أنطولوجيا الظل من أسطورة الكهف إلى مسرح الظل الإسلامي

جماليات العتمة التي شرعت أبواب الخيال الإنساني

مسرح خيال الظل الإسلامي

أنطولوجيا الظل من أسطورة الكهف إلى مسرح الظل الإسلامي

اعتبر الظل في العصور القديمة أكثر من مجرد ظاهرة فيزيائية، بوصفه امتدادا للذات، أي وسيلة رمزية للذاكرة، وجسرا إلى ما وراء الحياة. ففي حضارة مصر الفرعونية، على سبيل التمثيل، كان الفكر المصري يعبر عن الذات من خلال مفاهيم متعددة مثل الكا (Ka)، الذي ينظر إليه بوصفه امتدادا روحيا للجسد بعد الموت.

في هذا المعطى، تظهر الشواهد الأثرية، من نقوش المقابر إلى التماثيل، أن تصوير الظل (šwt) لم يكن يستخدم للحفاظ على شكل الجسد فحسب، وإنما للحفاظ على استمرار الروح في العالم الآخر. هذا الامتداد الظلي يشير إلى أن الظل لم يكن غيابا بحتا، وإنما حضور مكمل -كيان يعانق الغياب ويعيد تأويله عبر الزمن، ويربط بين الحي والمتوفى، بين الحاضر والذاكرة الجماعية.

من هنا، يمكننا أن نرى أن أول وظيفة إستيطيقية وثقافية للظل هي وظيفة أنطولوجية‑رمزية، لتمثيل الذات غير المنتهية، ما بعد الجسد، ما بعد الزمن، ما بين الحياة والموت. هذا التصور يفضي إلى فهم الظل كأداة وجودية أولية، قبل أن يتحول إلى بناء معرفي وفني في مراحل لاحقة. ففي الثقافات الأفريقية التقليدية، يمثل الظل عنصرا أساسيا في الشعائر والطقوس الجماعية. إذ يستخدم في العروض الطقسية وسيطا بين الحاضر والغياب، بين الإنسان والروح، حيث يتحرك الجسد أمام مصدر الضوء لتشكيل ظل يفسر كرسالة أو علامة من العالم الروحي. فهذا الاستخدام للظل يبرز التوتر بين المرئي والمخفي، بين الشكل والرمز، ويمنح المجتمعات قدرة على التعامل مع الغيب في الحياة اليومية، هنا يظهر الظل كعنصر معرفي وثقافي، لا مجرد انعكاس للضوء فحسب، فهو جزء من بنية ثقافية متكاملة تحمل قيم الجماعة وممارساتها الرمزية.

الظل وإنسان الكهف

قد يرجع هذا البعد الروحاني أساسا لعصور إنسان الكهف وهو يشعل أولى قبسات النور داخل المغارة ليلاحظ انعكاس ظله على الجدران، هناك حيث سيعلن عن البداية الأولى للشروع في "العملية الفنية": التعبير بالظل عما يراه أو عن وهم يستبصره. هو ما سيلقي بظلاله على العصور التالية. إذ يتجلى الظل في التاريخ البشري بوصفه موضوعا فلسفيا وثقافيا وفنيا متكاملا، لا مجرد انعكاس للضوء، فهو يمتد من تاريخ الفكر القديم حتى التجارب الفنية المعاصرة. إذ في قلب الفلسفة الغربية، نجد أن أفلاطون وضع الظل في موضع مركزي في مَثَل الكهف، حيث يعيش البشر محاصرين في عالم من الانعكاسات والظلال على الجدار، يعتقدون أنها الحقيقة المطلقة.

وضع أفلاطون الظل في موضع مركزي في مَثَل الكهف، حيث يعيش البشر محاصرين في عالم من الانعكاسات والظلال على الجدار، يعتقدون أنها الحقيقة المطلقة

من هذا المنظور، يصبح الظل تمثيلا للأشياء التي لا تدرك بالكامل، ولأبعاد المعرفة المبتورة، ولحقيقة وهمية مظللة، ولكذبة نعيشها وتخدعنا لتأسرنا، وبهذا نحتاج أمامها للبحث عن الضوء والسعي خلف كينونة الوعي في مواجهتها لغير المرئي. غير أن إعادة قراءة هذا المثل ضمن النظرية الفنية الحديثة، تقترح أن الظلال ليست مجرد وهم، إذ تكاد تصير مرحلة تأسيسية لإدراك العالم البصري والمعرفي، وهي ليست ظلمة أو سوادا مثلما اكتشف الانطباعيون مبكرا قبل العلم الفيزيائي، حيث تنحصر جزيئات مضيئة في تلك الظلال التي تمنح الأجسام حضورها النفسي والمعنوي، وتكشف التوتر بين المظهر والجوهر، بين ما يرى وما يختبئ. إذ يمكن الظل أن يكون وسيلة لتجسيد ما لا يقال، وما لا يفصح عنه الضوء، أو حتى ما يتهرأ من الحقيقة عند محاولة استيعابها بصورة مباشرة.

