عفو مقابل اعتزال... "صفقة نتنياهو" التي تهز إسرائيل

ربما لا يقبل اليمين المتطرف برحيله

أ ف ب
أ ف ب
تظهر لوحة إعلانية عملاقة رئيس الوزراء الإسرائيلي ومرشح حزب الليكود بنيامين نتنياهو (يمين) وزعيم حزب العمل الإسرائيلي والزعيم المشارك لحزب الاتحاد الصهيوني إسحاق هرتسوغ في 10 مارس 2015 في مدينة تل أبيب

عفو مقابل اعتزال... "صفقة نتنياهو" التي تهز إسرائيل

رام الله- في لحظة تُعتبر الأكثر حساسية في تاريخ إسرائيل السياسي منذ تأسيسها عام 1948، يجد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه على حافة مواجهة قضائية قد تضع نهاية لمسيرته الطويلة، ليس فقط كرجل سياسة، بل كرمز هيمن على الحياة العامة لنحو ثلاثة عقود من الزمن. وبينما تنشغل الساحة الإسرائيلية بالمظاهرات والانقسامات الحادة، ظهر طلب العفو الرئاسي الذي قدّمه رسميا في 30 نوفمبر/تشرين الثاني باعتباره الزلزال الدستوري والسياسي الذي يهدد بإعادة تشكيل علاقة السلطات في إسرائيل، ويُعيد إلى الواجهة جدلا قديما حول حدود السلطة، وحول ما إذا كان رئيس الحكومة يمكن أن يقف فوق القانون.

ويواجه نتنياهو أخطر تهم وُجّهت لرئيس حكومة في تاريخ إسرائيل خلال تولّيه منصبه: "الملف 4000" (قضية بيزك–واللا الأخطر)، وتتضمن شبهات رشوة واضحة، وقد يدفع بمُتهميه إلى السجن لسنوات طويلة، و"الملف 2000" (مفاوضات مع ناشر "يديعوت أحرونوت" للحصول على تغطية إيجابية مقابل التضييق على صحيفة منافسة)، و"الملف 1000" (هدايا بقيمة مئات آلاف الدولارات من رجال أعمال). وبحسب تقديرات قانونية إسرائيلية، فإن الإدانة في "الملف 4000" قد تعني سجنا فعليا بين 5–10 سنوات، ووصمة قانونية تجعل عودته إلى الحياة السياسية شبه مستحيلة.

يخشى نتنياهو المحكمة، حيث إنه اليوم في منتصف السبعينات من عمره، وأي حكم بالسجن لسنوات سيعني نهاية حياته السياسية بالكامل، وتدمير إرثه كأطول رئيس حكومة في تاريخ إسرائيل، ووضع اسمه في خانة "قادة فاسدين" مثل إيهود أولمرت. كما أن المحاكمة، خلافا للحروب والسجالات السياسية، لا يسيطر نتنياهو على مسارها، فهو لا يستطيع مهاجمة القضاة كما يهاجم الخصوم، كما لا يستطيع إقناع الشارع اليميني بأن كل شيء "مؤامرة" إلى الأبد، فيما من المعروف عن النيابة في إسرائيل أنها تسعى لصفقات "شهود ملك" داخل الحلقة المقربة من المسؤولين، وقد شهدت القضايا السابقة انشقاق شخصيات كانت مقرّبة من نتنياهو، وهو يخشى من هذه اللحظة.

هذا المشهد لم يكن معزولا عن تدخل الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارته للكنيست الإسرائيلي في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وتصريحه الداعم للعفو عن نتنياهو، ما أثار عاصفة سياسية داخلية عنيفة اعتُبرت تدخلا في القضاء الإسرائيلي، ثم الضغوط التي مورست على رئيس الدولة العبرية يتسحاق هرتسوغ، عمّقت هذا الجدل وأضفت عليه طابعا دوليا غير مسبوق، فيما خرج آلاف الإسرائيليين إلى الشوارع رفضا لفكرة "العفو الشخصي" الذي يُنظر إليه بوصفه تهديدا لجوهر النظام الديمقراطي الإسرائيلي.

