العُمرة رافد اقتصادي وسياحي مستدام في السعودية

استثمارات السياحة تقدر بـ 113 مليار دولار ودعم كبير للذكاء الاصطناعي وشركات القطاع

رويترز
رويترز
حجاج يطوفون حول الكعبة المشرفة يؤدون العمرة في 19 يونيو 2023

العُمرة رافد اقتصادي وسياحي مستدام في السعودية

تعد العُمرة ركنا اقتصاديا وسياحيا مستداما في السعودية، من مكة إلى المدينة يتشكل مشهد روحاني عالمي، نابض بالايمان كما بحركة الضيافة والتجارة، تماثل موسم فريضة الحج. وتعكس مواسم العُمرة ديناميكية متنامية تدفع قطاعات السفر والخدمات نحو توسع مستمر، مؤكدا مكانتها كأحد أهم محركات النشاط السياحي والاقتصادي في المملكة.

يتوافد المسلمون من كل أنحاء العالم الى السعودية سنويا لتأدية مناسك الحج والعمرة، حيث بلغ عددهم نحو 17 مليون زائر أجنبي العام الماضي، وهو ما يتجاوز العدد الإجمالي للسياح في مصر ويقارب الرقم نفسه في المغرب، وهما من أبرز البلدان السياحية في العالم العربي. وتدر سياحة الحج والعمرة نحو 12 مليار دولار للمملكة سنويا. ويخصص الجزء الأكبر من هذه الايرادات لتطوير البنية التحتية للحرم المكي، وتيسير شؤون الحجاج.

بالتوازي مع جهودها لتنويع قطاع السياحة لتجتذب كل الفئات الممكنة، تسعى المملكة إلى رفع عدد الحجاج والمعتمرين إلى 30 مليونا في عام 2030، وفقا لرؤيتها الوطنية لتطوير الاقتصاد، والحد من اعتماده على النفط.

زيادة الرحلات ونشاط حركة الفنادق

وفي إحصاء لأول شهرين من الوافدين لأداء العمرة في السنة الجارية (15 ذي الحجة حتى 30 من محرم)، رحبت السعودية بأكثر من 1.2 مليون معتمر قادمين من 109 دول حول العالم، وفقا لوزارة الحج والعُمرة، وهي زيادة بنسبة 30 في المئة في عدد المعتمرين الذين دخلوا المملكة بتأشيرة عُمرة، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

رويترز

من أساسيات استيعاب اعداد اكبر من الزائرين، سواء حجاجا ومعتمرين أو سائحين قادمين لأغراض أخرى، زيادة رحلات الطيران للسعودية وعدد الفنادق فيها، وهو ما تعمل الحكومة على تحقيقه. وتقول الاحصاءات ان 71.6 في المئة من معتمري الخارج في 2024 وصلوا إلى المملكة من طريق رحلات جوية.

من جانب آخر، تشير "فيوتشر ماركت انسايت" إلى أنه تم توقيع خطة قيمتها نحو 184 مليون دولار لتطوير صناعة الفنادق في مكة المكرمة خلال مؤتمر ومعرض خدمات الحج والعمرة الذي عقد في شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام الجاري، وتتوقع المجموعة البحثية أن يتضاعف اقتصاد الحج ثلاث مرات ليصل إلى نحو 350 مليار دولار في حلول عام 2034.

ما دور الذكاء الاصطناعي في الحج والعمرة؟

لم يعد الحج والعمرة هما المكون الأوحد للسياحة السعودية كما كان الحال لعقود، بعد أن قامت المملكة في السنوات الأخيرة بتطوير واسع النطاق لتنوع من منتجاتها السياحية وزيادة معدل نموها. إلا أن السياحة الدينية لا تزال من العناصر الأساسية للنشاط السياحي التي تسعى الحكومة إلى تطويرها.

كذلك يلعب التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي دورا مهما في تطوير السياحة وتنظيمها، لا سيما الحج والعمرة حيث تستخدم السلطات المسيرات لتنظيمها بشكل أكثر فاعلية، بالاضافة الى أساليب متطورة اخرى. ووصل عدد تحميلات تطبيق "نسك"، المنصة الرقمية الرسمية لخدمة الحجاج والمعتمرين، إلى أكثر من 30 مليونا خلال العام الماضي بنسبة نمو تتجاوز 150 في المئة خلال أقل من عام، وفقا لوزارة الحج والعمرة.

