"رومانسية التضامن"... أيهما أولا الأدب أم القضية؟

أسماء تتصدر المشهد من باب "السوشال ميديا"

REUTERS/Toby Melville
REUTERS/Toby Melville
حمامة ترمز إلى السلام بألوان العلم الفلسطيني تظهر على قميص أحد المتظاهرين خلال مسيرة نظّمتها حملة التضامن مع فلسطين أمام مكاتب لوكهيد مارتن في بريطانيا، للمطالبة بحظر تسليح إسرائيل، 8 أكتوبر 2025

"رومانسية التضامن"... أيهما أولا الأدب أم القضية؟

خلال حرب الإبادة التي لم تتوقف رغم إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب الصوري عن وقف إطلاق النار، تعاظم التضامن الإنساني في دول العالم رفضا للمجازر ولعمليات القتل الممنهجة والتصفية الشاملة للبشر والحجر في قطاع غزة.

صاحب الغضب على جرائم الاحتلال الإسرائيلي تنامي شعور قهري بضرورة التحرك لفعل شيء من شأنه أن يفضح هذه الجرائم. وفي سياق مواز، إنما لا يقل أهمية في سياق نشاطات المقاطعة والتظاهر والاحتجاج السياسي، استدعي الأدب والفن لتعزيز سردية الضحية في كشف زيف سردية الجلاد. فالأصوات التي تكتب من غزة وتلك التي تصور وترسم وتسجل المعاناة خلال حرب الإبادة قادرة على تقديم شهادات حية وموثقة من قلب اللهب. وفيما تكمن قوة هذه النصوص أو الأعمال الفنية في أنها تصهر ذاتها من أتون الإبادة وتصوغ أدواتها من فوهة البركان، إلا أن عمليات ترويجها وربما "تسويقها" عكست "مغالاة" افتقرت للحس الأدبي والفني، بل وعملت أحيانا على تجاهلهما بغية تأكيد مشروعية النتاجات الأدبية والفنية المتبناة وفق منظومة وشبكة متداخلة من العلاقات العامة والشخصية.

صورة مغلوطة

وبدلأ من أن يصبح الفن والأدب هو حامل حكاية الناجين، صارت خطابات التضامن ومروجوها وربما العاملين فيها هي حاملة هذين الأدب والفن. في هذه العملية تطورت صناعة جديدة تكمن في صناعة أدب وفن الإبادة ليس وفق ما ينتجه الكتاب الحقيقيون أو الفنانون العاملون في غزة تحت النيران، بل وفق أسس ومعطيات يصوغها المروجون ضمن "ماكينة" صناعة التضامن، التي ليست في الحقيقة إلا رومانسية وعاطفة بحتة في التعاطي مع الإبادة الجارية، ويمكن لمن عاش الإبادة، مثلما فعلت خلال الأشهر الثلاثة الأولى منها، أن يقول إنها رومانسية محمودة مع ذلك.

إلا أن هذه الخطابات مست جوهر الإبداع الفلسطيني وكنهه، وقدمت صورة مغلوطة في الكثير من السياقات عن المنتج الفني والأدبي في قطاع غزة. يكمن جوهر التضامن في التعبير عن الغضب مما يجري وإعلان مساندة الضحية، لذلك وبغية تحقيق أكبر قدر من الفعالية يوظف كل شيء، والكتابة والفنون البصرية والسمعية هما الأقدر على تقديم حياة الناس ببعدها الإنساني. وهذا الفهم هو الذي دفع بعد فترة من حرب الإبادة إلى الالتفات للمنتج الأدبي والفني في غزة وتقديمه ضمن خطاب التضامن كشاهد على الإبادة.