وقد ظهرت فكرة "العفو" الآن تحديدا لأن المحاكمة تدخل مرحلة الحسم، حيث أدلى الشهود الرئيسون بشهاداتهم، والقضاة يقتربون من مرحلة التقييم النهائي للأدلة، فيما تشير التسريبات القضائية إلى أن "ملف 4000" قوي بما يكفي لفرض إدانة، وهناك أحزاب يمينية بدأت تفكر في مرحلة "ما بعد نتنياهو" فيما يقول مراقبون إسرائيليون إن تصريحات ترمب في الكنيست لم تكن عابرة، حيث يملك تأثيرا كبيرا داخل اليمين الإسرائيلي، وتلميحاته للعفو جعلت نتنياهو يدرس الاحتمال بجدية.

يدرك رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تماما أن مسار محاكمته معقد وطويل، وأن احتمال إدانته كبير

ولعل اللافت للانتباه تلك المظاهرات الحاشدة التي خرجت بالقدس الغربية ضد فكرة منح العفو لنتنياهو، حيث عبرت عن التيار المدني الديمقراطي الذي يرى في العفو "ضربة لسيادة القانون" وعودة إلى "دولة الملوك"، والنيابة العامة ومؤسسة القضاء التي ترفض أن تتحول المحاكمة إلى ورقة تفاوضية سياسية، بالإضافة إلى فئة من اليمين العلماني التي تريد التخلص من نتنياهو لأنها تعتبر أنه أصبح عبئا انتخابيا، حيث لم تكن تلك الاحتجاجات يسارية فقط، بل ضمّت شرائح من الطبقة الوسطى المتديّنة، ما يعكس تآكل الشرعية الاجتماعية لرئيس الحكومة. نتنياهو، الذي بات يجسد في وعي جزء من الجمهور صورة الملك الذي يرفض الرضوخ للقانون، وذلك ما يفسر الاحتجاجات.

يملك الرئيس الإسرائيلي واحدة من أوسع صلاحيات العفو في الأنظمة البرلمانية، لكنه مقيد بثلاثة عوامل، منها عدم منح عفو قبل انتهاء المحاكمة إلا لظروف استثنائية جدا، وهذا الشرط سيُستخدم بقوة من المحكمة العليا والشارع والمعارضة ضد نتنياهو. وضرورة أن يوصي المستشار القضائي للحكومة بأن العفو لا يعيق سيادة القانون. إذ سيُتهم الرئيس بأنه يخدم الحزب الحاكم، مما يعرّضه لهزة دستورية، لذلك، أي عفو لن يكون بسيطا، وسيُعدّ "صفقة سياسية–قضائية".

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب (يسار) يتحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البرلمان الإسرائيلي، الكنيست، في القدس في 13 أكتوبر 2025

صلاحية العفو في إسرائيل هي صلاحية رئاسية منصوص عليها في القانون الأساسي، لكن هذا الامتياز يُمارس تقليديا ضمن شروط صارمة تراعي مبدأ الفصل بين السلطات وتُبقي الرئيس بعيدا عن التجاذبات السياسية. لذلك، فإن طلب العفو لرئيس حكومة ما زال قيد المحاكمة وقضايا الفساد الموجهة ضده ما زالت تُنظر أمام المحاكم يُعتبر سابقة تكاد تكون بلا مثيل، حيث ينص الدستور الأساسي في إسرائيل على أنه "لا أحد فوق القانون، بمن فيهم رئيس الحكومة نفسه".

ويرى خبراء قانونيون في إسرائيل أن العفو قبل الإدانة أو قبل انتهاء العملية القضائية يحمل إشكاليات قانونية جوهرية تشكل خرقا لمنظومة العدالة عبر التدخل في مسار قضائي لم يكتمل، وإضعاف الثقة بالقضاء باعتبار أن ملفات "1000" و"2000" و"4000" والمتعلقة بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة ليست كيدية، بل قُبلت قضائيا بعد سنوات من التحقيق، بالإضافة إلى إعادة تعريف دور الرئيس الإسرائيلي من شخصية رمزية إلى لاعب سياسي، وهو ما يتعارض مع وظائفه ودوره المحدود، لذلك يرى معظم الخبراء القانونيين أن منح العفو في هذه المرحلة يمثل مساسا مباشرا باستقلال القضاء وسابقة قد تُستخدم لاحقا من قبل أي مسؤول يواجه المحاكمة.

