أسدان بين عهدين

جرى تشويه سوريا وتحطيمها وإعادة ثقافتها وعلمها وتاريخها سنين عديدة

أ ف ب
أ ف ب
صورة مشوهة للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، تعلو مبنىً أمنياً حكومياً مُدمّراً في دمشق، 8 ديسمبر 2024

أسدان بين عهدين

بدأت أنياب حافظ الأسد تنهش خصميه صلاح جديد ونور الدين الأتاسي بعد أن التهم ميشال عفلق وصلاح الدين البيطار عضوي القيادة القومية في حزب "البعث العربي الاشتراكي".

تبدأ حكايتنا هذه المرة عن أن استلام السلطة في سوريا لم يكن مجرد تسلسل سياسي طبيعي، بل كان نتيجة صراعات داخلية معقدة داخل حزب "البعث" والجيش تخللته مؤتمرات وتوازنات دقيق بين التيارات البعثية والعسكرية والطائفية.

البداية الحقيقية من 1970 عندما أعلن أن انقلابه ضد صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ما هو إلا حركة تصحيحية لا بد منها لإنقاذ سوريا من النهج السياسي المتطرف الذي تزعمه صلاح جديد بعد انقلاب 8 مارس/آذار 1963 بالرغم من أنه في ذلك التاريخ كان حافظ الأسد قائدا لسلاح الطيران وتدرج بسرعة وصولا إلى تعيينه وزيرا للدفاع بعد قيام صلاح جديد بانقلاب داخل حزب "البعث" ضد القيادة القومية التقليدية "وليس من دون دعم حافظ الأسد" وكان ذلك عام 1966.

ويكبيديا
نور الدين الأتاسي (يسار) وصلاح جديد

دب الخلاف بين الأسد وجديد خلال حرب 1967 التي خسر فيها الجيش السوري هضبة الجولان امام إسرائيل، وتعرض النظام في تلك الفتره لهزة عنيفة وجه بعدها صلاح جديد انتقادا عنيفا لحافظ الأسد واتهمه بالتقصير أو الانسحاب غير المبرر.

الأسد النائم، ظاهريا، بدأ بالتكشير عن أنيابه، وبهدوء تدريجي بنى نفوذه داخل الجيش أولا، والأمن ثانيا، من خلال تعيين موالين لهم في مناصب حساسة تمهيدا للانقضاض على فريسته صلاح جديد في اللحظة المناسبة.

فصل الأسد من الخدمة العسكرية كل الضباط الذين اعتقد أنهم قد يكونون منافسين له، وأعاد هيكلة الأجهزة في الجيش والأمن لضمان الولاء الكامل

وانتهز الأسد فرصة الخلاف الحاد الذي نشب بينه وبين صلاح جديد عام 1970 خلال أحداث "أيلول الأسود" في الجارة الأردن، إذ رفض تنفيذ أوامر صلاح جديد المتمثلة في إرسال فرق من الجيش السوري لمساندة ودعم الفصائل الفلسطينية ضد المملكة الأردنية الهاشمية.

وهجم الأسد بشراسة مستخدما رفضة التدخل كذريعة لإظهار "عقلانيته" أمام ضباط وزاره الدفاع السورية والانقضاض على فريسته (جديد) الذي حمل الأسد مسؤولية التمرد.

ونفذ الأسد هجومه الكاسح في الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1970، إذ قاد تحركا عسكريا وقام باعتقال صلاح جديد ونور الدين الأتاسي ووضعهما في السجن وبقيا فيه حتى مماتهما.

لم يكتف الأسد بإزاحة جديد والأتاسي من المشهد السوري وأعلن ما أسماه "الحركة التصحيحية" إنقاذا لسوريا والسوريين من فخ الانحراف والتطرف الذي نصبهما خصماه.

