هجوم سيدني... بين عودة التطرف والتوظيف الإسرائيلي

السؤال الأول الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت ثمة صلة بين الهجمات في سوريا وأستراليا؟

أ ف ب
أ ف ب
مشيعون يتعانقون قرب أكوام من النصب التذكارية التي أقيمت تخليداً لذكرى ضحايا حادث إطلاق النار على شاطئ بوندي في سيدني، بتاريخ 16 ديسمبر

هجوم سيدني... بين عودة التطرف والتوظيف الإسرائيلي

ليس هناك أدنى شك في أن الهجوم الإرهابي على شاطئ بوندي في أستراليا والذي استهدف احتفالاً يهودياً بعيد "الحانوكا" وذهب ضحيته 15 شخصا فضلا عن 40 جريحا آخرين، هو هجوم معقد جدا من حيث توقيته والشكوك حول ارتباط منفذيه بـ"داعش"، فضلا عن أن المستهدفين من اليهود.

كل تلك العناصر المتصلة بالهجوم هي عناصر مكثفة جدا من حيث دلالاتها المحتملة وإمكان توظيفها سياسيا من جهة، ومن ناحية أخرى أن تكون مؤشرا إلى "مرحلة أمنية" جديدة على مستوى العالم، على خلفية عودة الهجمات الإرهابية و"الذئاب المنفردة".

وما دفع أكثر باتجاه التفكير في احتمال عودة نشاط الجماعات الإرهابية وخصوصا "داعش" والتنظيمات المرتبطة به، هو تزامن هجوم الأحد في سيدني، مع الهجوم الذي حصل السبت في تدمر بسوريا واستهدف دورية مشتركة لقوات الأمن السورية والجيش الأميركي، وأسفر عن مقتل جنديين أميركيين إضافة إلى مترجم يعمل معهما ناهيك بعدد من الجرحى. كما تبنى "داعش" الثلاثاء الهجوم الذي أودى الأحد بأربعة عناصر أمن في شمال غربي سوريا (جنوب إدلب). كما رُصدت، الاثنين، حواجز مؤقتة "طيّارة" في ريف حلب وريف دير الزور، أقامتها عناصر مسلّحة ترتدي زياً عسكرياً يحمل شارات "داعش"، وذلك وفقا لما نقله المرصد السوري لحقوق الإنسان.

هجوم سيدني يطرح السؤال عما إذا كانت التنظيمات الإرهابية قد تحولت إلى استهداف اليهود، متسللة من خلف المعارضة غير المسبوقة لإسرائيل في مختلف أنحاء العالم على خلفية حرب الإبادة ضد غزة

فالسؤال الأول الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت ثمة صلة بين الهجمات في سوريا وأستراليا؟ وإذا كانت الإجابة على هذا السؤال صعبة الآن بل ومستحيلة في ظل عدم صدور أي تحقيقات رسمية وموثوقة تبين هذه الصلة، فإنه لا مناص من طرح أسئلة بخصوص هذه الهجمات، كل على حدة. فالهجمات في سوريا تدفع إلى السؤال عما إذا كان تنظيم "داعش" أو جماعات أخرى متماهية معه، تستغل سياسات الحكم الجديد بالانفتاح على الغرب وبالأخص الولايات المتحدة، والشروع في التفاوض مع إسرائيل، لتنشط من جديد تحت عنوان معارضة هذه السياسات، وتبني خطاب مناهض لإسرائيل ضد الرئيس السوري أحمد الشرع، أي كما لو أنها تحاول اكتساب "شرعية" جديدة ضمن البيئات الجهادية من خلال معارضة السياسات السورية تلك.

أ ف ب
مشيعون يتفاعلون قرب أكوام من النصب التذكارية التي أقيمت تخليداً لذكرى ضحايا حادث إطلاق النار على شاطئ بوندي في سيدني، 16 ديسمبر

أما هجوم سيدني فيطرح السؤال عما إذا كانت التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها "داعش" قد تحولت إلى استهداف اليهود، متسللة من خلف المعارضة غير المسبوقة لإسرائيل في مختلف أنحاء العالم على خلفية الحرب الإبادية التي شنتها ضد قطاع غزة. أي ما إذا كان "داعش" قد تبنى استراتيجية جديدة تهدف إلى استغلال المزاج الشعبي المناهض لإسرائيل على مستوى العالم، من خلال تنفيذ هجمات ضد اليهود في مختلف البلدان والإيحاء بأنها رد على الحرب الإبادية الإسرائيلية في غزة، وهو ما يشكل خطورة استثنائية على مناصرة حقوق الشعب الفلسطيني في العالم أجمع، على اعتبار أن محاولة الجماعات المتطرفة  التسلل من وراء هذا المزاج العالمي المناهض لإسرائيل لاستهداف اليهود، قد تربك خطاب المناهضين للسياسات الإسرائيلية حول العالم، تحت ضغط الخطاب الإسرائيلي المركز الذي يربط بين استهداف اليهود ومعادة السامية وبين صعود خطاب معارضة إسرائيل دوليا على خلفية حرب غزة.