بين شبح السجن وهوس البقاء السياسي

يدرك رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تماما أن مسار محاكمته معقد وطويل، وأن احتمال إدانته كبير، ورغم تمسّكه بخطاب "الاضطهاد السياسي" وادعاءاته ضد "الدولة العميقة"، فإن وجود وثائق وتسجيلات وشهادات شهود من رجال دولة مثل نير حيفتس وشلومو فيلبر يجعل القضية أخطر مما يعترف به علنا، حيث إن الخوف الحقيقي بالنسبة لنتنياهو ليس السجن فقط، بل نهاية الإرث السياسي لرجل لم يعرف الحياة خارج المعترك الانتخابي منذ ثلاثة عقود.

يشهد الإعلام الإسرائيلي انقساما واضحا في مواقفه تجاه قضية نتنياهو، حيث تعتبر وسائل الإعلام اليمينية أن العفو "ضرورة وطنية لطي صفحة الانقسام"، فيما تعتبره وسائل الإعلام الليبرالية "انقلابا على سيادة القانون"

أما إذا حصل نتنياهو على العفو، فسيقدمه أنصاره كمنتصر على المؤامرة وعلى الدولة العميقة، مما سيمنحه قوة انتخابية كبيرة على المدى القصير، وربما يعزز فرصه في الفوز بالانتخابات القادمة، لأنه سيظهر كزعيم "صمد وانتصر"، لكن هكذا انتصار لن يكون بلا ثمن، فالطبقة الوسطى والمجتمع المدني سيعتبرونه "زعيما فوق المساءلة"، والمعارضة ستتبنى شعار "نتنياهو عفا عن نفسه بطريقة التفافية"، أما إذا رُفض العفو، فسيتحول الرفض إلى مادة تعبئة انتخابية، إذ سيدعي أن النظام القضائي "يسعى لإسقاط اليمين"، بل سيستخدم خطابا شعبيا عن "الاضطهاد" مشابها لخطاب ترمب، وسيحشد الشارع المؤيد لليمين القومي والديني، حيث إن رفض العفو قد يقويه انتخابيا بدل أن يضعفه.

ونتنياهو اليوم محاصر بين ضغط القضاء، وضغط الحلفاء المتدينين، وضغط المستوطنين، وضغط الرأي العام، وتراجع الدعم الأميركي في بعض الدوائر. لذلك، فإن منح العفو أو رفضه سيعيد رسم هذه التوازنات، بحيث يرى اليمين أن إسقاط نتنياهو يعني اهتزاز المشروع القومي الديني بأكمله، ومن هذا المنطلق سيقاتلون سياسيا لمنع سقوطه.

في هذا السياق، ترى المعارضة البرلمانية في إسرائيل في هذه اللحظة فرصة تاريخية لتقديم نفسها كصاحبة مشروع "استعادة الديمقراطية"، ففي حال مُنح العفو، ستزداد فرصها في بناء جبهة مدنية واسعة ضد نتنياهو، أما إذا رُفض العفو، فستزداد قدرتها على مهاجمته باعتباره "غير مؤهل أخلاقيا" لقيادة الدولة.

القضاء في مواجهة السلطة التنفيذية

لقد قاد نتنياهو وحلفاؤه منذ سنوات حملة منهجية لتقليص دور القضاء، بما في ذلك مشروع "الإصلاح القضائي" الذي فجّر احتجاجات غير مسبوقة في التاريخ الإسرائيلي قبل أحداث السابع من أكتوبر 2023. لذلك، فإن طلب العفو يُعتبر امتدادا للصراع وليس إجراء قانونيا عابرا. فيما يجد رئيس الدولة العبرية هرتسوغ نفسه في مرمى النيران، فإن وافق على العفو، سُيتهم بقتل الديمقراطية، وإن رفضه، سيواجه حملة سياسية شرسة من اليمين الديني والقومي، مما يجعل منصب رئيس الدولة، الذي كان شكليا، جزءا من ساحة المعركة المؤسسية.