أ ف ب
نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام (الثاني، يسار) محاطًا بقادة سوريين، تحت تمثال الرئيس السوري حافظ الأسد، في 8 مارس 1991، في دمشق، خلال احتفال بذكرى ثورة 8 مارس 1963، عندما تولى حزب البعث السلطة في سوريا

وبدأ الأسد بتثبيت حكمه وتصرف بدهاء ومكر بالغين إذ عقد مؤتمرا قطريا لحزب "البعث" وقام بتشكيل قيادة موالية له ثم إجراء استفتاء في مارس 1971 لتثبيته رئيسا للجمهورية بنسبة بلغت 99 في المئة.

ومنذ ذلك التاريخ بدأ عهد جديد في سوريا، عهد قاد إلى الحكم الفردي والأمني. ولم يكن ذلك صدفة، ذلك أن العارفين بالشأن السوري قالوا في الكواليس إن تحضير الأسد لانقلابه بدأ قبل أشهر طويلة وتمثل تدريجيا باستبدال الضباط غير الموالين له "ليس من دون علم السوفيات ودعمهم له" نظرا لاعتقادهم بأن صلاح جديد غير منضبط ومتطرف راديكالي. وليس صحيحا ما أشيع أن الأسد عندما زار لندن مع مجموعة من الضباط انفصل عنهم لست ساعات واجتمع مع ضباط من "MI6" وحصل على دعم منهم في مشروعة الانقلابي.

على أن لندن واشنطن والقاهرة لم يعارضوا العهد الجديد في بدايته أمام تحفظ سعودي أردني. ما لفت انتباه الجميع إلى أن الانقلاب كان أبيض تماما ولم ترق نقطة دم واحدة، وهذا يعود إلى أن معظم قيادات الجيش كانوا قد أصبحوا تحت نفوذ الأسد.

فصل الأسد من الخدمة العسكرية كل الضباط الذين اعتقد أنهم قد يكونون منافسين له، وأعاد هيكلة الأجهزة في الجيش والأمن لضمان الولاء الكامل.

شهدت سوريا منذ عام 1979 ولغاية 1982 عمليات اغتيال واسعة وهجمات مسلحة بلغت ذروتها بمجزرة حماه 1982

وهنا لا بد من العودة إلى دعم موسكو لتحضيرات الانقلاب، فليس سرا أن محمد حسني مبارك وحافظ الأسد خضعا لدورة تدريبية طويلة في سلاح الجو في قاعدة سوفياتية في قيرغيزستان، وتقول المصادر الروسية إنه ليس مستبعدا أن الأسد أقام علاقات وثيقة مع كبار ضباط الجيش السوفياتي تعززت بعد أن تسلم منصب وزير الدفاع، وقد زار موسكو مرارا ونسق معها بشأن التسليح والتدريب.

وعوده إلى مسار الأسد كرئيس نتوقف عند حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 التي خسرها فعليا واقتطعت من خلالها الأراضي السورية في هضبة الجولان لصالح إسرائيل. لكن الآلة الإعلامية الضخمة التي صممها الأسد ركزت عبر الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب على مقولات مفادها أن الرئيس السوري أعاد الهيبة إلى جيشه "المغوار" وثبت سوريا كقوة رئيسة في الصراع العربي-الإسرائيلي، وخرجت إلى الشوارع السورية برمتها الملايين التي هتفت لـ"القائد الشجاع".

أ ف ب
سوريون يسيرون تحت راية تحمل صورة الرئيس السوري حافظ الأسد، في 27 أكتوبر/تشرين الأول 1973 في شوارع دمشق خلال "حرب تشرين"

عام 1974 بدأت مفاوضات فك الاشتباك مع إسرائيل برعاية أميركية، وبموجبها انسحبت إسرائيل من القنيطرة ما زاد من قناعة غالبية الشعب بأن قائدهم "المفدى" استطاع تحريرها من إسرائيل.