خريطة جديدة لمستقبل السياحة السعودية

تقف السعودية اليوم على أعتاب مرحلة جديدة تعيد فيها رسم ملامح مستقبل السياحة، إذ لم تعد تنظر إلى هذا القطاع باعتباره صناعة تكميلية، بل كجسر ثقافي واقتصادي يحمل طموحاتها نحو آفاق عالمية أرحب. وهذا ما انعكس أخيرا من الرياض، عندما تحوّلت قمة "تورايز"، التي انعقدت في نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، إلى مساحة نابضة بالأفكار والرؤى، جمعت بين صنّاع الضيافة ورواد الابتكار من شتى أنحاء العالم، لتشكل منصة تعيد تعريف معنى الوجهة السياحية في القرن الحادي والعشرين.

وفي خضم هذا الحراك، برزت استثمارات ضخمة تقدر بنحو 113 مليار دولار، لتدفع بعجلة التطوير في مجالات تمتد من التجزئة الفاخرة إلى الإقامة الفندقية وتنمية الكفاءات. ما يميز هذه الموجة الاستثمارية، أنها تتجه مباشرة نحو الداخل السعودي، حيث تتلاقى الثقافة المحلية مع الإبداع المعاصر والخدمات الراقية، لتعلن بوضوح أن المملكة ليست مجرد محطة سياحية جديدة، بل مسرح يبنى عليه مستقبل السياحة العالمية.

نحو استقطاب 150 مليون سائح

تمثل السياحة ركنا أساسيا من خطة السعودية لتنويع اقتصادها، يعتمد حاليا بنسبة 40 في المئة على النفط. وإذ نجحت السعودية في استقبال 100 مليون سائح محلي ودولي مع نهاية عام 2023، متقدمة بسبع سنوات على الجدول الزمني المحدد في "رؤية 2030"، رفعت المملكة مستهدفها إلى استقطاب 150 مليون سائح في عام 2030.

وخلال عام 2024، بلغ إجمالي عدد السياح المحليين والوافدين نحو 116 مليون سائح، بزيادة بلغت نحو 6 في المئة مقارنة بعام 2023. وقد شكّل السياح الدوليون نحو 26 في المئة من إجمالي العدد، أي نحو 29,7 مليون سائح. ووفقا لتقرير وزارة السياحة، سجل إنفاق السياح خلال العام نفسه نحو 284 مليار ريال (75,7 مليار دولار)[i]، الأمر الذي جعل المملكة الأولى عالميا من حيث نمو الإيرادات في القطاع السياحي لعام 2024 بحسب بيانات الهيئة السعودية للسياحة.

الاتفاقات التي وقعناها والمنصات التي أطلقناها ستدعم تدفق الاستثمارات، وتطور رأس المال البشري، وتعزز التحول الرقمي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحمي الكنوز الثقافية والبيئية

وزير السياحة السعودي أحمد الخطيب

وتعمل الحكومة، انسجاما مع مستهدفات "رؤية 2030"، على رفع مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي الإجمالي إلى 10 في المئة في حلول العام نفسه. ولتحقيق هذا التحول الطموح، شرعت في إعادة هيكلة شاملة للقطاع الذي كان يعتمد طويلا على تدفقات الحجاج والمعتمرين، تمهيدا لفتح آفاق أوسع أمام السياحة بأنماطها المتنوعة.

إعلان الرياض حول مستقبل السياحة

وكانت قمة "تورايز" السياحية، التي جاءت مباشرة بعد اختتام الدورة السادسة والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة للسياحة التي استضافتها السعودية، شهدت اعتماد "إعلان الرياض حول مستقبل السياحة" ليكون إطارا محوريا للتعاون الدولي في قطاع السياحة العالمي خلال العقود الخمسة المقبلة.

