أحمد الفيتوري لـ"المجلة": في ليبيا جيل جديد من المبدعين بزغ من تحت الأنقاض

في مرحلة ما بعد الاستعمار تختلط السياسة بالأدب كما يختلط الدم بالحبر

الروائي والشاعر الليبي أحمد الفيتوري

أحمد الفيتوري لـ"المجلة": في ليبيا جيل جديد من المبدعين بزغ من تحت الأنقاض

يعد الروائي والشاعر أحمد الفيتوري من الأسماء المؤثرة في المشهد الثقافي الليبي، صوتا سرد تحولات بلده ووثق تفاصيل حياة مجتمعه على مدى العقود الأربعة الماضية.

ولد الفيتوري في مدينة بنغازي في 1955، وشرع في رحلته مع الكلمة منذ وقت مبكر، فانخرط في العمل الصحافي عام 1974، إلا أن هذا المسار لم يكن مفروشا بالورود، إذ سجن بين عامي 1978 و1988 بعد اتهامه بالانتماء إلى حزب ماركسي لينيني، وهي السنوات التي شكلت ملامحه الفكرية وأثقلت نصه بأبعاد السجن والحرية. بعد خروجه في 1989، تلقى دعوة شخصية من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي للمشاركة في تأسيس مجلة "لا"، غير أن تلك التجربة لم تدم طويلا، إذ انسحب منها بعد شهور قليلة.

في رصيده العديد من الإصدارات التي تتوزع بين النقد والرواية والشعر، ففي النقد أصدر: "مبتدأ في الفكر والثقافة"، و"المنسي في الطين". وفي الرواية ترك بصمته في أعمال مثل "سيرة بني غازي" و"سريب" و"بيض النساء" و"ألف داحس وليلة غبراء". أما في الشعر، فله أعمال عدة منها: "دعاء الفيتوري"، "قصيدة حب متأبية"، و"الذئبة تعوي في السرير الخاوي"

يقيم الفيتوري حاليا في القاهرة حيث أجرت "المجلة" معه هذا الحوار.

سنوات من الحرب ومتغيرات كبرى تشهدها ليبيا، كيف هو واقع الحراك الثقافي والأدبي في البلاد؟

البشر الخلاقون لا تنبتهم الراحة، بل تصقلهم المحن كما تصقل النار الذهب، فتزيل عنهم الشوائب وتكشف جوهرهم. فمن رحم المعاناة، في السلم كما في الحرب، ولدت أعظم الملاحم الإنسانية. فقد خلق الإنسان في كبد، ومن صراع الضرورة تشكل مسار الحضارة. وما زلنا، إلى اليوم، نراوح مكاننا بين قابيل وهابيل، وكأن فترات السلم في تاريخ البشرية لم تكن سوى استراحات قصيرة لمحارب منهك.

كثيرا ما يتنصل الأدباء من السياسة، كأنهم يكتبون في برج عاجي بعيد عن ضجيج العالم، فيما يتصرف الساسة وكأن الأدب ترف لا يعنيهم

من هذا المنطلق، فإن ما تعيشه بعض الشعوب العربية من اقتتال داخلي، لم يخمد جذوة الإبداع، بل أوقدها. ففي ليبيا، كما في غيرها، ظهرت قوى ناعمة تخلق في العتمة ضوءا، وتتشكل في وسط العاصفة. جيل جديد من المبدعين بزغ من تحت الأنقاض، يحمل في قلبه شرارة الفن ودهشة الكتابة، يبدع كما لم يبدع من قبل.

شهدت ليبيا، في الداخل كما في المهجر، ازدهارا إبداعيا غير مسبوق، ظهرت ملامحه في السرد والشعر والفن. ورب ضارة نافعة، إذ بات الليبيون يكتبون بلغات أخرى، وينشر لهم في عواصم لم تكن تعرف عنهم سوى القليل. إنتاجهم يتوزع بين الوطن والمنفى، في نقلة نوعية لا تزال تنتظر من يقرأها ويحللها.