وفي هذه الفتره بالذات بدأ الأسد بناء الدولة الأمنية والاقتصادية بحيث يكون عمادها الرئيس الجيش والأجهزة الأمنية لضمان السيطرة ناهيك عن أنه ثبت فكرة حزب "البعث" كحزب قائد للدولة والمجتمع في دستور عام 1973. كما ساعد في إنشاء شبكة من المؤسسات الرسمية والنقابات الموالية له، وشهدت سوريا في تلك الفترة انتعاشا اقتصاديا نسبيا بفضل المساعدات المالية التي قدمتها دول الخليج بعد حرب 1973. وفي هذه الفتره أيضا، بدأ الأسد صدامه مع "منظمة التحرير الفلسطينية" ناهيك عن توتير العلاقات مع خصمه اللدود "البعث العراقي" المنافس له.

لم أستطع أو لم نستطع كشباب في تلك الفترة أن ننتقد دخول القوات السورية إلى لبنان، والممارسات السيئة داخله بحق اللبنانيين وصولا إلى "اتفاق الطائف" الذي أتاح للأسد أن يكون الحاكم الفعلي للبنان. واستطاع حافظ الأسد كمّ أفواه الجميع إلى أن أتت اللحظة التي انطلق فيها حزب "الإخوان المسلمين" ضد الأسد وسياسته وشاركته في ذلك "رابطة العمل الشيوعي" التي اتهمت الأسد بالاستبداد والطائفية (بالرغم من أن معظم أعضائها من أبناء الطائفة العلوية).

وشهدت سوريا منذ عام 1979 ولغاية 1982 عمليات اغتيال واسعة وهجمات مسلحة بلغت ذروتها بمجزرة حماه 1982 عند سحق النظام التمرد بالقوه المفرطة وأسفرت المجزرة عن سقوط عشرات الآلاف من القتلى وتدمير أحياء رئيسة بأكملها ناهيك عن الاستيلاء على كميات هائلة من الذهب والفضة والألماس، إذ استولى عليها من سوق الذهب كبار ضباط رفعت الأسد الذي قام بالمجزرة بأوامر من أخيه حافظ. وقبل أن يأمر بتنفيذ المجزرة أقدم الرئيس الأسد على إنشاء الجمعيات التعاونية الاستهلاكية التي باعت المواد الغذائية الأساسية بأسعار رخيصة للغاية بغية ملء البطون وإعلان الولاء له ولحزبه ضد قسم من شعبه في المدينة.

كما قدم تنازلات لكبار التجار في دمشق وحلب وحماة وحمص واللاذقية ومدن أخرى من خلال القانون رقم 10 الذي أتاح لهم إدخال تسهيلات كبيرة على استيراد البضائع المتنوعة، وكان ذلك بهدف كسب تأييدهم، فيما صمت المجتمع الدولي والإقليمي على تلك المجزرة المروعة.

حسب المعلومات طلب الرئيس الأسد من نظيره القذافي تقديم مساعدة مالية لأخيه المتمرد عليه

خرج الأسد من مجزرة حماة منتصرا وقال للدول الإقليمية والغربية إن ما قام به كان بهدف تخليص سوريا والعالم بأجمعة من قوى الإرهاب لكنه غض الطرف عن فساد كبار الضباط والمسؤولين بالمؤسسات الكبيرة في الدولة لكي يستمروا في الولاء له، وفي تلك الفترة امتلأت السجون بسجناء الرأي من اليساريين بتنوع اتجاهاتهم وحتى الإسلاميين كذلك.

بنهاية عام 1983 أعلن بين أوساط رفيعة المناصب وقليلة عدديا أن الأسد أصيب بمرض خطير في القلب غاب على أثره عن المشهد العام لعدة أشهر. وهنا بدأ دور جديد لأخيه رفعت الأسد بعد أن قدم له المساعدة في مجزرة حماة وفكر أن الفرصة بعد الإعلان الضيق عن مرض الأخ الأكبر مواتية لتقاسم السلطة.

حشد رفعت الأسد "قوات سرايا الدفاع" الموالية له بالمطلق في دمشق وبدأ يتصرف وكأنه الوريث الطبيعي أو الحاكم المؤقت بسوريا، وترافق ذلك مع محاولة كسب دعم بعض القوات في الجيش والقيادات الأمنية.