لا يمكن التردد لحظة في القول إن هجمات من هذا النوع تخدم فعلا السردية الإسرائيلية الراهنة التي تسعى إلى إعادة إنتاج صورة إسرائيل- الضحية على المستوى الدولي

كذلك من الواضح جدا أن هذه الهجمات الإرهابية لا تخدم سوى سياسات بنيامين نتنياهو وحكومته، إذ ترفد سرديتهم القائمة على الربط بين معارضة سياساتهم وبين معاداة السامية بذرائع جديدة على قاعدة أنه لا فرق بين معارضة الحكومة اليمينية الإسرائيلية وبين مهاجمة اليهود كأفراد حول العالم. ولذلك سرعان ما حاول بنيامين نتنياهو استغلال هجوم سيدني لتأكيد أحقية سرديته تلك، إذ ما لبث أن وقع الهجوم حتى اعتبر "بيبي" أنه نتيجة تساهل الحكومة الأسترالية مع معاداة السامية. ثم ذهب وزير المال في حكومته بتسلئيل سموتريتش أبعد منه من خلال القول إن الهجوم هو نتيجة اعتراف أستراليا بالدولة الفلسطينية.

ولذلك فإنه لا يمكن التردد لحظة في القول إن هجمات من هذا النوع تخدم فعلا السردية الإسرائيلية الراهنة التي تسعى إلى إعادة إنتاج صورة إسرائيل - الضحية على المستوى الدولي بعد الرضوض القوية التي تعرضت لها خصوصا في العالم الغربي، في وقت كانت إسرائيل وطيلة عقود من الزمن تدعي المظلومية التاريخية على خلفية الاضطهاد الممنهج وموجات معاداة السامية التي تعرض له اليهود في أوروبا وبلغت ذروتها على يد النازيين خلال الحرب العالمية الثانية. فإذا بحرب غزة التي سقط فيها على أقل تقدير أكثر من 70 ألف قتيل من الفلسطينيين، تصور إسرائيل على أنها الضحية التي تحولت إلى جلاد، أو أنها ليست الضحية التاريخية الوحيدة، إذ إن الشعب الفلسطيني أيضا هو ضحية الآلة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، وهذا تحول كبير من نتائج حرب غزة، لا تستخف به إسرائيل أبدا وتحاول التصدي له، ولذلك ثمة من يتحدث في إسرائيل اليوم عن جبهة ثامنة، إضافة إلى الجبهات العسكرية السبع التي فتحتها إسرائيل في الشرق الأوسط، وهذه الجبهة الثامنة هي جبهة على مستوى العالم وتتعلق باحتواء ومحاصرة التيارات الشعبية والسياسية المناهضة لإسرائيل بسبب حربها على قطاع غزة. والأخطر على إسرائيل أن هذا التحول في فهمها وتصورها على مستوى العالم يتزامن مع احتقانات اقتصادية واجتماعية في الدول الغربية تحفز على مناهضة إسرائيل كجزء من مناهضة الحكومات المحلية الداعمة لها، ولذلك لم يعد مستغربا رفع العلم الفلسطيني في تظاهرات معارضة لسياسات الحكومة الاقتصادية في أي مدينة غربية.

حاول نتنياهو أن يستغل هجوم سيدني للقول إن "يهود الشتات" لم يعودوا آمنين، ومرة جديدة فإن إسرائيل هي ملجؤهم الآمن

وهذا سبب إضافي لاستشعار الخطر من جراء هجوم سيدني وما إذا كان يؤشر إلى إمكان وقوع هجمات إرهابية أخرى ضد اليهود في العالم، إذ إنه يدعم اليمين المتطرف الإسرائيلي في خلق وعي مضاد من خلال إعادة تركيز وتظهير الدمج بين معادة السياسات الإسرائيلية الراهنة وبين معاداة السامية، بحيث يصبح أي رأي أو سياسة مناهضة للحكومة الإسرائيلية معاديا للسامية حكما، مع العلم أن يهوداً كثراً حول العالم ولاسيما في الولايات المتحدة تظاهروا وعبروا عن معارضتهم للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وقد كان انتخاب شريحة واسعة من اليهود في نيويورك عمدة المدينة الجديد زهران ممداني الداعم لحقوق الشعب الفلسطيني دليلا واضحا على اتساع موجة مناهضة الحكومة الإسرائيلية في أوساط اليهود في أميركا. وبالتالي فإن هجوم سيدني يمكن أن يطرح تعقيدات أمام تيار مناهضة إسرائيل حول العالم في حال لم يُعد هذا التيار تظهير موقفه المعارض لإسرائيل ولمعاداة السامية في آن معا في مواجهة محاولات نتنياهو وحكومته للدمج بين الأمرين، في وقت أن أقصى اليمين الأوروبي الذي كان تاريخيا معاديا للسامية هو اليوم من أكثر الداعمين لإسرائيل على اعتبار أن انتصارها هو انتصار الحضارة الغربية، وهذا عامل تعقيد إضافي، إذ إن هذا اليمين المتطرف الذي يناهض المهاجرين و"الإسلام الأوروبي"، قد يستغل هو الآخر مثل هذه الهجمات الإرهابية لتكثيف حملاته وتركيز خطابه المنحاز.