غلاف كتاب "ليبيا بعد الربيع العربي"

الأدب والسياسة

صدر لك العديد من الأعمال ما بين أدبي وسياسي وسيري، مثل "ليبيا في مهب الربيع العربي"، وبورتريهات" وغيرها. حدثنا عنها وعن ظروف كتاباتها؟

كثيرا ما يتنصل الأدباء من السياسة، كأنهم يكتبون في برج عاجي بعيد عن ضجيج العالم، فيما يتصرف الساسة وكأن الأدب ترف لا يعنيهم، أو ضرب من الترف الفكري لا يصلح لدهاليز الحكم. غير أن الواقع يأبى هذا الفصل الحاد، ويأتي التاريخ ليكسر هذه الثنائية المضللة، فها هو ونستون تشرشل، رجل السياسة العتيد، يقتنص جائزة نوبل للآداب، ليعيد تشكيل العلاقة بين الكلمة والسلطة، وليذكرنا بأن الكتابة السياسية المتميزة هي فرع أصيل من الأدب حين تبلغ من الرصانة والعمق مبلغها.

من هذا المنطلق، أكتب بدافع الضرورة، لا الترف. أكتب لأن بلادي، ليبيا، وقعت في أتون احتراب أهلي طويل، ولأننا، نحن الذين نعيش خارج أسوار الغرب، نجرجر معنا أوزار ما بعد الاستعمار، حيث تختلط السياسة بالأدب كما يختلط الدم بالحبر. ومن هنا جاء كتابي "ليبيا في مهب الربيع العربي"، جامعا بين مقالات سياسية كنت أكتبها أسبوعيا منذ اندلاع شرارة 2011، وبين نصوص نثرية بعنوان "بورتريهات"، أرسم فيها بالكلمات ملامح شخصيات لها وقع خاص في وجداني وفي ذاكرة الثقافة. هي وجوه عامرة بالحياة، نابضة بالفعل، تحمل بصمتها الإنسانية العميقة.

غلاف كتاب "نوري الكيخيا"

داحس والغبراء

ماذا عن روايتك "ألف داحس وليلة غبراء"؟

بدأت كتابة هذه الرواية عام 2010 ثم قامت الثورة فتوقفت عنها واستكملتها في القاهرة عام 2016. والرواية تضم ثلاث روايات. وفي العامين الماضيين كنت موجودا بالقاهرة وأكملتها.

غادرني الشعر حين خنته مع ضرة سقيمة، هي الانغماس في السياسة

"ألف داحس وليلة غبراء" ليست وثيقة تاريخية، ولا كاتبها مؤرخ، بل راو منح صوته لشخصيات تتعدد وتتناوب عبر أزمنة متداخلة، لا يحضر فيها المكان إلا كطيف عابر، ولا تستحضر واقعا بعينه، بل تستنطق جوهر التجربة الإنسانية في زمان ومكان محددين، فكل كتابة، حتى تلك التي تستشرف الغد، إنما تستند إلى لب من الواقع، وجذور من معاناة عايشها الإنسان ذات لحظة.

غلاف رواية "ألف داحس وليلة غبراء"

البحث في التاريخ أو النبش في الأسرار، أهو للكشف والمراجعة والتذكير أم للتميز خصوصا إذا كان من ينبش روائيا؟

في الحقيقة التاريخ أداة من أدوات الرواية خاصة عندما تتحدث عن حادثة تاريخية أو تجربة واقعية، فالجانب التاريخي يمنح الرواية فرصة لأن توظفه في العملية البنائية الروائية، وهو ليس أساسا في العملية الروائية ولكن مثله مثل الفلسفة والشعر  وغيرها من الأشياء التي يوظفها الروائي في روايته.

المحلية والعالمية

حرصت على وصف البيئة الليبية في أعمالك الإبداعية، ويرى أن الإغراق في المحلية هو جسر الوصول إلى العالمية... ما تعليقك؟

ليست الكتابة السردية أساسا كتابة محددة المعيار والاتجاه والطريقة، فالمسرود يأتي معه بالسبل. عند كتابتي للرواية بدأ الحدث في الحي الشعبي الصابري بمدينة بنغازي الليبية، ما استلزم المعمار الروائي قماشة الحدث والشخوص المحلية التي أعرفها جيدا، ولكن قبل الكتابة أو الكتابة الصفر لم يخطر لي دائما لمن أكتب، فما أكتب لا يكتب لقارئ ما أساسا، كما ليس ثمة توق لنجاح ما. مثلا بدأت كتابة "ألف داحس وليلة غبراء" عام 2010 ببنغازي وعدت إليها بالقاهرة 2016، أما "بيض النساء، فكتبتها في جلسة واحدة تخللتها أوقات راحة قصيرة، وفي الحالتين لم أخطط للعملية بل هكذا كان وكذا كتبت.

