معضلة السودان... انتصار الجيش أم هزيمة السياسة؟

من سيحمي الانتقال السياسي؟ من سيضمن أن لا يتحول الانتصار إلى احتكار جديد للسلطة؟

أ.ف.ب
أ.ف.ب
متظاهرون سودانيون يلوحون بالأعلام ويرفعون علامات النصر أثناء احتجاجهم أمام مقر الجيش في العاصمة الخرطوم، في 17 أبريل 2019

معضلة السودان... انتصار الجيش أم هزيمة السياسة؟

بعد ثلاث سنوات من الحرب المدمرة بين الجيش السوداني و"قوات الدعم السريع"، تواجه السودان معضلة سياسية عميقة: كيف نمنع أن يتحول انتصار السلاح إلى هزيمة السياسة؟ فمع تصاعد أصوات ورغبات الحسم العسكري من الطرفين، يصبح السؤال الأكثر إلحاحا: هل هناك مستقبل لدولة مدنية قائمة على سيادة القانون، أم إن المناخ القادم سيفتح الباب لإعادة إنتاج منظومة استبدادية جديدة؟

والأخطر أن الإسلاميين، الذين فقدوا السلطة عام 2019، وجدوا في الحرب فرصة لإعادة تنظيم صفوفهم تحت شعار "حماية القوات المسلحة" و"المعركة الوجودية". دعمهم للجيش- الذي قد يبدو "وطنيا" ظاهريا- يحمل خطر إعادة تموضعهم في قلب القرار السياسي والأمني. وإذا لم تُوضع ضوابط واضحة تمنع عودتهم إلى بنية الدولة، فإن السودان قد يجد نفسه في مواجهة "الإنقاذ 2.0" بشعارات محدّثة وأدوات أكثر مرونة.

ولا تنتقل المجتمعات من الاستبداد إلى الديمقراطية أوتوماتيكيا. الانتقال الحقيقي هو من نظام سلطوي واضح المعالم نحو "شيء آخر" غير مؤكد- قد يكون ديمقراطية وليدة، أو فوضى مستدامة، أو استبدادا جديدا بوجه مختلف. هذا التحدي ليس استثناء سودانيا. فكما أشار المؤرخ السياسي صمويل فاينر في كتابه الكلاسيكي "الرجل على ظهر الحصان: دور الجيش في السياسة"، فإن النشاط السياسي المستقل للجيوش ظاهرة متكررة وواسعة الانتشار ومتجذرة تاريخيا. ما حذّر منه فاينر هو أن انتصار الجيوش في لحظات الفوضى كثيرا ما يؤدي إلى ابتلاع المجال المدني وتحويل الدولة إلى بنية أمنية مغلقة تُدار بعقلية الطوارئ.

السودان قد يجد نفسه أمام نظام عسكري-إسلامي هجين: جيش يسيطر على السياسة والأمن، وإسلاميون يعودون تدريجيا إلى مفاصل الدولة تحت شعارات "الهوية"، و"حماية المجتمع من الفوضى"

مصر تقدم المثال الأقرب جغرافيا وثقافيا للسودان حول ما يحدث عندما ينتصر الجيش ويُفضّل المجتمع الدولي الاستقرار الأمني على المخاطرة بالانتقال الديمقراطي. في 3 يوليو/تموز 2013، تدخل الجيش المصري لإنهاء أزمة سياسية حادة. الخيار كان واضحا: إما الفوضى المحتملة لعملية ديمقراطية غير مضمونة، وإما الاستقرار الذي يوفره الجيش. اختارت مصر-بدعم إقليمي ودولي واسع- الاستقرار.

هذا بالضبط هو السيناريو الذي يواجه السودان. بعد ثلاث سنوات من حرب مدمرة، سيكون إغراء "الاستقرار" قويا جدا- للسودانيين المنهكين وللمجتمع الدولي القلق من الفوضى الإقليمية. لكن السيناريو السوداني أخطر من المصري. فمصر أقصت "الإخوان المسلمين" تماما، بينما في السودان، الإسلاميون لم يُهزموا تنظيميا وما زالوا يملكون شبكات نفوذ داخل الجيش والمجتمع.