ضمن عمليات انتقاء وشبكة علاقات عامة، وفي سياقات غير أدبية وغير فنية، قدمت نصوص لم يكن همها المنتج بقدر المقدرة على ترويجه وتوظيف هذا الترويج

ظهرت الكثير من الإصدارات والكتب الجماعية والفردية التي سجلت شهادات الشعراء والروائيين والفنانين ضمن الفهم نفسه القائم على ضرورة إطلاق سردية وطنية تكشف وتفضح جرائم الإحتلال وتسلط الضوء على إنسانية البقاء والصمود دون إغفال النقاش الوطني العام ولا مقولات التحرر والكفاح الوطني والدفاع عنها. ساهمت في ذلك المؤسسات الرسيمة والأهلية ودور النشر الفلسطينية والعربية. ولابد من الالتفات للكثير من المبادرات الجادة التي كان يقوم بها أفراد من خارج غزة في تعميم نصوص غزة خاصة تعليقات ومشاركات الدكتور عادل الاسطة مثلا ورنا بشارة وروض الدبس، ولابد أنني ظلمت البعض ممن لم يحالفني الحظ بتذكر مساهمته رغم أن الأسماء السابقة، ومن موقع المتابعة اليومية، هي الأكثر حضورا حين يتعلق بتعميم نصوص كتاب غزة عبر جهد ذاتي بحت ونشاط فردي خالص.

ومع توسيع دائرة الاهتمام لتضم المتضامنين الأجانب والمؤسسات والجمعيات الأوروبية العاملة والفاعلة في إسناد نضال الشعب الفلسطيني ورفض الإبادة، ظهرت مشكلة حقيقية في الجهود المبذولة التي سعت إلى "توظيف" هذا الأدب لا إلى الكشف عن قوة أخرى من مصادر قوة الشعب الفلسطيني الكامنة في أدبه وفنه وجماليات ما ينتجه من أعمال رغم الإبادة، بل لتسخير هذه الكتابات و"اختراع" كتابات وكتب وكتاب ينتجون نصوصا تتواءم مع هذه السردية الرومانسية ومع غاياتها. وبذلك وضمن عمليات انتقاء وشبكة علاقات عامة، وفي سياقات غير أدبية وغير فنية، قدمت نصوص وكتاب لم يكن همها المنتج بقدر المقدرة على ترويجه وتوظيف هذا الترويج. وفي حين لابد من التنويه بأن كل من عاش الإبادة يمكن له أن يكتب كتابا بل ربما أكثر من كتاب عن تجربته وعما عاناه خلال ذلك، إلا أن ما تم أمر مختلف تماما. إذ تحكمت شبكة معقدة وبسيطة في الوقت نفسه من العلاقات العامة والتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي في تقديم مجموعة مهولة من النصوص والمساهمات والكتب في مجالات الأدب المختلفة كشواهد على وقع الإبادة وفتكها بالناس، وبالتالي تقديم صورة مكثفة عما يجري.

ومع ذلك فإن الهم الأساس لمروجي هذه النصوص ليس الأدب ولا الفن بقدر فكرة التضامن نفسها. بذلك لم يسلط الضوء على حقيقة الكتابة الفلسطينية وقوة الأدب الفلسطيني، وهو ما نراه في حالة ترويج الأدب الإسرائيلي مثلا، بل لأنه يصعب تقديم كتابات روائيين وشعراء حقيقيين وكبار بوصفها نصوصا تسجيلية وخطابية، كما أن مساهمات الكتاب الحقيقيين لا تكون وفق الطلب والاحتياج، بالتالي لا يمكن نظمها في مسار الخطابات المطلوبة، ولكل ذلك استعين بما يمكن إنتاجه من نصوص مخصصة لهذه الغاية.