أرسل السوفيات كبار الأطباء والمختصين لمعالجة أمراض القلب وكرسوا جهدهم بشكل كثيف لإنقاذه من هذه المحنة التي تعرض لها.

تعافى الأسد الأكبر وتحسنت صحتة وعاد إلى الحكم فوجد أن الأسد الأصغر بنى مراكز قوى مناوئة له، وفعلا تحركت "قوات سرايا الدفاع" وانتشرت الدبابات في شوارع دمشق عام 1984 في مواجهة قوات الوحدات الخاصة والحرس الجمهوري الموالية للأسد الأكبر.

كنت شاهدا على تلك الفترة التي كان من الممكن أن تدفع البلاد إلى حافة حرب داخلية، إلا أن تحرك موسكو السريع وتدخل والدة الأسدين ومجموعات من الضباط ساهم في الوصول إلى حل.

في بداية عام 2000 قال لي ميخائيل بوغدانوف إنه كلف من قبل السفارة الروسية بدمشق بمواصلة البحث مع الأسدين عن مخرج، وفعلا أقنع- حسب كلامه- رفعت الأسد وكبار الضباط الموالين له بالسفر إلى موسكو حقنا للدماء على أمل مواصلة حل المشكلة مع الأسد الأكبر لاحقا.

وحسب المعلومات طلب الرئيس الأسد من نظيره القذافي تقديم مساعدة مالية لأخيه المتمرد عليه (ولم يعرف حتى الآن كم أرسل العقيد القذافي من الدولارات التي حملت في الطائره التي أقلت رفعت الأسد ورفاقه من الضباط الموالين له إلى موسكو برفقه بوغدانوف الذي شغل في تلك الفترة منصب المستشار الأول للسفارة الروسية بدمشق).

وعلى الفور بدأ حافظ الأسد إغلاق "جمعية الإمام المرتضى" في أغلبية المدن السورية، هذه الجمعية التي أسسها فعليا رفعت الأسد ووضع أخيه جميل مديرا لها، وكانت أول جمعية في سوريا عملت بشكل طائفي وحاولت الحصول على تأييد المسيحيين والدروز من خلال توزيع 500 ليرة سورية ومسدس لكل عائلة تقبل تأييد "جمعية الإمام المرتضى". أما الضباط الذين ساندوا الرئيس الأسد في نزاعه مع أخيه (علي دوبا وعلي حيدر ومحمد الخولي وآخرين) فقد بدأوا فعليا تقاسم السلطة مع الأسد الأكبر الذي ضعف نسبيا جراء مرضه وجراء طعن رفعت الأسد له معنويا فزاد الفساد والمحسوبيات في تلك الفترة ومرت سوريا بأزمة اقتصادية خانقة من 1984 ولغاية 1990.

استنفرت أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والعسكرية لضمان انتقال السلطة إلى الأسد الصغير. وبدأت الحكاية بعقد جلسة استثنائية لمجلس الشعب السوري بغية تعديل الدستور

شعر حافظ الأسد بعد خلاصه من شبح أخيه رفعت بالراحة واستمر في ترسيخ سلطته عبر حزب "البعث" الحاكم والأجهزة الأمنية في ظل غياب أو تغييب أي معارضة سياسية فعالة لنظام حكمه، وكانت سوريا تدار بشكل هرمي صارم.

لكن الأسد الأكبر بدأ بالولوج إلى مرحلة الشيخوخة وعدم العناد مع الغرب وواشنطن وشارك في قوات التحالف الدولي ضد العراق الذي غزا الكويت وحصل الأسد جراء ذلك على مساعدات مالية ضخمة خففت من غلواء الحياة الصعبة في سوريا في تلك الفترة الحساسة من تاريخ البلاد، إذ استمرت سياسة التضييق على المعارضين السياسيين خصوصا من جماعة "الإخوان المسلمين" والتيارات اليسارية والقومية الأخرى.