Shutterstock
الفيلسوف الإغريقي أفلاطون

غير أنه في أسطورة الكهف تلك، يربط الظل بالجهل والمعرفة، حيث يرى البشر على جدار الكهف ظلال الأجسام التي تمر خلفهم، ويعتقدون أن هذه الظلال هي الواقع، بينما ما وراء الجدار -الإضاءة الحقيقية- هو الواقع الكامل. هذه التمثيلية تحول الظلال من ظواهر حسية إلى رموز معرفية: هي ما نراه فقط، وليس ما هو الحقيقي.

Shutterstock
يناير 2019، أثينا: ظل الكاتب الإغريقي مناندروس على مسرح ديونيسوس أسفل الأكروبوليس

بهذا، يصبح الظل مؤشرا الى حدود الإدراك البشري والى مقتضى الفيلسوف أن يتحرك نحو النور الحقيقي، نحو الحقيقة المتجاوزة للانعكاس. ويصير النور، كما تصير الشمس التي تؤشر الى موضع الظل المتولد من غيابها وحضورها، مصدر الخير والحقيقة، بينما الظلمة، كما الليل، رديف للشر والجهل. فهذا التأويل الفلسفي لا يجعل الظل علامة غياب فحسب، وإنما أداة تشخيصية للجهل، فهو جسر بين ما ندركه وحقيقة ما نجهله. وهنا تتبلور وظيفة ثقافية جديدة: الظل كأداة تجل معرفي، كإشارة إلى ما وراء المظاهر، كدعوة لتجاوز السطح.

صمت الضوء

لم تخرج معظم الديانات الشرقية عن هذه الثنائية ظل/نور، والصراع بينهما -إذ لا بد من الخروج من الظلمة -الظل- إلى النور -الضوء- للنجاة والنجاح- وحتى التداخل والتكامل الذي ينشأ عنهما، ومنه تولد العالم ويستمر بفعل ذلك. ففي شرق آسيا (مثل اليابان والصين)، ينخرط الظل في بنية فلسفية وجمالية. وفي الفكر الصيني، مفهوم يين‑يانغ يجسد التوتر والتوازن بين العتمة والضوء، بين الظل والنور، بين الغياب والظهور. الظل هنا ليس نقصا، فهو خلاف ذلك جزء لا ينفصل من الدورة الكونية. بينما في اليابان، ينظر الى الظل على أساس أنه "صمت الضوء"، وأن العتمة تمنح الأشياء هوية من خلال الفراغات والانحناءات التي تتركها الأجسام، فيتحول الظل إلى لغة تأمل، إلى بوابة للميتافيزيقيا الصامتة. هذا التصور يعطي الظل بعدا تأمليا، روحانيا، وجوديا، لا يقل أهمية عن دوره المعرفي.

هذا التأويل الفلسفي لا يجعل الظل علامة غياب فحسب، وإنما أداة تشخيصية للجهل، فهو جسر بين ما ندركه وحقيقة ما نجهله

ومع ظهور الإسلام وانتشار الثقافة الإسلامية، شهد مفهوم التمثيل البصري تحديات فقهية كبرى. فقد كان أمر تصوير الكيانات الحية -خاصة البشر- موضوعا حساسا، لأنه يحتمل عبره أن يقترب الرسم من محاكاة ومضاهاة الخلق الإلهي أو ادعاء الخلق. في هذا المناخ، تطورت أشكال فنية بديلة مكنت من التمثيل دون التجاوز الفقهي. لهذا برزت الرسومات المنمنمة دون ظلال لشخوصها الآدمية، حتى لا تكتسب روحا، إذ كان للآراء الفكرية الإسلامية المتعلقة بالرسم تأثير بالغ على تمثيل الصور عبر تاريخ الفن الإسلامي. ففي المقام الأول، وخاصة في المخطوطات، اتبع الفنان قيما جمالية، مثل تجنب التجسيم وتمثيل الطبيعة، وعدم رسم الظلال، وتجاهل قواعد المنظور أو البعد الثالث، وإهمال النسب التشريحية للأشكال البشرية والحيوانية. من جهة أخرى، تعتبر هذه القيم الفنية للرسم الإسلامي عيوبا إذا ما قيست بالمعايير الجمالية للفن الحديث. ولكن في الوقت نفسه، حولت هذه القيم الرسم الإسلامي إلى ركن أساس في تاريخ الفن.