أ ف ب
وضع المشيعون الشموع خلال مراسم تأبين الفرنسي دان إلكيام، أحد ضحايا إطلاق النار على شاطئ بوندي في سيدني، بمنطقة لو بورجيه شمال فرنسا، في 16 ديسمبر

من جانب آخر فإن نتنياهو الذي يحاول تصوير نفسه كمنقذ وحيد لإسرائيل- في وقت أن الحرب الأخيرة أظهرت أن إسرائيل لم تعد "الملجأ الآمن" ليهود العالم كما صورتها الحركة الصهيونية تاريخيا- حاول أن يستغل هجوم سيدني للقول إن "يهود الشتات" لم يعودوا آمنين، ومرة جديدة فإن إسرائيل هي ملجؤهم الآمن... ومن جانب آخر فإن أي ربط بين هجوم سيدني والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من باب أن هذا الهجوم هو للانتقام من إسرائيل وللثأر للشعب الفلسطيني، هو ربط يخدم أيضا السردية الإسرائيلية على اعتبار أن إسرائيل دوما في حال دفاع ضد أعدائها وليست أبدا دولة معتدية أو محتلة بينما هي توسع احتلالاتها في فلسطين التاريخية وفي سوريا ولبنان، كما تواصل التنكيل بالفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. في وقت أن الفوارق بين أجندة الحكومة الإسرائيلية في فلسطين وسوريا وحتى لبنان وأجندة الإدارة الأميركية في المنطقة، يجعل نتنياهو أكثر تحفزا لاستغلال أي حدث عبر العالم يستهدف اليهود كنافذة سياسية له في مواجهة ضغوط الداخل الإسرائيلي وضغوط واشنطن عليه للالتزام باتفاق وقف إطلاق النار في غزة على اعتبار أن سياسات نتنياهو باتت تضر بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

هجمات "داعش" في سوريا في الأيام الأخيرة وبالتزامن مع هجوم سيدني تترك علامة استفهام كبيرة

لذلك كله فإن هجوم سيدني خطير ومليء بالدلالات، فإضافة إلى أنه يطرح سؤالا حول احتمال أن يكون مقدمة لهجمات مماثلة على مستوى العالم في ظل احتمال أن تكون الجماعات الإرهابية وأبرزها "داعش" قد تبنت استراتيجية جديدة في استهداف اليهود، فإنّ حدوثه في لحظة دولية استثنائية تشهد تحولا دوليا في النظرة إلى إسرائيل حتى داخل الولايات المتحدة، على خلفية حرب غزة، ربما يعيد خلط الأوراق ويمكّن حكومة اليمين الإسرائيلي وحلفائه حول العالم من إعادة تركيز الربط بين مناهضة سياساتهم ومعادة السامية، ناهيك بفكرة "صراع الحضارات"، في محاولة لاحتواء التيار الشعبي المناهض لإسرائيل في الغرب وخلق وعي مضاد، كما أنه على المستوى السياسي فإن هجوم سيدني قد يحفز إسرائيل على تجويف الاعتراف الدولي الواسع بالدولة الفلسطينية، من خلال اتهام الدول المعترفة بفلسطين بالتساهل مع معاداة السامية، والربط بين هذا الاعتراف وبين تنامي مظاهر معاداة السامية والهجمات ضد اليهود. ولم يكن قليل الدلالة في هذا السياق مسارعة نتنياهو إلى وصف أحمد الأحمد الذي ألقى القبض على أحد منفذي الهجوم بسيدني على أنه "بطل يهودي"، ومسارعة رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي للرد عليه بالقول إنه "بطل أسترالي"، بعدما تبين أنه سوري من إدلب، وهو ما يعكس حقا حجم الاحتقان الدولي إزاء خطاب نتنياهو وسياساته...

وبالعودة إلى سوريا، فإن هجمات "داعش" هناك في الأيام الأخيرة وبالتزامن مع هجوم سيدني تترك علامة استفهام كبيرة حول الترابط بين هذه الهجمات من ضمن استراتيجية واحدة لـ"داعش"، وهذا ما يجعل المخاطر مضاعفة والأسئلة مفتوحة، ناهيك بالاتهامات الإسرائيلية لإيران بالوقوف وراء هجوم سيدني، وهذا يتخطى محاولة إسرائيل مراكمة الذرائع لشن هجوم جديد على إيران، إذ أنه في الوقت عينه قد يؤمن غطاء للجماعات الإرهابية للتلطي حول موقف إيران والتنظيمات الحليفة لها في المنطقة والتي قد تسعى لتوجيه ضربات مضادة لإسرائيل، للتحرك وفق أجندتها الخاصة!

font change