وفي هذا السياق، يشهد الإعلام الإسرائيلي انقساما واضحا في مواقفه تجاه هذه القضية، حيث تعتبر وسائل الإعلام اليمينية أن العفو "ضرورة وطنية لطي صفحة الانقسام"، فيما تعتبره وسائل الإعلام الليبرالية "انقلابا على سيادة القانون".

أما الاستخبارات والجيش، فيخشون من أن يؤدي المس بالسلطة القضائية إلى فقدان ثقة المجتمع الدولي، وضعف قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها في المحاكم الدولية، بالإضافة إلى تسييس المؤسسة الأمنية نفسها، حيث حذر عدد من الجنرالات السابقين علنا من "تحدٍ خطير لمنظومة الضوابط والتوازنات".

وبينما يؤيد الرئيس الأميركي دونالد ترمب منح العفو لصديقه نتنياهو، يقول قادة إسرائيليون بارزون إن الدوائر الأميركية تترقب الموقف بحساسية، حيث لا تريد واشنطن رؤية رئيس وزراء دولة حليفة يتجنب المحاكمة عبر العفو، كما يخشى المسؤولون الإسرائيليون من انهيار ثقة الولايات المتحدة في استقلالية النظام القضائي في إسرائيل، لتصبح دولة مشابهة للمجر وبولندا.

يقف الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ أمام أربعة سيناريوهات معقدة في تعامله مع طلب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للحصول على العفو من المحاكمة بتهم الفساد

لقد شهدت إسرائيل حالات فساد مماثلة لحالة نتنياهو، فإيهود أولمرت دخل السجن بقضايا فساد رغم كونه رئيس حكومة سابق، وموشيه كتساف، رئيس الدولة نفسه، سُجن بقضايا تحرش ولم يشفع له منصبه، فيما وُجهت تهم لبعض الوزراء والنواب لكنهم استقالوا قبل أن تتطور قضائيا، لكن الفرق الحاسم بينهم وبين نتنياهو هو أنه لم يطلب أي منهم العفو قبل انتهاء المحاكمة كما فعل نتنياهو.

وبينما يقود نتنياهو ائتلافا حكوميا يضم قادة بارزين من الأحزاب الدينية اليهودية، فإن سعيه لنيل العفو الشخصي لا يستند إلى تقليد ديني أو تراثي، فالتقليد اليهودي يحمّل القائد مسؤولية أخلاقية أكبر، لا أقل، كما يرفض التراث التلمودي أن يكون القاضي أو الزعيم "فوق العدل"، فحتى الملوك في العصور القديمة كانوا يُنتقدون علنا من قبل الأنبياء، مثل ناثان الذي واجه الملك داود مباشرة بقضية أوريا الحيثي رغم مكانته الدينية، والملك شاؤول الذي فقد شرعيته بسبب أخطاء واعتبارات شخصية، مما يجعل المقارنة مع نتنياهو صعبة، لأنه يسعى إلى عفو شخصي لا يستند إلى تقليد ديني أو تراثي.