السودان قد يجد نفسه أمام نظام عسكري-إسلامي هجين: جيش يسيطر على السياسة والأمن، وإسلاميون يعودون تدريجيا إلى مفاصل الدولة تحت شعارات "الهوية"، و"حماية المجتمع من الفوضى". هذا النظام سيبدو مستقرا في البداية، لكنه سيكون أكثر هشاشة من نظام البشير، لأنه سيفتقر إلى أي شرعية حقيقية ويعتمد كليا على القمع. الانقسامات الجهوية والعرقية التي عمّقتها الحرب ستبقى كألغام موقوتة تحت سطح "الاستقرار" الظاهري، مما يجعل السودان عرضة لانفجار أعنف في المستقبل.

دروس من التجارب الدولية

لكن التجربة المصرية ليست الوحيدة التي تقدم دروسا للسودان. الانتصار العسكري قد ينهي الحرب، لكنه لا يبني دولة. التجارب الدولية تُظهر أن أي إصلاح عسكري ديمقراطي حقيقي يتطلب إعادة تعريف دور الجيش من حامي النظام إلى حامي الدستور، وإصلاح هياكل القيادة والترقية لمنع تحول القيادات العسكرية إلى نخبة سياسية مغلقة، وتغيير العقيدة العسكرية بحيث لا يرى الجيش نفسه طرفا في الصراع السياسي بل يرى نفسه حاميا محايدا للنظام الدستوري، وأخيرا بناء رقابة مدنية فعّالة لا رقابة شكلية خاضعة لضغط العسكر. وهناك عدد من النماذج التي توضح كيف نجحت دول في الوصول لحكم مدني رغم تاريخها العسكري الطويل.

التجربة الإسبانية بعد وفاة فرانكو عام 1975 تقدم درسا مهما. رغم أن الجيش الإسباني كان عماد النظام الدكتاتوري لعقود، نجحت إسبانيا في تحويله إلى مؤسسة محترفة خاضعة للرقابة المدنية عبر إصلاحات تدريجية شملت تغيير المناهج العسكرية وإعادة هيكلة القيادة وإخضاع الجيش للبرلمان المنتخب. لم يكن الأمر سهلا- فقد شهدت إسبانيا محاولة انقلاب فاشلة عام 1981- لكن الالتزام السياسي بالإصلاح والدعم الأوروبي ساهما في نجاح التحول.

تشيلي قدمت نموذجا مختلطا. بعد نهاية حكم بينوشيه عام 1990، استغرق الأمر أكثر من عقد لإخضاع الجيش للسلطة المدنية. الإصلاحات شملت إلغاء "أعضاء مجلس الشيوخ المعينين" الذين منحوا الجيش نفوذا سياسيا، وتعديل الدستور لإزالة الامتيازات العسكرية، وإنشاء آليات رقابة برلمانية فعّالة.

الأزمة الأعمق تكمن في الأحزاب السياسية نفسها. المشكلة ليست في ضعفها أو تشرذمها فقط، بل في بنيتها الداخلية المأزومة

الأرجنتين تقدم درسا أقسى. بعد انهيار الحكم العسكري عام 1983 إثر هزيمة حرب الفوكلاند، حاولت الحكومات المدنية محاسبة العسكريين على جرائم "الحرب القذرة" ضد المعارضة لكنها واجهت مقاومة شديدة. فقط بعد عقدين- وبعد إلغاء قوانين العفو- بدأ الجيش الأرجنتيني يقبل دوره كمؤسسة خاضعة للسلطة المدنية. التجربة الأرجنتينية تؤكد أن الإفلات من العقاب يعيق أي إصلاح حقيقي.