ماكينة شبكات التضامن

فخلال صناعة التضامن تقدم أسماء جديدة في عالمي الفن والأدب بوصفها المعبر الحقيقي عن اللحظة. وربما يكون الأمر أوضح وأسهل بالنسبة إلى لعاملين والنشطاء حين يتعلق الأمر بالأدب، لأن اللوحة الفنية فعلا يمكن أن تعكس مهارة لا يكمن تقمصها، اما في حالة الكتاب فالمطلوب نص يتم العمل على تحريره وترجمته وتقديمه. مثلا، في حقل الأدب يظهر فجأة شبان وشابات يكتبون باللغات الأجنبية مباشرة دون أن يكونوا مزدوجي اللغة بمعني أن اللغة الأجنبية، وفي أغلب الحالات الإنكليزية، ليست لغتهم الأم ولا هي لغتهم الثانية حتى وفي أحسن الحالات تعلموها في الجامعات المحلية، كما لم يسبق لهم كتابة قصيدة واحدة بالعربية، أو قصة أو خاطرة حتى، ويقدمون إلى القارئ الأجنبي ككتاب محترفين، لأنه يسهل التحكم بما "سيكتبونه" أو بما سيطلب منهم كتابته حتى يتوافق مع سردية التضامن التي تكمن مهمتها الأساسية في الحفاظ على هذه الصناعة، فاستمرارها يعني استمرار ما يترافق ويتزامن وينتج عنها من نشاطات اجتماعية وسياسية.

AFP / Joe Lamberti
طفلة ترسم بطيخة خلال فعالية "اليوم العالمي للطائرات الورقية من أجل فلسطين" تعبيرا عن التضامن مع الفلسطينيين في فيلادلفيا، 25 مايو 2025

ويرافق ذلك ظهور أسماء جديدة أو تسليط الضوء على أصوات صاعدة، بعضها يمكن الإقرار بأنه يملك موهبة، لكن ومع تسليط الضوء بكثافة على هذه الموهبة وأمام الانتفاخ الزائد والشعور الفائض بالنجاح (وهو ليس نجاحا له أو لها بل لعازفي التضامن) يحترق ويتوقف نموه.

يظهر فجأة شباب يكتبون باللغات الأجنبية مباشرة دون أن يكونوا مزدوجي اللغة ويقدمون إلى القارئ الأجنبي ككتاب محترفين، لأنه يسهل التحكم بما "سيكتبونه"


وقد نجحت بعض شبكات التضامن في ترجمة مختارات ووزعتها على نطاق واسع، وأوصلتها إلى نقاط توزيع الكتب، مثلما حدث لمجموع مختارة من قصائد متنوعة لشعراء من غزة ومن خارجها، ولكن لم تنبع قوة التوزيع من جودة القصائد نفسها، بل من حقيقة أن ريع الكتاب يذهب لدعم غزة وهو ما يشجع أي متضامن يقبل على شراء الكتاب، تحت وطئة الحاجة للتعبير عن الغصب مما يجري. وبالطبع عند ترويج هذه الكتاب يكون الحرص على وضع اسم غزة بخط عريض على غلاف الكتاب اكبر من اسم الشعراء وأكبر من عنوانه الأصلى، لأن الغاية الأساسية من وراء ذلك هو البيع واستقطاب الناس للتضامن لا الشعر نفسه. وللحقيقة فإن المؤلم أن أسماء شعراء حقيقيين وربما الشعراء الأبرز في غزة تغيب عن مثل هذه المختارات مقابل حضور أصحاب حسابات "إنستاغرام" و"فيسبوك" التى تحظى بالمتابعة.

تعميم مصطلح "غزاوي"

إن المتضامن القلق والمتلهف وصاحب الضمير الحي يريد أن يعزز فكرة تضامنه ويعممها بين جمهور المواطنين الآخرين، وهو في سبيل ذلك يوظف كل شيء. مثلا، مع تنامي التضامن صار شائعا توظيف عناصر الفولكلور الفلسطيني في تعزيز صورة المتضامن في الشارع الأوروبي، حيث يتم ذلك من خلال الكوفية ونصف البطيخة والخريطة ورسم حنظلة، وقطعة تطريز، وسلسلة معلقة في أسفلها كلمة فلسطين أو غزة. التضامن الفولكلوري هذا جعل من فلسطين معادلا للظلم وللبحث عن العدل في العالم.