وينبني أمر التحريم، أو منع رسم الظل الذي طغى على مجمل المنمنمات الإسلامية في مختلف الفترات، على أسس فقهية مستمدة من التأويل لا من النص الصريح (القرآن أو الحديث)، بينما يرجح البعض علة ذلك لحديث أبي هريرة عن أن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون خلق الله، وفي حديث آخر المصورون. ولنفي المضاهاة كان لزاما إلغاء أي صلة بصرية بين المرسومات (الإبداع البشري) والواقع (الخلق الإلهي)، وهو ما تجسد في الظل. حيث عدم وجود الظل في الصور المسطحة يجعلها لا تدخل في حكم المحاكاة المباشرة لخلق الله، والذي هو سبب التحريم الرئيس في الصور المجسمة. بالتالي، فإن سعت الرسومات الإسلامية لمحاكاة الطبيعة فلم تعمل على مقابلة الله في خلقه.

غير أنه من بين البدائل التي وجدت لنفسها مخرجا توظيفيا إستيطيقيا وجماليا للظل في جوهر حضورها الفني، كان مسرح خيال الظل، الذي يلعب فيه الخيال -بوصفه ظلالا وتصورا- دورا محوريا، وذلك من خلال الفن الظلي (الخيالات) المتولد من حركات الدمى خلف الستائر ومن النور الساطع من ورائها.

Shutterstock
جزء من جدار مسجد أثري

 كما تجسد هذا الاستحضار الجمالي للظل من خلال الخط وفنونه والزخارف، ومن خلال هندسة العمارة. ويعود أول ظهور لهذا الجنس المسرحي، إلى العصر الفاطمي، وإن رجح البعض أنه يعود إلى ما قبل ذلك، قادما من أدنى الشرق، خاصة من الصين، بفعل التجارة. غير أن انتقال التقنية عبر التجارة لم يكن العامل الوحيد، فقد أعادت الثقافة الإسلامية بناء الوظيفة السردية للظل وجعلته جزءا من طقس اجتماعي-احتفالي يقيم علاقة تتجاوز المنطق المسرحي التقليدي، وتستثمر الضوء باعتباره عنصرا روحيا يعلن حضورا متحولا، وأن هذا التحول في دلالة الضوء والظل هو ما منح خيال الظل في الإسلام طابعه التخيلي المتفرد الذي لا ينتمي إلى أنظمة المحاكاة ولا يكتفي بالسرد الشعبي، بل يشكل فضاء رمزيا يصوغ رؤية مغايرة للعالم، تنطلق من صفة الظل بوصفه جسدا لا يطابق الجسد، وصوتا يبتعد عن مصدره، وأثرا يحرر المعنى من ثبات الشكل، معتمدا على طاقة الضوء ليعيد تشكيل الحساسية الإسلامية تجاه الصورة، فيخلق فنا ينهض على التفاعل بين الانعكاس الشعري والتقنية، بين الذاكرة والغياب، بين الحكاية والضوء، وصولا إلى اللحظة التي صار فيها خيال الظل مرجعا لإعادة تأويل العلاقة بين الصورة والجسد، ولصوغ تاريخ فني يمتد من القاهرة ودمشق إلى إسطنبول وطرابلس، ومن الفاطميين والأيوبيين إلى المماليك والعثمانيين.

الظل/الخيال: المسرح الإسلامي

في مسرح خيال الظل في العالم الإسلامي لا يعرض الجسد، إنما الظل فقط: "الخيال". هذا التلاعب بالضوء والصورة يمنح التجربة بعدا تخييليا، وتأويليا لا ينبع من المضاهاة، فلا أشكال تحيل على الواقع العيني والطبيعة، إنما مجرد ظلال، سحبت من المنمنمات التي ترسم أجسادا ملونة، لتسقط على قماشات بيضاء لا نور فيها سوى ظلمة تتحرك.