إندونيسيا تقدم حالة أكثر تعقيدا وأقرب للسياق السوداني. بعد سقوط سوهارتو عام 1998، ورث الإندونيسيون جيشا متغلغلا في الاقتصاد والسياسة عبر نظام "الوظيفة المزدوجة". استغرق الإصلاح أكثر من عقد وشمل فصل الشرطة عن الجيش، وإنهاء التمثيل العسكري في البرلمان، ومنع الضباط من شغل مناصب مدنية. لكن حتى اليوم، لا يزال الجيش الإندونيسي يحتفظ بنفوذ اقتصادي كبير، مما يؤكد أن الإصلاح العسكري عملية طويلة تحتاج إلى مثابرة مستمرة.

أزمة المجال المدني

عند الحديث عن رغبة في الانتقال الديمقراطي وانتصار الحكم المدني يظهر سؤال منطقي: من سيحمي الانتقال السياسي؟ من سيضمن أن لا يتحول الانتصار إلى احتكار جديد للسلطة؟ هنا تظهر أزمة السودان الحقيقية: انهيار المجال المدني على مستويين متداخلين.

أ.ف.ب
نازحون سودانيون فروا من الفاشر بعد سقوطها في أيدي قوات الدعم السريع، إلى بلدة طويلة في إقليم دارفور غربي السودان الذي مزقته الحرب في 28 أكتوبر 2025.

المجتمع المدني السوداني، رغم دوره التاريخي في الثورات، يعاني من انقسام داخلي وتسييس مفرط. المنظمات إما خاضعة للنخب الحزبية، وإما واقعة تحت ضغط التمويل الخارجي، وإما محاصرة في صراع "من الأكثر تمثيلا؟". هذا جعلها عاجزة عن قيادة النقاش العام ومراقبة الأداء السياسي والعسكري.

لكن الأزمة الأعمق تكمن في الأحزاب السياسية نفسها. المشكلة ليست في ضعفها أو تشرذمها فقط، بل في بنيتها الداخلية المأزومة. حزب "الأمة" ظل تحت قيادة عائلة المهدي منذ تأسيسه، و"الحزب الاتحادي الديمقراطي" يعاني من الإشكالية نفسها إذ تتوارث عائلة الميرغني قيادته. حتى الأحزاب الأحدث مثل حزب "المؤتمر السوداني" تعاني من مركزية القرار وهيمنة شخصيات بعينها دون آليات واضحة للمساءلة أو التداول.

المجتمع المدني يحتاج إلى إعادة بناء كاملة. السودان بحاجة إلى منظمات مستقلة ماليا وسياسيا، خاضعة للمساءلة، وممثلة لقواعد اجتماعية حقيقية

وهنا يبرز السؤال: كيف لحزب تحكمه عائلة سياسية، أو يُدار بمنطق الولاءات الشخصية، أن يقود عملية انتقال ديمقراطي؟ الأحزاب السودانية لا تنشر موازناتها، ولا تكشف عن مصادر تمويلها، ولا تُجري مؤتمرات عامة دورية بشكل منتظم. قراراتها الكبرى تُتخذ في دوائر ضيقة، وقواعدها الشعبية مهمّشة تماما عن صنع القرار.

التجارب الإقليمية تؤكد أن أحزابا ضعيفة ومنفصلة عن الواقع لا تبني ديمقراطيات- بل تمهد الطريق لعودة الاستبداد أو لانهيار الدولة. الأفق المدني لن يُفتح إلا بعملية إعادة بناء شاملة لكل من المجتمع المدني والأحزاب السياسية معا.

هل سيتعلم السودان من تجربة الحرب؟

الحرب السودانية، على فظاعتها، تحمل دروسا قاسية يجب أن تُترجم إلى خطة واضحة للمستقبل. الدرس الأول هو الاعتراف بأن نخب ما بعد 2019-سياسية ومدنية- فشلت في إدارة الانتقال. هذا الفشل ليس عيبا أخلاقيا بل نتيجة لبنى فاسدة وممارسات غير ديمقراطية. ولتحقيق هذا الأمر يجب العمل على عدة محاور أساسية.