المجلة

في هذا السياق، أشار وزير السياحة السعودي أحمد الخطيب إلى أن استضافة الحدثين تمثل انتقالا مهما من مرحلة الإعلان إلى مرحلة التنفيذ، قائلا: "الاتفاقات التي وقعناها والمنصات التي أطلقناها ستدعم تدفق الاستثمارات، وتطور رأس المال البشري، وتعزز التحول الرقمي للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحمي الكنوز الثقافية والبيئية".

توسع في المشاريع والذكاء الاصطناعي

على مدار معظم العقد الماضي، أطلقت السعودية سلسلة واسعة من الإصلاحات والاستثمارات بمليارات الدولارات، ساهمت في إحياء قطاع السياحة في البلاد، بما في ذلك موجة ضخمة من مشاريع البناء في مختلف أنحاء المملكة.

وشهد قطاع الإقامة في السعودية نموا مستمرا، إذ يقدر عدد الغرف الفندقية حتى منتصف عام 2025 بـ545 ألفا، مع توقع استمرار هذا النمو بالتوازي مع زيادة أعداد السياح خلال السنوات الخمس المقبلة.

على مدى السنوات العشر المنصرمة، أقرت السعودية سلسلة من التشريعات الهادفة إلى تحسين بيئة الأعمال السياحية وجعلها أكثر مرونة، في التصاريح وتنظيم الفعاليات

وأعلنت "شركة تطوير البلد"، المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة (PIF)، الداعم الرئيس لمشاريع المملكة الكبرى، استثمارا بقيمة 3,6 مليارات دولار في جدة التاريخية، يشمل إضافة 3,300 وحدة فندقية. كما يرتقب أن تضيف مشاريع أخرى آلاف الغرف الفندقية الجديدة خلال السنوات المقبلة.

وتضم الشركات المشاركة في الاستثمارات أسماء بارزة في قطاع الضيافة، منها "بي. دبليو. أتش. هوتلز" و"غوكو هوسبيتاليتي" و"سينومي" و"راديسون" و"إيرث هوتلز". وتشمل هذه المشاريع أيضا منصات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، إذ تعمل السعودية على دمج هذه التقنية في مختلف قطاعات اقتصادها، من النفط، حيث تستخدم "أرامكو" أدوات الذكاء الاصطناعي لأغراض الكشف، إلى الصحة والسياحة. وقد تم أخيرا توظيف الذكاء الاصطناعي لضمان سلامة الحجاج وتسهيل تنقلاتهم، وأثبتت هذه المبادرة نجاحها.

وسيعمل "إعلان الرياض" كإطار استراتيجي لدفع عجلة تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام 2030، مع التركيز على الاستدامة، والابتكار الرقمي، ودمج تقنيات الذكاء الاصطناعي.

هوية جديدة واستثمارات متسارعة

على مدى السنوات العشر المنصرمة، أقرت السعودية سلسلة من التشريعات الهادفة إلى تحسين بيئة الأعمال السياحية وجعلها أكثر مرونة، سواء في ما يتعلق بإصدار التصاريح وتنظيم الفعاليات، أو في تسهيل رحلة الزائر منذ وصوله حتى مغادرته.

وقد رافق هذا التحول إطلاق مجموعة من المشاريع الكبرى التي من شأنها تعزيز القطاع السياحي، من أبرزها مشروع مدينة القدية الترفيهية، بما في ذلك متنزه "سيكس فلاغز القدية" (Six Flags Qiddiya) الذي أُعلن اخيرا اكتمال أعمال بنائه استعدادا لافتتاحه مع نهاية السنة الجارية. كما تضم القدية ملعب استاد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أحد الملاعب المقرر أن تستضيف منافسات كأس العالم 2034، ويعد من أكبر مشاريع شركة القدية للاستثمار.

فازت محافظة العُلا بلقب "أفضل مشروع للسياحة الثقافية في العالم لعام 2025" ضمن جوائز السفر العالمية، كوجهة عالمية للثقافة والتراث والاستكشاف

وقد تجلى هذا التحول في المشاريع التنموية الكبرى المنتشرة في أنحاء السعودية، التي تهدف إلى تنويع التجارب السياحية وجذب مختلف الزوار. فمدينة العلا، على سبيل المثل، تحتضن إرثا حضاريا يزيد عمره على ألفي عام، بينما تسعى مشاريع سواحل البحر الأحمر إلى تقديم تجارب شاطئية وغوص فاخرة تواكب أرقى المعايير العالمية.

