القروض الاستهلاكية تستنزف الأسر المصرية

زيادتها مقلقة نسبة الى معدل الأجور... والمصارف أكبر المستفيدين

أ.ف.ب.
أ.ف.ب.
مركز تجاري في مدينة نصر، شرق مصر، 21 فبراير 2013

القروض الاستهلاكية تستنزف الأسر المصرية

نشرت صحيفة "المصري اليوم" في أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، تقريرا يتعلق بالديون الاستهلاكية في مصر وظاهرة نموها المضطرد. كشف أن حجم القروض الاستهلاكية قد يصل إلى 100 مليار جنيه مصري في نهاية 2025، أي نحو ملياري دولار. لا شك أن هذه الظاهرة ليست مصرية فقط فهي ظاهرة عالمية وتشمل الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين والعديد من الدول الصناعية والنامية.

لكن ارتفاع الديون الاستهلاكية أو نموها في بلد مثل مصر مثير للقلق، حيث ترتفع معدلات الفقر ويتدنى معدل الرواتب والأجور. فعندما يتحول أداء الدين وفوائده إلى بند أساس في موازنة الأسرة، تزداد المتاعب على المجتمع وتؤدي إلى توترات نفسية وعائلية واجتماعية صعبة.

تعززت ظاهرة الديون الاستهلاكية بفعل ارتفاع شهية الاستهلاك وتحول العديد من السلع الكمالية إلى سلع أساسية مع مرور الزمن، وتنامي سلوكيات محاكاة الآخرين في مختلف المجتمعات الانسانية.

تعاظمت وتيرة الاستهلاك المترف منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وأصبحت الوجاهة أمرا أساسيا في حياة أبناء الطبقة الوسطى

وكرست تحولات المجتمع المصري السياسية والديمغرافية منذ بداية عصر الانفتاح الظواهر الاستهلاكية المفرطة، خصوصا بعد تزايد أعداد الأثرياء الجدد، وتنامي المظاهر بينهم، مما رفع نسبة المحاكين استهلاكيا بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة. هذه السلوكيات تحتاج الى التمويل الذي عزز القروض الاستهلاكية.

لماذا انتشرت ثقافة الاستهلاك؟

تعاظمت وتيرة الاستهلاك المترف منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وأصبحت الوجاهة أمرا أساسيا في حياة أبناء الطبقة الوسطى، كما أن تمكن العديد من المصريين من الحصول على وظائف والعمل في دول الخليج، رفع مداخيل العديد من الأسر المصرية التي أصبحت قادرة على التمتع بالاستهلاك واقتناء السلع الكمالية. انفتحت الأسواق للبضائع والسلع المستوردة من الخارج وشملت الملابس والسلع المعمرة، مثل الثلاجات والغسالات والمكيفات، بالإضافة إلى السيارات.

Shutterstock
تجارة السيارات ناشطة في مصر

ولا بد أن يثير وجود هذه السلع في الأسواق شهية المستهلكين بما يدفعهم إلى البحث عن مصادر التمويل.

في السنوات الأخيرة ارتفع الطلب على الهواتف الخليوية التي أصبحت أساسية لكل فرد في المجتمع المصري. وقياسا بمعدلات الدخل، تظل أسعار هذه الهواتف مرتفعة نسبيا. كما ازدادت أعداد المجمعات التجارية أو المولات وتنوعت المحال التجارية الجاذبة للاستهلاك. تزايدت أعداد المطاعم والمقاهي في هذه المولات، وصارت من المزارات الأساسية للشباب وكبار السن على الرغم من ارتفاع أسعار مشروباتها ومأكولاتها، مقارنة بالتكاليف الحقيقية لهذه المنتجات البسيطة التي يمكن المستهلك توفيرها في المنزل. وأدى الدور الواسع للإعلان، أكان من خلال الوسائط الاعلامية أم منصات التواصل الاجتماعي، الى الاستهلاك غير المبرر أو غير الضروري في كثير من الأحيان.

المصارف مستفيدة من توسع القروض الاستهلاكية

ارتفع حجم التمويل الاستهلاكي من 8.4 مليارات جنيه في عام 2020 إلى 61.3 مليارا في عام 2024. ونتيجة لارتفاع معدل التضخم خلال السنوات الماضية، فإن الاقبال على التمويل الاستهلاكي في ارتفاع مستمر. وساهمت شركات التكنولوجيا المالية "فنتك"، في تسهيل الحصول على القروض الاستهلاكية.

ارتفع حجم التمويل الاستهلاكي من 8.4 مليارات جنيه في عام 2020 إلى 61.3 مليارا في 2024. وعلى الرغم من التضخم يستمرالاقبال على التمويل الاستهلاكي في ارتفاع مستمر، وتسهل شركات الـ"فنتك" الحصول على القروض

ومن البديهي ان تجد المصارف في التمويل الاستهلاكي، كما في كل دول العالم، مجالا خصبا لتحقيق الدخل والأرباح، ولذلك ابتدعت أساليب جاذبة وعززت التسهيلات للحصول على هذه القروض في ظل منافسة حادة بين البنوك المصرية. وجاءت قروض شراء الأجهزة الكهربائية والالكترونيات في المرتبة الأولى، ومثلت 28.5 في المئة من حجم التمويلات في الربع الثاني من عام 2024. من بعدها مثلت تمويلات شراء السيارات والمركبات 23.4 في المئة. يلاحظ أيضا، أن خفض البنك المركزي المصري سعر الفائدة زاد شهية المقترضين لهذه التمويلات.