ويعتبر نتنياهو قضيته أشبه بقضية الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الذي نال عفوا رئاسيا من خليفته الرئيس جيرالد فورد عام 1974 بعد فضيحة "ووترغيت"، إلا أن هناك فارقا بينهما يتمثل في أن نيكسون استقال أولا، وأقر بخطئه ثم حصل على العفو، غير أن نتنياهو لم يعترف ولم يستقل بعد، لذلك يقول معارضوه إنه أقرب إلى سلفيو بيرلسكوني، رئيس وزراء إيطاليا الأسبق، الذي سعى مرارا إلى تحصين نفسه ضد القضاء بالتشريعات، ومحاولة محاصرة القضاء سياسيا، لكنه في النهاية أُدين عام 2013، واستُبعد من المناصب العامة، حيث تؤكد هذه الحالات أن العفو ليس مستحيلا، لكنه دائما بثمن سياسي ثقيل، أما طلب نتنياهو العفو من رئيس الدولة فسيدرسه أولا وزير العدل الإسرائيلي ويقدم بعد ذلك توصيته لرئيس الدولة الذي سيحيل التوصية إلى مستشارته القضائية، وبناء على توصيتها يتخذ هيرتسوغ القرار الذي يرجح أن لا يتم قبل نهاية ديسمبر/كانون الأول الحالي.

ولعل السابقة الوحيدة في تاريخ القضاء الإسرائيلي التي حدث فيها العفو عن متهم قبل انتهاء محاكمته كانت في قضية ضباط الشاباك الذين قتلوا فلسطينيين اثنين من غزة بعد اعتقالهما إثر اختطافهما حافلة ركاب إسرائيلية تعرف بـ"خط 300" عام 1984، حيث اعترف ضباط الشاباك حينها بأنهم قتلوا الفلسطينيين بعد اعتقالهما، وهما على قيد الحياة، وعبروا عن ندمهم على فعلتهم تلك. 

ويقول خبير قانوني إسرائيلي بارز لـ"المجلة": "هذه حالة نادرة جدا أن يتم طلب العفو أو إلغاء المحاكمة قبل انتهاء إجراءات المحاكمة". وأضاف: "لقد أدرك نتنياهو خلال العشر جلسات الأخيرة من محاكمته والاستماع للشهود والاطلاع على الأدلة ضده أنه ذاهب إلى السجن والإدانة، لذلك يتذرع بمصلحة أمن إسرائيل القومي"، مشيرا: "لو كان يهمه الأمن القومي لإسرائيل حقا لكان أنهى حرب غزة منذ عامين".

أ ف ب
يحمل المتظاهرون من اليمين لافتة عليها صورة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال مظاهرة لدعم الإصلاح القضائي المخطط له من قبل حكومته خارج المحكمة العليا في القدس في 7 سبتمبر 2023

يقف الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ أمام أربعة سيناريوهات معقدة في تعامله مع طلب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للحصول على العفو من المحاكمة بتهم الفساد، حيث إن أقصر الطرق أمام هرتسوغ هو رفض طلب نتنياهو، استنادا إلى موقف المعارضة التي تشترط اعترافه بالذنب وخروجه من الحياة السياسية مقابل العفو، أو قد يمنح هرتسوغ عفوا مشروطا، مثل التقاعد من الحياة السياسية، أو يُطالب بتغييرات عامة كتشكيل لجنة تحقيق حكومية في كارثة 7 أكتوبر، أو سحب مشاريع قوانين الإصلاح القانوني والإعلامي (المثيرة للجدل) من جدول الأعمال، إذ تشير التسريبات القادمة من ديوان الرئاسة الإسرائيلي إلى أن منح العفو لنتنياهو لن يكون بلا مقابل، وأن هرتسوغ يدرس اشتراط تنحي نتنياهو عن منصبه ولو لفترة زمنية محدودة، ووقف مسار التعديلات القضائية المثيرة للجدل، في حال قرر التجاوب مع طلب العفو.

سيناريوهات محتملة

العفو مقابل اعتزال الحياة السياسية، بحيث يتبع نتنياهو طلب العفو بإعلانه اعتزال الحياة السياسية "لصالح الدولة" مقابل أن يحصل على عفو يمنعه من السجن لكنه يحرمه من العودة للعمل العام. هذا السيناريو، في حال حدوثه، سيحافظ على هيبة القضاء من خلال منع إدانة مكتملة، ويتيح لليكود إعادة تنظيم صفوفه. إلا أنه قد يؤدي إلى انفجار غضب الشارع الإسرائيلي، بالإضافة إلى تدخل المحكمة العليا، وربما لا يقبل اليمين المتطرف برحيل نتنياهو. 