إلا أن انهيار الاتحاد السوفياتي الحليف الأكبر لسوريا وللأسد أدى إلى تراجع كبير في الدعم الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي. وشهدت سوريا في تلك الفترة انفتاحا خجولا لتنشيط أسواقها ناهيك عن موارد النفط التي ذهبت عوائدها إلى القصر الجمهوري حصريا، وقد سأل أحد النواب البعثيين في إحدى جلسات مجلس الشعب السوري: "لماذا لا تدرج عائدات النفط في الميزانية العامة للدولة؟"، فساد صمت مريع، ولا يعرف إلى الآن مصير ذاك النائب.

أيضا، اللافت في تلك الفترة دخول سوريا في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل في إطار مؤتمر مدريد للسلام لكنها انتهت أواخر التسعينات من القرن الماضي دون نتيجة بسبب الخلاف على الجولان.

ونظرا لتدهور صحته من جديد، طرح حافظ الأسد فكرة التوريث واختار ابنه باسل الأسد ليخلفه في الحكم أمام صمت تام من جميع المسؤولين، لكن وفاته المفاجئة في حادث سيارة (قيل إنه مدبر لكن دون إثبات) غيّر المسار وفتح المجال أمام بشار الأسد ليكون خليفة أبية حافظ الأسد الذي توفي في يونيو/حزيران 2000 وليسدل الستار على عهد حافظ الأسد الذي لقب بالمشرف الأعلى على مملكة الخوف والصمت خشية الوقوع في قبضة الأجهزة الأمنية والزج بأي شخص في السجن لمدة قد تكون مؤبدة.

شخصيا حصدت من نظام حافظ الأسد برقية من إدارة الأمن السياسي بدمشق تتضمن منعي من العمل في جميع دوائر الدولة للضرورة الأمنية عام 1993، وكانت تلك إشارة إلى أنني أصبحت في دائرة الخطر، الأمر الذي دفعني لمغادرة دمشق باتجاه موسكو ولم أعد إلى سوريا إلا بعد وفاة صاحب أكبر مزرعة أسدية في بلدنا.

بالمناسبة، حتى يومنا هذا، لم يستطيع أحد معرفة بواطن تلك الضرورة الأمنية.

عهد أسدي جديد

قبل الحديث عن حيثيات وصول بشار الأسد إلى سدة الرئاسة لا بد من الإشارة إلى أنه عاد من لندن- حيث كان يدرس الطب- إلى دمشق بعد وفاة أخيه باسل الأسد.

التحق الأسد الصغير بالجيش وحصل سريعا على رتب عالية ناهيك عند تسلمه ملف لبنان، وعلى الفور بدأت الآلة الإعلامية الأسدية برسم صورة له تعكس رغبته في إصلاح الأوضاع الداخلية في سوريا، وفتحت له كافة الأبواب على مصراعيها.

في العاشر من يوليو/تموز موعد وفاة الأسد الكبير، دخل مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري إلى غرفة بشار وأيقظه وقال له: "عمو، استيقظ، لقد توفي والدك رحمة الله عليه، وكلفني بمهمة ترتيب إيصالك إلى سدة الرئاسة". وقيل لي هذا الكلام نقلا عن أحد كبار الضباط الذين عملوا في تلك الفترة في القصر الجمهوري.

استنفرت أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والعسكرية لضمان انتقال السلطة إلى الأسد الصغير. وبدأت الحكاية بعقد جلسة استثنائية لمجلس الشعب السوري بغية تعديل الدستور باتجاه تخفيض الحد الأدنى لسن رئيس الجمهورية من أربعين إلى 34 وهو عمر بشار في تلك الفترة.

الجميع بصم وأعلن الولاء باستثناء عضو البرلمان من حمص- وهو بالمناسبه بعثي- الذي قال للجميع "دعونا نستغرق في النقاش حول هذه القضية، لا يجب أن يتخذ القرار بهذه السرعة" (تعديل المادة الدستورية استغرق ربع ساعة). طبعا لا يعرف إلى الآن ما الذي حدث لذاك النائب.