القروض الاستهلاكية والتسهيلات الاجمالية

وذكر تقرير نشرته صحيفة "أموال الغد" أن المصارف المصرية منحت تسهيلات ائتمانية حتى نهاية مايو/أيار 2025 تجاوزت قيمتها 9.2 تريليونات جنيه (نحو 190 مليار دولار)، مرتفعة بمقدار 840.7 مليار جنيه (نحو 16 مليار دولار) عن مستواها في نهاية العام المنصرم، 2024. هناك في طبيعة الحال، الديون للمؤسسات الحكومية التي تلعب دورا محوريا في الاقتصاد المصري ،وهذه التسهيلات ممنوحة بالجنيه المصري والعملات الأجنبية.

Shutterstock
بنك مصر الوطني في القاهرة، 21 يوليو 2023

يشير الدكتور مدحت نافع في مقال نشرته "المصري اليوم" الى أن التمويلات الموجه للأفراد لم تشهد تمويلات كبيرة للعقار، كما هي الحال في الولايات المتحدة. كما أن شركات التمويل المتخصصة ليس لها حضور كبير في مصر. ويضيف أن مصر "شهدت في السنوات الأخيرة طفرة في منح القروض الشخصية وبطاقات الائتمان والتسهيلات الاستهلاكية، سواء عبر المصارف أو عبر شركات التمويل غير المصرفية". وهذه القروض لا توجه لأصول قابلة للرهن، كما هي الحال في التمويل العقاري. وحذر من لجوء المقترضين إلى أساليب تأدية استحقاقات الديون من خلال استخدام البطاقات الائتمانية. في سياق البيانات المتوفرة، فإن عدد المقترضين للتمويل الاستهلاكي في مصر تعدى 2.3 مليون في بداية العام الجاري.

نفقات تتجاوز المداخيل  

هناك العديد من الأفراد في مختلف دول العالم يعيشون حياة استهلاكية تتجاوز مقدراتهم المالية ومداخيلهم الطبيعية والقانونية. يقدر متوسط دخل الفرد في مصر 3,174 دولارا، وبلغ الناتج المحلي الإجمالي المقدر لعام 2025 نحو 347 مليار دولار، في حين قدر عدد السكان لهذا العام 108 ملايين نسمة.  يعني ذلك أن متوسط دخل الفرد الشهري لا يتجاوز 264 دولارا. لا بد من الاقرار بأن هذا المعدل الشهري للدخل الفردي يعتبر متواضعا، قياساً بالمتطلبات الحياتية أو المعيشية الأساسية.

تكاليف الغذاء والشراب زادت بنحو 200 في المئة تقريبا خلال السنوات القليلة الماضية. ويمثل الغذاء أهم مكونات نفقات الأسرة، وتبلغ نسبته 37 من ميزانيتها

بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء

تذكر بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أن تكاليف الغذاء والشراب زادت بنحو 200 في المئة تقريبا خلال السنوات القليلة الماضية. ويمثل الغذاء أهم مكونات نفقات الأسرة، وتبلغ نسبته 37 من ميزانيتها. وارتفعت التكاليف بعد تراجع سعر صرف الجنيه، إذ يبلغ سعر صرف الدولار في الوقت الحالي ما يقارب 50 جنيها، مما أدى إلى ارتفاع معدل التضخم ولم تتغير المداخيل بشكل كاف.

Shutterstock
متجر لبيع الأجهزة الكهربائية، القاهرة، 30 أكتوبر 2025

 لا بد من الأخذ في الاعتبار تكاليف السكن والتعليم التي تمثل مكونات مهمة في الإنفاق الأسري. هذه عوامل تدفع المصريين أو عددا كبيرا منهم، للجوء للاقتراض ومواجهة استحقاقات المعيشة.

إصلاحات بنيوية تنتظر معالجات جذرية

تواجه مصر كدولة مشكلات اقتصادية بنيوية حيث زادت تكاليف الإدارة الحكومية، وتوسعت عمليات الانفاق الرأسمالي خلال السنوات الأخيرة لإنجاز مشاريع البنية التحتية وتطوير مشروع "القاهرة الجديدة" أو العاصمة الإدارية، حيث قدرت تكاليفها بـ 25 مليار دولار. ارتفعت الديون الخارجية إلى ما يقارب 161 مليار دولار، وهناك استحقاقات دفع خدمة هذه الديون، ناهيك عن التزامات الديون المحلية على الدولة.

إقرأ أيضا: طموح لتحويل خليج سوما إلى موناكو البحر الأحمر

وأعلنت الحكومة المصرية موازنة العام المالي 2025 / 2026 التي بلغت 4.6 تريليون جنيه، نحو 92 مليار دولار، في حين أن الإيرادات 3.1 تريليونات جنيه، أي نحو 62 مليار دولار، بعجز قدره 30 مليار دولار. وهذه الأرقام تتطلب إصلاحات، ومعالجات سياسية واقتصادية ناجعة من القيادة المصرية، تساهم في معالجة الأوضاع المعيشية للمواطنين وتخفف وقع الديون الاستهلاكية.

font change

مقالات ذات صلة