ما أبرز التحولات التي طالت الرواية الليبية؟

الرواية الليبية يانعة... هناك بالعرية صادق النيهوم وأحمد إبراهيم الفقيه وإبراهيم الكوني ، ثم بالانكليزية هشام مطر حاصد الجوائز. وقد مدّ الشباب بعد ثورة فبراير/ شباط 2011 جسورا في كتابة الرواية، لكنها كتابة تحتاج إلى وقت كي تينع، فالتحولات الجسورة التي تتخطى الجسور والأسماء الراسخة لا بد أن تحرق بنار الزمن كي تكون أو لا تكون.

غلاف كتاب "سيرة بني غازي"

الشعر والحرب

أين أنت من الشعر والمسرح حاليا؟

الشعر والحرب معا أمران كثيران على المرء، فالشعر في الحرب يعلو عليه أزيز الرصاص. بالنسبة إليّ غادرني الشعر حين خنته مع ضرة سقيمة، هي الانغماس في السياسة التي فرضت علينا فرضا وهي من لزوم ما لا يلزم في مذهبي، والشعر في المضمار العربي المتقدة نيرانه غدا غريبا حصر في الزاوية الحرجة، رغم أن الشعراء لم يكفوا عن النزف. لكن طبول الحرب اجتاحت وتريات الموسيقى فغدا الغناء عاريا ينز بالألم. أما المسرح فكما يبدو غادر العالم كما الملاحم الكبرى وهو الآن مبثوث في السينما والتلفزيون والرقص ويبدو أنه كأب للفنون يعيش في كنف أبنائه الشرعيين وما شابه.

هل استفدت من الشعر، وأنت تكتب نصوصك الروائية؟ وكيف حال الشعر في ليبيا؟

الفنون، في جوهرها، كائن واحد متعدد الوجوه، تتشابه كما تختلف، وتتباين كما تتكامل. فماذا تكون الرواية إن لم تكن وجها آخر للسؤال الأبدي: ما الشعر؟ سؤال لا يعرف جوابا مستقرا، إذ أن كل محاولة للإجابة عنه تفتحه من جديد، وكأن الشعر في طبيعته سؤال لا يقفل. ولأنني تنقلت بين ضفاف الشعر والرواية، فكان لا بد أن يتسرب الشعر إلى سطور روايتي، لا سيما "بيض النساء"، التي أراها على نحو ما، قصيدة طويلة متنكرة في هيئة سرد.

هناك جيل شاب من الشعراء، تتوحد صرختهم رغم تباين أصواتهم، فتنشأ من هذه التعددية كتابة شعرية مفارقة

أما في ليبيا، فالشعر يتغذى على الجمر. فالحرب التي تعصف بالبلاد وتثقلها بالموت، تبعث في الشعراء حوافز الحياة. هناك، الشعر ليس ترفا، بل صرخة في واد تغمره الوحشة، وزفرة مقاومة في وجه العبث. هناك جيل شاب من الشعراء، تتوحد صرختهم رغم تباين أصواتهم، فتنشأ من هذه التعددية كتابة شعرية مفارقة، مشحونة بطاقة جمالية خالصة، تستحق الإصغاء.