العلا وجهة عالمية للثقافة والتراث

وفازت محافظة العُلا، الواقعة شمال غربي السعودية، بلقب "أفضل مشروع للسياحة الثقافية في العالم لعام 2025" ضمن جوائز السفر العالمية للعام الجاري، ويعزز هذا الإنجاز مكانة المحافظة كوجهة عالمية للثقافة والتراث والاستكشاف.

واس
فعاليات موسم الدرعية

وعلى هامش قمة "تورايز"، التي حضرها ممثلون عن شركات عالمية كبرى مثل "إكسبيديا" و"غوغل"، أطلق مشروع "أمالا" على البحر الأحمر، ليكون وجهة فاخرة متخصصة في السياحة الصحية والرفاهية، مما يعكس توجه المملكة نحو دمج الثقافة والابتكار والخدمات الراقية في قطاعها السياحي. كما ساعدت التغيرات الاجتماعية المتزايدة في المملكة على تمهيد الطريق لإنشاء قطاع ترفيهي ورياضي ضخم يجذب جماهير دولية، مع توقعات بنمو مستمر خلال السنوات المقبلة. ومن أبرز الأحداث المستقبلية، استضافة السعودية في عام 2027 عرض "راسلمينيا" للمرة الاولى خارج الولايات المتحدة وكندا، وهو الحدث الأكبر سنويا في المصارعة العالمية (WWE)، ، إضافة إلى تنظيم كأس العالم 2034.

السعودية وجهة سياحة الأعمال العالمية

شهدت سياحة الأعمال نموا ملحوظا مدفوعا بالإصلاحات الرامية إلى جذب المزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر وتعزيز وجود الشركات المتعددة الجنسيات في المملكة.

وتعتزم الحكومة رفع قيود الملكية المفروضة على الشركات المدرجة العام المقبل، للسماح للمستثمرين الأجانب بامتلاك حصص الغالبية، وهي خطوة محورية أخرى نحو ترسيخ مكانة المملكة كمركز تجاري عالمي. ويسمح حاليا للأجانب بتملك ما لا يزيد على 49 في المئة من حصص شركات سوق الأسهم السعودية.

امتلاك حصص الغالبية في الشركات قد يكون عاملا جاذبا للمستثمرين الأجانب، أتوقع تدفق المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى السعودية

تيم كالين، باحث زائر في معهد دول الخليج في واشنطن

وقال تيم كالين، الباحث الزائر في معهد دول الخليج العربية في واشنطن، لـ"المجلة": إن "إمكان امتلاك حصص الغالبية في الشركات قد يكون عاملا جاذبا للمستثمرين الأجانب"، متوقعا تدفق المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى السعودية في المستقبل القريب.

أ.ف.ب.
سفينة الرحلات البحرية "سيلفر سبيريت" خلال إبحارها قبالة الساحل الغربي للسعودية، 3 أكتوبر 2020.

لن يقتصر أثر زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة على ترسيخ مكانة السعودية كمركز أعمال إقليمي وعالمي فحسب، بل سيعزز أيضا السياحة التجارية من خلال تشجيع المزيد من الزيارات للمملكة. وفي هذا الإطار، تعمل المملكة على توسيع شبكة رحلاتها الجوية المباشرة عبر إضافة مسارات جديدة للخطوط الجوية السعودية، ومن المتوقع أن يربط الناقل الوطني المملكة بـ250 وجهة حول العالم في حلول عام 2030، بالتعاون مع شركة الطيران الجديدة، "الرياض للطيران".

كما يسهم التطوير المستمر لأنظمة النقل العام وقطاع الخدمات اللوجستية، وفقا لـ"رؤية 2030"، في جعل السعودية وجهة أكثر جاذبية لكل من رجال الأعمال والسياح، بما يعكس الطموح السعودي في دمج البنية التحتية الحديثة مع التجربة السياحية المتنوعة.

font change