ينبني أمر التحريم، أو منع رسم الظل الذي طغى على مجمل المنمنمات الإسلامية في مختلف الفترات، على أسس فقهية مستمدة من التأويل لا من النص الصريح

 أما المشاهد فيشارك في بناء المعنى، لأنه لا يرى الجسد بل ظله، ويملأ الفراغ بدلالته الخاصة، ويشارك في إنتاج المعنى كرافد روحي وجمالي. فتلك الأجساد الظلية لا تصير حقيقية إلا في المخيلة، فينتقل الخيال (=الظل) الى العين ليتخذ شكلا ذهنيا وصرة متخيلة، منزوعة الروح. وبالتالي يصعب تحريم هذه الممارسة الفنية. فهذا النوع من الفن يحول الغياب (غياب الجسد) إلى حضور معنوي، ويمنح الظل قيمة جمالية وتأويلية تتجاوز كونه مجرد ظلال على الجدار.

في الزخرفة والخط الإسلامي، يرتبط الظل بدقة بالتصميم الهندسي والضوئي. الضوء الذي يسقط على النقوش أو الحروف، يخلق تباينات دقيقة، لكونها مبنية على التناظر والثنائية الدينية نفسها: شر/خير، ظل/نور، جسد/روح... ويولد فراغات مظللة تثير التأمل. والزخارف الإسلامية ليست مجرد تزيين، فهي بنية معرفية، والتفاعل بين الضوء والظل فيها يمنح البنية معنى روحيا وتأمليا في العمارة أيضا. التصميم المكيف للنوافذ، الأقواس والفواصل، يضبط موقف الضوء بحيث تتشكل أنماط ظل دقيقة عبر اليوم والفصول، مما يخلق لحظات تخشع للمتعبد والمتأمل. هذا الاستخدام يبين أن الظل في التراث الإسلامي عمل فني وتفكري، وليس تبريرا بسيطا للتجريد، مثلما جعلتنا بعض التوجهات الغربية نتوهم حول الفن الإسلامي. فإن اتجه هذا الفن صوب المجرد في مناح محددةـ فمن باب التجريد الروحاني والتوحيد الرباني، بينما لم يغب عنه التشخيص مطلقا، مثلما تكشف لنا عن ذلك مخطوطات أدبية (المقامات) وطبية وعلمية، وحتى منحوتات وتصاوير داخل قصور وحمامات.

Shutterstock
موسم الرياض، قصر الدرعية، المملكة العربية السعودية.

بهذا يتبدى الظل في المخيلة الإسلامية مجالا معرفيا وجماليا يتيح انبثاق المعنى من حدود الغياب لا من اكتمال الحضور، إذ يتحول الجسد عندما يتوارى خلف شاشة خيال الظل إلى أثر ضوئي يطلق طاقات التأويل في ذهن المتلقي. في هذا المسرح، لا يعرض الجسد المادي إنما ظله فقط، مما يجعل المشهد تخيليا وروحانيا في آن: الضوء يضفي حركية على السطح، والظل إذن يتحرك وينبض، ويمنح المتلقي، من موقعه كمتأمل، دورا فاعلا في عملية التفسير. فليس ما يراه إلا تموجا، لا صورة ثابتة، مما يدعوه إلى ملء الفراغ بدلالاته الخاصة، وكأن الغياب الفيزيائي للجسد يحول إلى حضور معنوي غني بالرمز.

هذه البنية التفاعلية بين الضوء والظل في مسرح الظل تتردد في الزخارف والخطوط الإسلامية، حيث لا تكون الظلال مجرد نتيجة مجردة، بل مكون أساس من البنية الجمالية. الضوء الذي يسقط على الجص المخرم أو الخشب المحفور أو الأحجار، يخلق فراغات ظلية دقيقة، يرسم فيها الصانع بمنتهى الدقة شبكة من الفراغات والمضامين. كل توريقة أو نمط هندسي -قد يبدو ثابتا- يحيا مع تغيرات الضوء خلال النهار، فيصبح ما يظهر عند الصباح مختلفا عما يظهر عند الغروب، والظل إذن ليس حيادا بل جزء من "النص البصري": مادة تتحول إلى وسيط روحي، سطح يفضي إلى الفراغ، وفراغ يتجاوز الحد الحسي إلى عمق التأمل. فيتخلص بذلك ولو مؤقتا من كونه رديفا للشر، ولكنه غياب وحضور في آن، وبالتالي استدعاء تضميني للخير، فالشخوص ملغاة الإحالة العينية للواقع، لا تتحرك إلا داخل مساحة ضوئية تتيح لها إمكان الوجود، حيث النور هو محرك المسرح الكوني، وما الأشياء إلا حجب للضوء الأكبر.