AFP / Anna Kurth
متظاهر يرتدي الكوفية خلال تجمع تضامني مع الفلسطينيين في باريس احتجاجا على اعتراض البحرية الإسرائيلية لأسطول "الصمود العالمي"، 4 أكتوبر 2025

وضمن هذا الفهم والتسويق لا تهم جودة محتوى التضامن، إذ أن فكرة التضامن بذاتها هي الأساس، لذلك فإن النص الشعري أو والنثري ليس مهما بقدر إشارته بشكل مباشر لما يجري ومقدرته على كسب التعاطف من خلال الحديث عن الإبادة. في هذا يتم اقتباس نصوص وعبارات من كتاب وشعراء بوصفها نموذج الكتابة الفلسطينية الجادة، في استخفاف واضح وجهل غير مبرر بتدفق الأدب الفلسطيني وغزارته ومساهمات كتاب وشعراء فلسطين الكبار، والأهم يشكل هذا استهتارا بدور الأدب والثقافة الفلسطينية في التعبير عن القضية الوطنية

هكذا، اختصرت فلسطين في غزة، وطور مصطلح "غزاوي" وأدب غزاوي وفن غزاوي وما إلى ذلك. وبدلا من تعميم التجربة في غزة لتشمل فلسطين بترت السردية الفلسطينية باستبدالها بسردية "غزية" بحتة. ومع ذلك فإن عملية البتر هذه بدأت في فترة أبكر من حرب الإبادة وكانت تدار للأسف في مرات كثيرة في محطات إعلامية عربية وفي دوائر مثقفين ونخب عربية، وفي الكثير من الأحيان أيضا بدافع الحب والتبجيل لغزة.

أمام الاهتمام الكبير الذي حظى به الأدب الفلسطيني المقاوم في العالم العربي بعد غسان كنفاني، الذي كان أول من التفت لما عرف لاحقا بـ "أدب المقاومة"، وبعد الاحتفاء الكبير بمحمود درويش بعد وصوله للقاهرة في سبعينات القرن الماضي، والمديح الكبير الذي تلقف به شعر المقاومة، عبر درويش عن مخاطر هذا الاهتمام الفائض عن الحاجة بعبارته "ارحمونا من هذا الحب"، ليس رفضا لهذا الاحتفاء ولا طلبا لعدم الاهتمام بل إدراكا لعواقب مثل هذا "البذخ" في الاهتمام، على الكثير من المواهب والكتابات. ومع اختلاف السياق والغايات فإن ثمة صرخة مستحقة اليوم تشبه صرخة درويش.

المؤلم أن أسماء شعراء حقيقيين وربما الشعراء الأبرز في غزة تغيب عن مثل هذه المختارات مقابل حضور أصحاب حسابات "إنستغرام" و"فيسبوك"

ولعل الاهتمام الأوروبي شبه المنعدم بالأدب الفلسطيني مثار نقاش ومقالة آخرى، لكن وجب التنويه إلى أن ما يجري ليس اهتماما بالأدب بل بالحالة التي تنتج النص، وعليه لا يعود النص مهما بقدر أهمية السياق والتجربة اللذين يعززان مقولات التضامن، فليس مهما إذا ما كان ما يعمم بوصفه شعرا حقيقيا أو سردا مبدعا، لأن المهم هو تلك العبارات التي تحفز التضامن وتعزز مقولاته. هذه الرومانسية بقدر اجتهادها المحمود إلا أنها تجافي واقع الأدب والفن الفلسطيني. النص لا يعود مهما وبالتالي الكاتب لا يعود مهما، وعليه فإن ثمة حاجة إلى صناعة كاتب أو شاعر وتقديمهما وهما يحملان شعلة يضيئان لهبها بعبارات جاهزة ومقولات لا تختلف كثيرا عن مقولات الساسة أو تمتلك وخزا خفيفا يقلق راحة الجلد الناعم للسياسة الغربية.