كيف ترى مستقبل المشهد الشعري العربي؟

ليت الرياح تأتي بما يشتهي الشعراء، فالشعر عمل ثقافي صعب المراس وعراكه الوعر. وعليه، فهو ليس الولع بالإنشاء في ما جاءت به الأخبار في النشرات اليومية، وليس هو النسج على المنوال، ليس مراهقة المراهقين، وهذا العجن الذي يملأ الصحف الورقية والإلكترونية. الشعر اليوم خجول وظلي وفي آخر قائمة مشهيات الميديا التي حتى الساعة تلهو بنا. أظن أن الشعر يكمن في المستقبل، في المجهول، الشعر بهذا ملاذ، وأرى الشعر في الفضائيين من يسكنون في الكواكب الأخرى بعد أن ضاقت الأرض بما حملت. القصيدة الآن تبدو ضاربة في هذا البعد الاستكشافي، فكأنما من يتعاطى الشعر هم من العلماء، وهذا عود على بدء، في البدء كان الكلمة: الشعر والسحر صنوان، وكذا في البدء الآن، الشعر والعلم صنوان، والعلم لا قومية ولا دين له.  

الغربة

ماذا تركت الغربة في نفسك، وكيف أثرت في عملك الإبداعي؟

عشت في المنافي كما في الوطن، وبينهما السجن ظل ثقيل لا يفارق الذاكرة. لم يكن النشر ممكنا، ولا حتى مجرد الكتابة، فالرقيب دائم التربص، والعسف يحكم، والفاشية تسود، وليبيا طوال نصف قرن —منذ انقلاب الملازم القذافي عام 1969 وحتى ما بعد 2019— كانت أرضا بورا، لا تنبت حلما ولا يلوح فيها حتى سراب حرية. جاء بعدها من تقنعوا بالدين، لا ليقيموا عدلا، بل ليجهزوا على ما تبقى من الأرواح، يشرعنون الموت باسم الإله.

الروائي والشاعر أحمد الفيتوري

غير أن الغربة، مذ غادرت البلاد في 2014، أوقدت جذوة البقاء في داخلي. لم يعد اليأس ترفا متاحا، فهناك، بعيدا من الوطن، لا وقت للانكسار. صرت أكتب كما لم أكتب من قبل، وأطبع وأدون، في السرد والنثر والسياسة، كأنني أستعيد ما سلب مني، دفعة واحدة.

ليبيا طوال نصف قرن، منذ انقلاب القذافي عام 1969 وحتى ما بعد 2019، كانت أرضا بورا، لا تنبت حلما ولا يلوح فيها حتى سراب حرية

وهكذا، كان الإنترنت ظهيري الأول، نافذتي الكبرى على حرية طال انتظارها. لا رقابة تستطيع حجب الحروف، ولا بطش يثني عزيمتي. صار الموبايل والكومبيوتر فرسي في سباق الكتابة، وأنا أمتطي صهوة هذا الزمن الرقمي، عابرا الحواجز، نحو كتابة أكثر تحررا وجرأة ونضجا.

النقد والجوائز

كيف تنظر إلى العلاقة بين الناقد والمبدع حاليا؟

لم يعد ثمة نقد، غرقنا في محيطات متلاطمة من نظريات نقدية، فنسمع فرقعة ولا نرى طحينا، ثم نغمر بأمواج من مديح السائد، ولهذا يبدو أن مرحلة ما بعد الحداثة مرحلة خنثية فيها الناقد والمنقود واحد. والكثير مما أرى من كتابات تروج لأعمال وكتابات أكثر مما تنقدها أو تنقضها، أما نقد النقد فكأن لم يكن.

الفيتوري

كيف تنظر إلى الجوائز الأدبية العربية، وهل يمكن اعتبارها معيارا حقيقيا وصادقا يؤشر للأعمال الجيدة؟

الجوائز أشبه بالهدايا، ونحن في طبعنا لا نرد الهدايا، مهما اختلفت قيمتها. فهي لا تضيف إلى جوهر الإبداع شيئا، كما لا تنتقص منه، لا ترفع منسوبه ولا تحط من شأنه. الإبداع يبقى كما هو، متوهجا بذاته، أما الجائزة فغالبا ما تمنح لصاحب العمل، لا للعمل نفسه. من هنا شبهتها بالهدايا: تعطى لشخص، لكنها لا تصنع الإبداع ولا تحكم عليه. فالقارئ وحده هو القادر على تذوق الجمال، وعلى تقييم النص بما يتجاوز الأضواء والاحتفاءات. أما الجوائز – سواء كانت أدبية أو غيرها – فهي دائما محاطة بالأقاويل والجدل في كل مكان من العالم، وكأنها بطبعها لا تأتي إلا محملة الحكايات.

font change