نور الأنوار

وفي العمارة الإسلامية، يتحول الظل إلى عنصر منظم ينشده المعماري، لا فوضويا. من خلال الأقواس والمشربيات والمقرنصات والنوافذ العالية، يصاغ الضوء الطبيعي بعناية ليكشف عن أنماط من الظلال، وكأن الجدران تتحول في مرآة نصية تتبدل مع مرور الزمن. هذه العلاقة البنيوية بين الكتلة والفراغ، تستند إلى مخيال ديني نصي يرفع قيمة النور الروحي (نور الأنوار، نور على نور) فوق الضوء المادي بكل تجلياته، وهو تصور يندرج بشكل من الأشكال في الفلسفة السهروردية، فلسفة شهاب الدين السهروردي مؤسس حكمة الإشراق، الذي جعل النور المبدأ الأول للوجود ورفيقه الأبدي.

يتبدى الظل في المخيلة الإسلامية مجالا معرفيا وجماليا يتيح انبثاق المعنى من حدود الغياب لا من اكتمال الحضور

يبني السهروردي في فلسفته تسلسلا لأنوار مستويات الوجود: من "نور الأنوار" الإلهي، يفيض نور إبداعي أول، ومن هذا الإشعاع تتولد قواهر عالية، ثم أنوار عرضية تدير عوالم الحواس، بينما يبرز عالم البرزخ جسرا بين العوالم الروحية والمادية. والظل، في هذا التصور، ليس مجرد غياب للضوء، فهو حد للوجود، تقييد يعبر عن نقص في مشاركة النور. لذلك اعتبره السهروردي كيانا، واقتصر تصنيفه على وجود أقل إشراقا، تعبر عنه مصطلحات الفقر والنقص.

من هذا الفهم يتخذ الظل في الفلسفة الإسلامية بعدا ميتافيزيقيا، فهو ليس عدو النور بل حده، وليس هو العدم الكامل وإنما عتبة وجود، حدود لامتلاء النور. وهنا تتقاطع فلسفة السهروردي في بعد معين مع فن الظل الإسلامي. فكما في الإشراق الفلسفي، يشير الظل إلى مستوى من الوجود، محدود في إشراقه، فكذلك في المسرح، الظل يمثل وجودا غير ملموس، لكنه علامة بصرية على حضور أعمق. في كلتا الحالتين، الظل يعمل كجسر بين الأعلى (النور الإلهي أو المصدر الضوئي) والأدنى (العالم المادي أو المشهد المسرحي): هو أداء وجودي يفضي إلى تأمل، وليس غيابا فارغا. فلا غياب في المعتقد الإسلامي، فالله موجود أينما نولي وجوهنا، وهو ملء الكون "الفائض عن اللزوم" بتعبير ابن عربي.

ثم إن هذه الفلسفة الإشراقية -كما طرحها السهروردي- تفرض شروطا للتواصل البصري أو الروحي مع النور، الذي لا تدرك الأبصار كامل الإدراك، فالعارف (أو المتلقي) يجب أن يكون مستقيما في سعيه (مستنيرا) وأن تنقشع الحجب (الحجاب)، أي غياب ما يمنع الإبصار. هذا شرط تشبهه تجربة مسرح الظل، حيث الحجاب (الشاشة أو القماش) يجعل الجسد غير مرئي، فيصبح ما يرى ليس جسما ماديا بل ظل مبني بدقة الضوء، وفيه تذوب الحدود بين الفاني والمتحول، بين الملموس والروحي.

Shutterstock
البوابة التاريخية لقصبة الأوداية في الرباط، المغرب، من القرن الثاني عشر، تصوير 21 سبتمبر 2025

يمتد حضور الظل داخل العمارة الإسلامية كامتداد فكري لفلسفة النور في القرآن ومتون المتصوفة وممارسات البنائين. في فضاءات المساجد الكبرى مثل جامع قرطبة أو مسجد السلطان حسن في القاهرة، يمتلك الضوء وظيفة توليد الظلال المتحولة، فيصبح المكان آلة هندسية لكتابة الزمن بالنور. النوافذ المعشقة، المشربيات التي تسمح بمرور الضوء لتنير وتدفئ عبر المساحات المجوفة في قلب الظلال داخل المنزل، والأقواس ذات الانحناءات المركبة، والمقرنصات المتوالدة طبقة بعد طبقة، كلها عناصر تهندس دخول الضوء بحيث ينساب في طبقات، ثم يرتد منتجا ظلالا تخلق فضاء بصريا تتغير معانيه تبعا لحركة الشمس. هذه الظلال التي تتكون فوق المحاريب والأعمدة والأروقة، ليست فراغا، إنها كتابة روحية تعلن حضورا غير مرئي في قلب المهواة الحجرية، يتخذ شكلا من الحجاب النوري، حيث يصير الظل معنى، والصمت نورا خفيا، فيكاد يصير الظل هنا رديفا للخلوة والتخشع.