في بداية عهد بشار، استبشر الناس خيرا، خاصة بعد الدور الذي لعبته الآلة الإعلامية الأسدية من خلال تصويره بأنه شاب متعلم وسوف يقوم بإصلاحات جذرية ستنقل سوريا إلى مصاف الدول الكبرى

كان بشار الأسد المرشح الوحيد من قبل القيادة القطرية التي حددت العاشر من يوليو 2000 موعدا لاستفتاء عام (شكلي) أعلن في نهاية هذا التاريخ فوز الأسد الصغير بنسبة تقارب 97 في المئة من الأصوات وفقا للنتائج الرسمية بينما بدأت الأجهزة الأمنية البحث الدقيق لمعرفة أسماء الثلاثة في المئة الذين لم يصوتوا لصالح الأسد الابن.

بهذه البساطة أصبح رئيسا للجمهورية بدءا من 17 يوليو 2000 واستمر في الرئاسة إلى لحظة هروبة من مطار حميميم باتجاه موسكو، فاز خلالها بانتخابات عام 2007 و2014 و2021.

وكانت تلك الانتخابات عبارة عن مسرحية شكلية إذ تم استحداث استفتاء جرى بموجبه سؤال المواطن السوري "هل توافق أم لا؟" وكانت النتيجة الرسمية المعلنة عام 2007 نحو 79.6 في المئة.

وفي 2014 تطورت "الديمقراطية السورية" حيث أعلن عن مشاركة أكثر من مرشح في الانتخابات الرئاسية، ولم تشارك مناطق المعارضة في التصويت، وأعلن رسميا عن فوز الأسد بنسبه 88.7 في المئة من الأصوات.

أ ف ب
صورة مشوهة للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، تعلو مبنىً أمنياً حكومياً مُدمّراً في دمشق، 8 ديسمبر 2024

وفي 26 مايو/أيار 2021 ومع استمرار الحرب والأزمة الاقتصادية فاز بشار الأسد بنسبه 95.1 في المئة من الأصوات. وهنا تيقنت أغلبية سكان سوريا أن بشار الأسد حوّلها من مزرعة في عهد والده إلى زريبة في عهده.

في بداية عهده استبشر الناس خيرا خاصة بعد الدور الذي لعبته الآلة الإعلامية الأسدية من خلال تصويره بأنه شاب متعلم وسوف يقوم بإصلاحات جذرية ستنقل سوريا إلى مصاف الدول الكبرى.

في تلك الفترة أعلن عن إطلاق حركة "ربيع دمشق" التي طالبت بالحريات السياسية والإصلاح السريع فما كان من النظام بأمر من "الشاب الواعد" إلا أن منعها وأغلق كافة المنتديات وتم اعتقال الكثير من الناشطين بحجة "تهديدهم للأمن القومي والاستقرار".

تسلل اليأس إلى الشارع السوري تدريجيا نتيجة عدم إقدام السلطة على أي تغيير يذكر في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

وزاد الطين بلة الإعلان عن اغتيال رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني عام 2005 ووجهت بالطبع أصابع الاتهام إلى النظام السوري، وكان لافتا ومذلا الأسلوب الذي خرجت به القوات السورية من لبنان بعد 29 سنة من وجودها هناك.

قام بشار الأسد بزيارة إلى موسكو وكانت المرة الأولى له بعد تسلمه منصب الرئيس وزار قبلها عواصم غربية عديدة، إلا أنه- نتيجة لسلوكه السياسي في المجالين الخارجي والداخلي- فرضت عليه العزلة الدولية، فلم يكن أمامه إلا موسكو وطهران وبيروت (حزب الله).

عام 2007 التقيت بدمشق يفجيني بريماكوف الروسي (رئيس وزراء ووزير خارجية ومدير الاستخبارات الخارجية السابق) في فندق الفورسيزون وسط العاصمة دمشق، وقلت له: "إن الحرس القديم في السلطة لا يزال يحاصر بشار الأسد ولا يترك له مجالا للبدء بالإصلاحات التي وعد شعبه بها". ابتسم بريماكوف وقال لي: "أكرم. تذكر كلامي عندما يقول المجتمع إنه أشرس من أبيه. حاليا يتمسكن إلى أن يتمكن". وأضاف بريماكوف: "لدي لقاء معه غدا في القصر الرئاسي هاتفني بعد عودتي إلى موسكو وسأتحدث لك عن انطباعاتي".