AFP / Omar Al-Qattaa
امرأة ترفع هاتفها لالتقاط إشارة الإنترنت في ميناء مدينة غزة، 14 يونيو 2025، بعد انقطاع خدمات الإنترنت والاتصالات الأرضية في القطاع

في عمليات الصناعة تلك يظهر كتاب وتقدم أسماء لن تجد لها على محرك البحث حتى مدخلا واحد يسرد شيئا عنها أو حولها قبل حرب الإبادة. وتجد شبانا يكتبون شعرا أو نصوصا بالإنكليزية بوصفها اللغة الأكثر انتشارا، فهناك من يحرر لهم النصوص، وتجد شابات يكتبن نصوصا وقصصا وروايات لا أصل لها بالعربية. المطلوب فقط أن تكتب أي شيء يتناسب مع الخطوط العامة التي يمكن الاتكاء عليها لتطوير هذه الرومانسية، والجهة الغربية سواء كانت ناشرا يبحث بدوره عن تسويق سلعة، أو مؤسسة وجمعية تضامنية تبحث عن زيادة فعالياتها وتحشيد الناس اكثر، تتكفل بالتحرير والمراجعة والصياغة وإعادة الكتابة وكل شيء آخر، حتى يظن المرء أن المطلوب فقط أن يكون الكاتب من غزة.

حتى أن هذا لم ينتج اهتماما بالأدب الفلسطيني المكتوب في غزة، فلم نر اهتماما بترجمة هذا الادب والالتفات إلى روائعه، حتى أن حقل الاهتمام اقتصر على مساهمات الكتاب في أدب الإبادة إن جاز التعبير وليس في أي شيء آخر. وظلت مدونة الأدب الفلسطيني المكتوب في غزة غائبة عن رومانسية التضامن ودور النشر والجمعيات التي تحول نشاطها لطباعة كتب وبيعها. هذا الماكينة لا تحفل بأي نص أدبي حقيقي من غزة إذا لم يكن عن الإبادة. وظلت مساهمات وروائع الأدب الفلسطيني في غزة طي الكتمان. يصعب أن تجد كتابات الرواد في غزة مترجمة إلى اللغات التي تشهد انفتاحا رومانسيا على سردية الحرب من الإنكليزية والإسبانية والإيطالية والفرنسية، أمثال غريب عسقلاني وزكي العيلة وعبد الحميد طقش ومحمد أيوب وعثمان أبو جحجوح، وهؤلاء باتوا في عالم الغيب، ولا كتابات الكتاب الكبار الأحياء أمثال عبد الله تايه وعثمان حسين ومحمد نصار وسليم النفار وحبيب هنا وغيرهم.

AFP / Omar Al-Qattaa
مشهد عام لمركز رشاد الشوا الثقافي المدمَّر في مدينة غزة، 18 أغسطس 2025، وسط تحذيرات منظمات دولية من مجاعة في القطاع

نشأت في المقابل عملية عكسية، حيث ظهرت أسماء بعضها غير فلسطيني، دورها الكتابة عن غزة. ومرة أخرى، نحتفي بتلك الكتابات، لكنها أيضا لم تأت في سياق النصرة والتضامن بل التوظيف. من المهم مثلا لو أن كاتبا إنكليزيا كتب رواية عن غزة كما فعلت الإيرلندية إيثيل مانين عام 1963 في روايتها "الطريق إلى بئر السبع" وسجلت فيها أحداث النكبة، ولكن ما حدث في حرب الإبادة هو تخصص البعض فقط في الكتابة عن غزة ضمن الاندفاع التضامني أو التوظيفي. بعبارة أخرى صارت الكتابة عادة فولكلورية للتعبير عن التضامن. غير ان ما أشير إليه هنا هو توظيف "الإبادة" لإنتاج كتب مختلفة عن غزة وعن الحرب. وكنت سأسعد لو أن هؤلاء الكتاب كتبوا  قبل الإبادة عن غزة وعن القدس وعن نابلس وعن جنين وعن النكبة، لكن ربما في ذلك الوقت ما كانت تلك الكتب لتجلب لهم الشهرة ولم يكن هناك ماكينة ستحمل كتاباتهم وتعممها.

 بدلا من تعميم التجربة في غزة لتشمل فلسطين بترت السردية الفلسطينية باستبدالها بسردية "غزية" بحتة


فجأة، اكتشفت غزة وسلط الضوء من خلالها على القضية الوطنية الفلسطينية. وكما أسلفنا، فإن التعاطف والتضامن في الكثير من جوانبهما كانا مع الضحية وليس مع القضية، بمعنى أن المحتجين يحتجون ضد ما يجري من سفك دماء بلا رادع، أما النقاش حول الحقوق الفلسطينية ومدى تقبل المتضامن لمقولات الحق الفلسطيني فهذا أمر آخر.