أ.ف.ب
جنود من الجيش السوداني يجلسون فوق دبابة متوقفة بعد سيطرتهم على قاعدة تستخدمها قوات الدعم السريع في منطقة الصالحة بأم درمان، المدينة التوأم للعاصمة السودانية، في 26 مايو 2025.

أولا، بناء جيل جديد من القيادات المدنية أصبح ضرورة حتمية. السودان يحتاج إلى قيادات من الشباب والنساء والمجموعات المهمّشة ومن خارج دوائر النخب التقليدية. هذا الجيل يحتاج إلى تدريب حقيقي على الحوكمة والإدارة العامة والتفاوض السياسي، لا إلى مجرد شعارات عن "التمكين".

ثانيا، الأحزاب السياسية بحاجة ماسة إلى إصلاح جذري من الداخل. وأي دعم سياسي أو مالي لها يجب أن يرتبط بإصلاحات داخلية قابلة للقياس تشمل إجراء انتخابات داخلية شفافة، وتجديد القيادات، ونشر الموازنات، وتبني برامج واضحة بعيدا عن الشعارات الفضفاضة.

ثالثا، المجتمع المدني يحتاج إلى إعادة بناء كاملة. السودان بحاجة إلى منظمات مستقلة ماليا وسياسيا، خاضعة للمساءلة، وممثلة لقواعد اجتماعية حقيقية. وهذا يتطلب بناء القدرات الحقيقية والحوكمة الداخلية، وهو مشروع طويل الأمد لكنه ضروري لأي تحول ديمقراطي.

التجارب الدولية تقدم خارطة طريق واضحة. دول مثل إندونيسيا وكوريا الجنوبية وإسبانيا لم تنجح في الانتقال إلى الديمقراطية لأنها كانت محظوظة، بل لأنها التزمت بإصلاحات حقيقية ومؤلمة

رابعا، وربما الأهم، المرحلة القادمة تتطلب أكثر من وقف إطلاق النار- تتطلب ثورة ثقافية وسياسية عميقة. فالحرب قدّمت درسا قاسيا: الاستقطاب والخطاب الإقصائي يدمران الأوطان. السودان يحتاج إلى ثقافة سياسية جديدة قائمة على الحوار الحقيقي والتسوية والقبول الفعلي للتعددية. هذا التحول يحتاج إلى إصلاح تعليمي وإعلامي طويل الأمد يُعيد بناء الوعي الجماعي ويُرسّخ قيم المواطنة والمساءلة.

رويترز
عناصر من قوات الدعم السريع خلال تأمين موقع حضر فيه الفريق أول محمد حمدان دقلو، في الخرطوم، السودان، 18 يونيو 2019

التجارب الدولية تقدم خارطة طريق واضحة. دول مثل إندونيسيا وكوريا الجنوبية وإسبانيا لم تنجح في الانتقال إلى الديمقراطية لأنها كانت محظوظة، بل لأنها التزمت بإصلاحات حقيقية ومؤلمة. الفارق الحاسم بين النجاح والفشل كان دائما في التزام حقيقي- محليا ودوليا- ببناء بلد جديد من الأساس.

ومن المهم أن يتذكر السودان أن الخطر الأكبر الذي يواجه البلاد ليس استمرار الحرب، بل احتمال العودة إلى نظام شبيه بحكم البشير- سواء بنفس الوجوه أو بوجوه جديدة تحمل العقلية نفسها. هذا السيناريو ليس نظريا بل واقعي: تحالف عسكري-إسلامي يسيطر على الدولة تحت شعارات "الاستقرار"، و"الأمن القومي"، مستغلا إرهاق الشعب وخوف المجتمع الدولي من الفوضى. والعودة إلى نظام كهذا تعني إعادة إنتاج كل الكوارث: عزلة دولية، تردٍ اقتصادي، انهيار سياسي، وفقدان أي أفق للتنمية.

font change