بعد أسبوع اتصلت به، فقال: "كما قلت لك لا تتوقعون منه سوى الشراسة في التعامل مع الحرس القديم ومع شعبه".

تحالف الأسد مع ابن خاله رامي مخلوف وبدأ عملية نهب ممنهجة، والعائد الرئيس كان لعائلتي الأسد ومخلوف، وحصل بعض تجار دمشق وحلب وحمص على الفتات

في تلك الفترة، كنت أعمل في قناة "الحرة" وقد كان مركز عملي في بيروت، وقالت لي الإدارة: "حاول أن تحصل على اعتماد صحافي بدمشق للعمل من خلاله إلى جانب عملك ببيروت". طلبت لقاء السيدة بثينة شعبان وحدثتها عن رغبتي ورغبة إدارة قناة "الحرة" للعمل في دمشق والقيام بتغطيات إعلامية.

باقتضاب أجابتني: "سأطرح الموضوع مع الجهات المسؤولة، اتصل بي بعد أسبوع وهذا رقم هاتف الجوال الخاص بي".

هاتفتها بعد أسبوع لمعرفة الإجابة، فقالت: "بصراحة لا يوجد (حماس)"، وهنا قاطعتها وقلت: "دكتورة بثينة، (حماس) عندكم تصول وتجول". ضحكت وقالت: "الجواب سلبي ملفك شائك ومعقد".

لم أستغرب كلام بثينة شعبان، فهذا النظام إن كان في عهد الأب أم الابن إقصائي، ولا يمكن أن يقبل إلا بالمشاركة الشكلية في الحكم من قبل قوى صنعها بنفسه وأعطاها تسمية مختلفة.

التحول الملحوظ منذ بداية عهد الأسد الابن تمثل في زواجه من أسماء الأخرس السنية الحمصية وذلك بهدف القول للعامة إنه ليس طائفيا.

تحالف الأسد مع ابن خاله رامي مخلوف وبدأ عملية نهب ممنهجة، والعائد الرئيس كان لعائلتي الأسد ومخلوف، وحصل بعض تجار دمشق وحلب وحمص على الفتات، ودخلت سوريا في نفق مظلم جوهره الركود الاقتصادي والعزلة الإقليمية والدولية.

سلم أقاربه من آل مخلوف مناصب حساسة في الأجهزة الأمنية والعسكرية والحرس الجمهوري.

في زياره قمت بها إلى مكتب الأبحاث الاستراتيجية التابع لأمن الدولة بدمشق والذي ترأسه الدكتور رزق إلياس الذي كان شكليا مع النظام لكنه ضد أساليبه وتعامله مع كثير من الملفات ضمنا. أوجز لي رؤيته لما يحدث في سوريا وما يمكن أن يحدث، وقال: "لدينا ملفات عديدة قمنا برفعها إلى الرئاسة مع توصيات بخصوص كيفية حل الأزمة الاقتصادية وفك العزل عن سوريا". وهنا سألته: "ماذا كان الجواب؟". ضحك رزق إلياس وقال بصوت هامس في مكتبه: "إنه لا يقرأ".

وأدركت في حينه أنه لو قرأ لكان جنب نفسه وشعبه الكارثة الإنسانية التي أحاطت بسوريا، لا بل ذهب إلى أبعد من ذلك وأبعد من والده، وقرر بعد أوامر من والدته أنيسة مخلوف البطش والتصفية لكل من تسول له نفسه رفع صوته ضده وضد عائلتي الأسد ومخلوف.

في مقابل ذلك خرجت أول مظاهرة في حي الحريقة بدمشق في 15 مارس 2011 وكانت إيذانا ببدء المواجهة مع الأسد الابن ونظامه وطالبت بالحرية الشعار الذي كان ممنوعا في سوريا.