"طوفان" التضامن

وفي السياق نفسه صنع التضامن حالات استثنائية في متابعات صفحات التواصل الاجتماعي. فبقدر ما ظهر مبادرون في حقل المساعدات والمشاريع (وأبناء غزة يفهمون تماما مثل هذا التشبيه ومغزاه) ظهر نشطاء ومثقفون وكتاب على "السوشال ميديا". ولد كتاب فجأة بعد الحرب ممن صار عشرات الآلاف يتابعون صفحاتهم، وهي متابعة تتسم بالإشادة والتشجيع، وبمتابعة صفحاتهم قبل أيام من الحرب يكتشف المرء حالا معاكسة. وأمام "طوفان" التضامن هذا فإن مثل أولئك الكتاب يجدون في هذا دفعا معنويا قويا، هم بحاجة إليه وهم يواجهون الإبادة وخطر الموت اليومي، ومع الإقرار بأن بعض مثل تلك الكتابات يسلط الضوء على نحو جيد على المعاناة الحقيقية، في ظل غياب التغطيات الصحافية الإنسانية الجادة، مقابل التركيز على القتال والنشاطات العسكرية والبلاغات الميدانية والتصريحات العسكرية، والكثير منها قدم مساهمات جادة في الكشف عن الكثير من زيف الأخبار. ومع ذلك فإن هذا البعض انخرط في لعبة "اللايكات" والمشاركات والتعليقات، حتى صار السعي إليها هو الهدف على حساب النص المكتوب. وأيضا، وكما يمكن التوقع، فمع انخفاض وتيرة الحرب مع إعلان ترمب وقف إطلاق النار، فإن المشاركات واللايكات والتعليقات انخفضت على نحو ملحوظ، ومع الوقت ستعود إلى طبيعتها لأنه لن يبقى في الوادي إلا الحجارة كما يقول المثل الفلسطيني.

والأدهى من ذلك أن أصحاب هذه الصفحات يجدون من يهلل لهم ويجمع ما يكتبونه وينشره في كتب تترجم إلى الغات أجنبية وتسوق هذه الكتابات على أنها نماذج "رفيعة" للأدب الفلسطيني المكتوب في غزة. لابد من العودة هنا إلى مفارقة أن صفة الأدب الفلسطيني لا تستخدم ضمن هذه السياقات، بل يشار فقط إلى كلمة "غزاوي" التي هي أكبر "اختراعات" رومانسية التضامن. وهي تستخدم بنطقها العربي في كل اللغات للتدليل على محليتها، على طريقة المستشرقين في استخدام كلمات عربية مثل "أمة" و"شريعة" و"شورى" التي تكتب بنطقها العربي بأحرف لاتينية للتدليل على الفهم العميق للمجتمع العربي. وكثيرا ما كان علي أن احتج على استخدامها في ندوات في أوروبا وأميركا اللاتينية، للقول إنه لا يوجد شيء اسمه "غزاوي" إلا في الإحالة للمكان، لكن لا يوجد شيء "هوياتي" منفصل بهذا الاسم، فلا شيء اسمه الأدب الغزاوي والفرد الغزاوي والشعر الغزاوي. لكن جوقة التضامن بحاجة إلى مثل هذه المصطلحات التي تخلق بنية طيبة من أجل تحفيز الآخرين ولفت انتباههم إلى محتوى التضامن. أضرار جسيمة تقع بحق الأدب الفلسطيني من هذه اللطميات والتسويق الزائف للأدب بوصفه منتجا يخدم تلك الرومانسية المفرطة.

