطة".

ترفع الاستراتيجية من شأن أميركا اللاتينية لتصبح على رأس الأجندة الأميركية. ويُعد هذا أهم تحول إقليمي في الوثيقة

وتتضمن الوثيقة أحد أهم التحولات العسكرية في العقود الأخيرة، إذ تتعهد بـ"تعديل حضورنا العسكري العالمي للتعامل مع التهديدات العاجلة"، مع إعادة توجيه الموارد نحو نصف الكرة الغربي، وهو ما يعني فعليا تقليص الاهتمام الأميركي بمناطق كانت تُعد شديدة الأهمية، مثل الشرق الأوسط.

وهنا الموقف من ملفات رئيسة في العالم:

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وقادة اوروبيين بينهم المستشار الألماني فريدريش ميرتس في في البيت الأبيض في واشنطن، 18 أغسطس 2025.

أوروبا منطقة حليفة ولكنها موضع انتقاد غير مسبوق

تستخدم الوثيقة لغة حادة تجاه أوروبا، وهي لغة نادرا ما استخدمتها وثائق أمن قومي أميركية سابقا. وتزعم أن أوروبا تواجه "طمسا حضاريا" بفعل الهجرة، وهو خطاب يقترب بشكل واضح من خطاب اليمين المتطرف الأوروبي. وتشير إلى أن بعض الدول الأوروبية قد تتحول إلى "أغلبية غير أوروبية" خلال عقود، ما يغير الطبيعة الديموغرافية والسياسية للقارة.

وتدعو الوثيقة إلى "زرع المقاومة داخل الدول الأوروبية لمسار أوروبا الحالي"، وهو تعبير يعكس تدخلا مباشرا في النقاشات السياسية الداخلية الأوروبية لصالح الأحزاب القومية واليمينية. وتنتقد "قمع حرية التعبير" في أوروبا، في إشارة إلى القيود المفروضة على خطاب اليمين المتطرف. وتعيد التأكيد على رفض توسيع "الناتو"، الأمر الذي يبدد آمال أوكرانيا بالانضمام للحلف في ظل الحرب مع روسيا.

وترى الاستراتيجية أن تراجع حصة أوروبا من الاقتصاد العالمي، بفعل صعود الصين والهند ودول ناشئة، ينذر بـ"احتمال أكثر قتامة يتمثل في طمس الحضارة الأوروبية". وفي موقف أثار ردود فعل قوية، قالت ألمانيا إنها "لا تحتاج نصائح خارجية".

أميركا اللاتينية... مركز الثقل الجديد في "مبدأ ترمب"

ترفع الاستراتيجية من شأن أميركا اللاتينية لتصبح على رأس الأجندة الأميركية. ويُعد هذا أهم تحول إقليمي في الوثيقة، إذ تقدم رؤية جديدة لإحياء "مبدأ مونرو" بقراءة "ترمبية". وتطرح ما تسميه الوثيقة "مبدأ ترمب"، الهادف إلى ضمان استقرار الأنظمة في المنطقة لمنع موجات الهجرة. وتؤكد منع القوى غير الإقليمية، خصوصا الصين، من وضع قوات أو السيطرة على بنى تحتية حساسة.

تنص الوثيقة على تقليل الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط، مبررة ذلك بتراجع اعتماد واشنطن على نفط الخليج، وهو ما يقلل من أهمية المنطقة في حسابات الأمن القومي الأميركي

تفصل الوثيقة إجراءات تشمل ضرب شبكات تهريب المخدرات في البحر، والتدخل ضد قادة يساريين، والسعي للسيطرة على موارد حيوية مثل قناة بنما.

أ ف ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي في البيت الأبيض بواشنطن العاصمة، في 14 أكتوبر 2025.

هذا الإحياء لـ"مبدأ مونرو"، الذي يعود لعام 1823، يعني عودة واشنطن إلى سياسة "الفناء الخلفي" التي ابتعدت عنها خلال العقود الماضية، مع فارق أن النسخة الجديدة أكثر صراحة وأقل دبلوماسية.

آسيا... الصين كمنافس اقتصادي قبل أن تكون تهديدا عسكريا

على الرغم من أهمية آسيا استراتيجياً، تُظهر الوثيقة مقاربة مغايرة للوثائق السابقة. وتعتبر الصين "منافسا اقتصاديا أولا" قبل أن تكون قوة مهددة عسكريا. وتؤكد ضرورة إعادة التوازن في العلاقات الاقتصادية معها، بما يشمل سلاسل الإمداد والتكنولوجيا. وتحافظ على "الوضع القائم" في تايوان لكنها تطالب اليابان وكوريا الجنوبية بزيادة مساهماتهما الدفاعية لحماية الجزيرة.

تبدي أميركا-ترمب، انفتاحا على تعميق العلاقات مع الهند ودفعها للعب دور قيادي في أمن المحيطين الهندي والهادئ.

هذا التحول يشير إلى تخفيف التركيز العسكري المباشر، مقابل توسيع المنافسة الاقتصادية، وهي سمة أساسية في رؤية ترمب للعالم.

الشرق الأوسط وأفريقيا... تقليص الدور الأميركي وتحديد الأولويات

تنص الوثيقة على تقليل الانخراط الأميركي في الشرق الأوسط، مبررة ذلك بتراجع اعتماد واشنطن على نفط الخليج، وهو ما يقلل من أهمية المنطقة في حسابات الأمن القومي الأميركي.

وتشير الوثيقة إلى "إضعاف إيران" بفضل الهجمات الأميركية والإسرائيلية، مع التأكيد على أن إسرائيل يجب أن تكون "آمنة"، دون الخطاب الحاد الذي استخدمته إدارة ترمب سابقا.

وقد قللت الوثيقة من الحديث عن الصراعات التقليدية مثل سوريا والعراق. وهناك دعوة للابتعاد في أفريقيا عن "نهج المساعدات" والتركيز على المعادن الحيوية.

font change

مقالات ذات صلة