وهنا تذكرت لقاء بميخائيل بوغدانوف سفير روسيا في القاهرة آنذاك وقلت له خلال اللقاء: "أنقذوا سوريا يا ميخائيل". فرد علي: "ما الذي يجري هناك لكي ننقذها؟". فأجبته أن "رياح الربيع العربي بعد تونس والقاهرة وصنعاء وليبيا اتجهت إلى سوريا". أجابني: "ثق تماما لن يحدث شيء في سوريا، الوضع تحت السيطرة. ثم لنفترض صحة أقوالك، ما الذي يمكننا فعله؟". فقلت له: "كافة ضباط الجيش والأمن درسوا في معاهد روسيا العسكرية".

ابتسم بوغدانوف بخبث، وقال: "لا لن نساعد في الانقلاب ضد بشار الأسد". قاطعته، وقلت: "فعلتم ذلك سابقا في أفغانستان وجورجيا وآسيا الوسطى".

قسمت سوريا إلى مناطق خاضعة للنظام ومناطق للمعارضة، واستطاع الدعم الروسي والإيراني مد حياة الأسد ونظامه إلى نهاية 2024

أنهى بوغدانوف الحديث بسرعة قائلا: "ستثبت لك الأيام صحة موقفنا".

على قاعدة الفساد الإداري الضخم وتدهور الأوضاع الاقتصادية وعلى قاعدة التأثر بما جرى في تونس ومصر، كتب بعض الأطفال في مدينة درعا على جدران مدرستهم (الشعب يريد إسقاط النظام)، فجن جنون عاطف نجيب ابن خالة بشار الأسد، وأمر بتعذيبهم أشد تعذيب في السجن.

في 18 مارس/آذار 2011 خرجت في درعا مظاهرة سلمية نادت بإطلاق سراح الأطفال والقضاء على الفساد واحترام كرامة الناس، فما كان من قوات الأمن والجيش إلا إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، فأدى إلى سقوط قتلى ومن بينهم الطفل حمزة الخطيب ليصبح لاحقا رمزا للثورة ضد نظام وصف بالوحشي.

أ ف ب
صورة مشوهة للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، تعلو مبنىً أمنياً حكومياً مُدمّراً في دمشق، 8 ديسمبر 2024

استنفر الجيش والأمن وأمر الأسد بإرسال قواته إلى درعا وفرض عليها حصارا شديدا، ثم بدأت الحملة العسكرية وتم اقتحام المدينة تحت شعار "عملية استعادة الأمن"، وتحولت انتفاضة درعا إلى انتفاضة شاملة، وبدأت الحرب وكاد النظام لولا تدخل روسيا وإيران اللتين أنقذته. ومنذ ذلك الحين ارتكب النظام الأسدي أبشع أنواع الجرائم بحق شعبه ناهيك عن الدمار المخيف الذي تلحظه العين في كثير من المحافظات السورية.

وقسمت سوريا إلى مناطق خاضعة للنظام ومناطق للمعارضة، واستطاع الدعم الروسي والإيراني مد حياة الأسد ونظامه إلى نهاية 2024 حيث اكتشفتا (طهران وموسكو) أن الأسد يتحايل عليها، فلم يمانع بوتين في سقوطه بعد طلب الأتراك والأميركان والقطريين، لكنه طلب طلبا واحدا تمثل في وصول بشار الأسد إلى موسكو، وكنت في حينه هناك وقابلت أحد مساعدي الرئيس الروسي الذي أجابني: "لو بقي بشار الأسد داخل سوريا لفعلوا به أبشع مما تم فعله مع القذافي وكان هذا سيؤثر سلبا على الرئيس بوتين".

هكذا انتهى عهد الأسد الصغير الذي فضل الهرب بدلا من أن يطلق النار على نفسه، وكان من الممكن أن يقال عنه "لديه القليل من الشجاعة" لكن حب المال الذي نقله إلى موسكو تغلب على الشجاعة.

font change

مقالات ذات صلة