AFP / Carlos Jasso
متظاهرة تلوّح بالعلم الفلسطيني خلال مسيرة نظّمتها حملة التضامن مع فلسطين في وسط لندن للمطالبة بإنهاء الاحتلال والفصل العنصري ووقف تسليح إسرائيل، 29 نوفمبر 2025

في هذه الزحمة، لا يعدو الأدب مهما إذ أن المهم هو التضامن ذاته. مثلا شاعر بقيمة سليم النفار مثلا ربما إلى جانب عثمان حسين، يعد أبرز شاعر في غزة، وحضوره وتأثيره في الحياة الأدبية في القطاع في العقود الثلاثة السابقة لا يمكن تجاوزهما، لاسيما تأسيسه "جماعة الكروان الأدبية" التي تشرفت بإطلاقها مع ناهض زقوت وغريب عسقلاني ومروان برزق وآخرين، والأهم هو أن سليم شاعر معروف ومكرس ولا يمكن الحديث عن الشعر في غزة دون التوقف عند منجزه الشعري وبعض مساهماته الروائية المتأخرة. سليم النفار ما زال تحت الركام هو وزوجته وأطفاله بعد أن قصفت الطائرات الإسرائيلية البناية التي لجأ إليها في الأسبوع الأول من ديسمبر/ كانون الأول 2023. وإلى جانب ذلك ربما كان النفار من تلك القلة من الشعراء الذين تدرس قصائدهم في المراحل الإعدادية المتقدمة وهم أحياء، وربما آخر ما قام بنشره على صفحته على "فيسبوك" قبل الحرب بيومين كان صورة له خلال مناقشة قصيدته مع طالبات إحدى مدارس مدينة رفح. ومع ذلك فإنك لن تجد شيئا له في مدونة "التضامن" تلك، فيمكن لكتاب شعر يحمل اسم غزة أن يضم شعراء من كل الجهات ولا يضم قصيدة لسليم

أضرار جسيمة تقع في حق الأدب الفلسطيني من هذه اللطميات والتسويق الزائف للأدب بوصفه منتجا يخدم تلك الرومانسية المفرطة

في مضمار الفن التشكيلي مثلا، فإن رحيل الفنان التشكيلي الفلسطيني فتحي غبن جراء منع الإحتلال لجسده المنهك من تلقي العلاج في الخارج، لم يركز عليه في خطاب التضامن رغم جملة من الحقائق التي تجعل من رحيله المؤلم ومن رسالته المسجلة "أريد أن أتنفس" مادة كبيرة لفضح الإبادة، منها أنه أهم فنان تشكيلي في غزة ولا يمكن الحديث عن الفن التشكيلي الفلسطيني بشكل عام خلال نصف القرن الماضي دون الإشارة إليه، ومنها أيضا أنه عمليا استشهد بسبب اجراءات الاحتلال ونقص الدواء والقيود المفروضة على حركة المرضى. ورغم ما بذله أصدقاؤه ومحبوه من جهد قبل استشهاده، وبعد ذلك تسليطهم الضوء على رحيله المفجع، فإن هذا الرحيل وفنه المفقود ولوحاته التي تشكل جزءا من الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، لم تحفز "رومانسيي التضامن" على استخدامها لفضح الإبادة. فمجرد رحيله لا يعني شيئا بحد ذاته، فالمطلوب هو تعزيز رومانسية التضامن لا السردية ذاتها. في ذلك، ودون الانتباه ربما وضمن سياقات "ماكينة" التضامن لا يعود التركيز على السردية مهما بقدر أهمية التركيز على التضامن بحد ذاته.

ختاما، وبقدر مساهمة رومانسية التضامن في تسليط الضوء على مأساة الإبادة وفضح ممارسات القتل والتهجير، إلا أن توظيف الأدب والفن في حملات التضامن لم يساهم في تسليط الضوء على الأدب الفلسطيني، بل قدم صورة غير دقيقة عن الإبداع الحقيقي، كما اتسم بكونه توظيفيا "أدواتيا" لم يكن همه الأدب والفن بقدر التضامن ذاته، وفي سبيل هذا تمت التضحية بجودة المنتجين الأدب والفني، كما بسردية الإبادة لحساب سردية التضامن ذاتها.

font change

مقالات ذات صلة