إسرائيل تقف اليوم أمام اختبار تاريخي بين سيادة القانون وحسابات البقاء السياسي، وأن الأزمة الحقيقية ليست فقط هل سيُمنح نتنياهو العفو أم يدخل التاريخ كأول رئيس حكومة يُسجن

وسيناريو استمرار المحاكمة حتى الحكم النهائي وهو الأكثر قانونية، والأقل راحة لنتنياهو، حيث سيؤدي إلى احتمالات الإدانة والسجن، أو البراءة الجزئية، ما يسمح له بتقديم نفسه مظلوما، حيث سيعمق هذا السيناريو الانقسام السياسي، لكنه يحظى بأكبر دعم شعبي من التيار الديمقراطي، وسيناريو عفو جزئي أو مشروط يشبه "حماية من السجن" مع بقاء وصمة الإدانة.

وسيناريو تدخل تشريعي من الائتلاف عبر محاولة سن قانون يمنع محاكمة رئيس حكومة خلال ولايته، حيث جرب نتنياهو هذا المسار سابقا لكنه فشل بسبب المعارضة الشعبية والقضائية. لذلك فإن هذا السيناريو أقل احتمالا، بالإضافة إلى سيناريو "حل وسط"- إدانة دون سجن- وتخفيض الحكم مقابل اعتراف جزئي، كما حدث مع شخصيات إسرائيلية سابقة، إلا أن النيابة الإسرائيلية ترفض هذا الخيار حتى الآن.

إن طلب نتنياهو العفو ليس إجراء قانونيا عاديا، بل هو لحظة كاشفة لطبيعة النظام السياسي في إسرائيل وصدام مؤسساتي واسع يعكس أزمة بنيوية تعيشها الدولة العبرية منذ سنوات، واختبار حقيقي لشعار "لا أحد فوق القانون" ولقدرة المؤسسات على الصمود أمام زعيم يتمتع بشعبية وتأثير وشبكة تحالفات عميقة. وسواء حصل نتنياهو على العفو أم لم يحصل عليه، فإن إسرائيل ستبقى لسنوات تعيش تداعيات هذه اللحظة من خلال تعميق انقساماتها الداخلية، وتعميق أزمة الثقة في القضاء، وتحول في دور رئيس الدولة، بل وربما يتعمق التوتر بين السلطات، بالإضافة إلى تأثيرات انتخابية عميقة، إذ إن ما يحدث في إسرائيل ليس مجرد قصة تتعلق فقط برئيس حكومة فاسد يرى نفسه فوق القانون، بل هو مستقبل الحكم في دولة تواجه تحديات داخلية وخارجية غير مسبوقة، حيث إن الديمقراطيات القوية لا تعفي القادة أثناء وجودهم في السلطة.

ولطالما اعتبر بنيامين نتنياهو نفسه الاستثناء الوحيد في السياسة الإسرائيلية والرجل الذي لا يُسقط، لكنّ المحاكمة التي تلاحقه منذ سنوات، والضغوط السياسية والقضائية المتصاعدة، وعودة الحديث عن "العفو مقابل الاعتزال"، تكشف أن إسرائيل تقف اليوم أمام اختبار تاريخي بين سيادة القانون وحسابات البقاء السياسي، وأن الأزمة الحقيقية ليست فقط هل سيُمنح نتنياهو العفو أم يدخل التاريخ كأول رئيس حكومة يُسجن، بل هل تستطيع إسرائيل الحفاظ على دولة القانون عندما يكون المتهم هو أقوى رجل سياسي فيها؟ هذا هو الامتحان الأخطر الذي تواجهه إسرائيل، والأمر المهم الآخر هو تأثير هذه القضية على انتخابات العام المقبل، فإذا تمت تبرئته، سيقوّي ذلك موقفه انتخابيا، أما إذا لم يُبرَّأ، فسيستغل ذلك لحشد الدعم لروايته بأن "الدولة العميقة" تستهدفه.

font change