يتخذ الظل في الفلسفة الإسلامية بعدا ميتافيزيقيا، فهو ليس عدو النور بل حده، وليس هو العدم الكامل وإنما عتبة وجود، حدود لامتلاء النور

تنفتح هذه التجربة الهندسية على بعد تأويلي يستمد جوهره من الفكر الصوفي، حيث يجري النظر إلى النور بوصفه مبدأ وجوديا. ففي كتابات السهروردي عن "حكمة الإشراق"، تقدم الأنوار باعتبارها درجات وجود، وكل ظل هو أثر من آثار تلك المراتب. الظل هنا حركة من النور نحو التخفي، مرحلة من مسار الوجود، حيث يتولد العالم من لعبة الكشف والحجاب. هذا التصور لا يجعل من الظل نقيض النور، بل أثره، صدى وجوديا يتيح للعين رؤية الحدود، ويتيح للعقل إدراك تداخل العالمين: عالم الحس وعالم المثال. وهكذا لا يعود الظل في المعمار الإسلامي علامة فقر في الإضاءة، بل ثراء في التجربة الروحية، لأن الظل يمنح المكان بعدا تأمليا يفتح الوعي على أكثر من مستوى.

نظرية الظل

من هنا يتحول الظل من كونه ظاهرة فيزيائية إلى كونه بنية معرفية، ليرتفع إلى كونه جهازا جماليا يبدع المعنى عبر تأخير النور، عبر منح الضوء زمنا إضافيا ليخلق صورته عبر وسيط. هذه النظرية تتأسس على أربعة مبادئ مترابطة:

أولا: الظل أثر وجودي يكشف حدود الأشياء ويمنحها هوية غير مكتملة، فتتحول الهوية إلى مسار لا إلى جواهر صلبة.

ثانيا: الظل حامل معرفي ينتج فعل التفكير، لأنه يكشف الفاصل بين المرئي وما وراء المرئي، ويتيح إنتاج المعنى من فجوات الإدراك.

ثالثا: الظل وسيط فني يتيح للصورة أن تتجاوز المضاهاة فينتقل الفن من المحاكاة إلى التخييل.

رابعا: الظل بنية روحية في التراث الإسلامي، لأنه أثر للنور الذي ينظر إليه بوصفه مبدأ كونيا وروحانيا، مما يجعله لغة من لغات الكشف والحجب.

مسرح خيال الظل الإسلامي

عند هذه النقطة يتكون الأساس النظري الذي يسمح بالنسبة إلينا بربط العمارة، والمنمنمات، والمسرح، والتصورات الفلسفية داخل منظومة واحدة. حيث أن الظل ليس مكونا جزئيا ضمن هذه الفنون، فهو الرابط البنيوي بينها، لأن وظيفته في كل منها تتعلق بمسألة الوجود والغياب، ومسألة التمثيل وحدوده، ومسألة الضوء ودوره في تشكيل الوعي.

الظل بنية روحية في التراث الإسلامي، لأنه أثر للنور الذي ينظر إليه بوصفه مبدأ كونيا وروحانيا، مما يجعله لغة من لغات الكشف والحجب

في هذا المعنى، يتحول الظل من كونه عنصرا بصريا إلى كونه مفهوما مركزيا في جوهر الإستيطقيا الإسلامية الواسعة. وهي إستيطيقا تنطلق من أن النور يخلق العالم، وأن الظل يكتبه، وأن الفنون ليست سوى تحويلات لهذه الثنائية الكبرى التي تنتقل من الكهف الأفلاطوني إلى قصور بغداد ودمشق والأندلس، ثم إلى شاشات المسرح، ثم إلى وعي المتفرج الذي يجد نفسه أمام صورة تتكون من أثر، لا من حضور مباشر. صورة تتيح له أن يرى الحقيقة عبر مجازها، وأن يقترب من النور عبر ظله، وأن يدرك أن الفن ليس مرآة للعالم، إذ هو وسيلة لإعادة خلقه.

font change