38 عاما على إنشاء "حماس"... إشكاليات الصعود والهبوط

الصفحة الأخيرة

رويترز
رويترز
جندي إسرائيلي يقف بجوار ناقلة جند مدرعة، بعد وقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" في غزة، على الحدود بين إسرائيل وغزة في جنوب إسرائيل 12 أكتوبر

38 عاما على إنشاء "حماس"... إشكاليات الصعود والهبوط

قبل أربعة عقود تأسّست "حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين" (حماس)، مع مطلع الانتفاضة الأولى (1987-1993)، بيد أن ذلك لا يعني أنها نشأت من فراغ، إذ إنها انبثقت من جماعة "الإخوان المسلمين" في فلسطين، وتطورت كامتداد لها، من جهة البنية والممارسة والتفكير السياسي والتركيبة القيادية.

وقد يكون ذلك هو ما يفسّر إلى حد كبير الشعبية التي حازتها تلك الحركة، بحيث تمكنت من منافسة حركة "فتح" التي سبقتها بأكثر من عقدين، على القيادة والمرجعية والسلطة، في فترة زمنية بسيطة، في حين لم يستطع أي فصيل فلسطيني ذلك، ولا حتى بقية الفصائل جميعها.

التباسات التأسيس

ثمة مسألتان يفترض لفت الانتباه إليهما أيضا، الأولى، أن تلك الحركة لم تنخرط في الكفاح المسلح الفلسطيني، الذي انطلق في منتصف الستينات، فقد حصل ذلك بعد 22 عاما، في حين كانت قبل ذلك تركز على العمل الدعوي-الديني، باعتباره بمثابة "الجهاد الأكبر"، مقابل "الجهاد الأصغر" الذي كانت تقوم به "فتح" وباقي الفصائل الفلسطينية. والثانية، أن تلك الحركة لم تنضو في الإطار الجامع للحركة الوطنية الفلسطينية، أي في "منظمة التحرير"، بل إنها عدت نفسها بديلا لها على كافة المستويات، مع كل تلك التعقيدات والتداعيات السلبية التي نجمت عن ذلك، والتي عكست نفسها، فيما بعد، في الخلافات الداخلية، وفي التنافس والتنازع بينها وبين "فتح"، بدلا من التركيز على القواسم المشتركة.

وكما هو معلوم فإن هذا الوضع أدى لاحقا إلى انقسام النظام السياسي الفلسطيني، بين سلطتي "حماس" في غزة، و"فتح" في الضفة، الذي استنزف جزءا كبيرا من الطاقة الكفاحية لشعب فلسطين، وقيد إمكان تطور حركته الوطنية، وحد من قدرته على مواجهة التحديات الإسرائيلية.

ولعل أهم ما يجب إدراكه أن ولادة "حماس" أحدثت انشقاقا عموديا في الحركة الوطنية الفلسطينية التي باتت بمثابة حركتين، مع قيادتين ومرجعيتين، على أساسين وطني وديني، وهو أمر لم تعرفه الحركة الوطنية الفلسطينية في تاريخها، رغم خلافاتها السياسية، قبل النكبة وبعد النكبة.

ففي مراجعة تجربتها، في السياسة والمقاومة والسلطة، يمكننا ملاحظة أن "حماس" لم تحسم بين كونها حركة سياسية أو حركة دينية، ولا في طبيعتها بين كونها حركة وطنية، أو حركة للإسلام السياسي، أو بين مكانتها كحركة تحرّر أو سلطة، وأي جانب من الجوانب الثلاثة المذكورة يغلب على الآخر، لأن لكل طابع متطلباته، ووظائفه، واستهدافاته.

ومع الاعتراف بحق أي شخص، أو جهة، أو كيان سياسي، في انتهاج أية خلفية فكرية إلا أن المسألة هنا لا تتعلق بهذا الحق، ولا تمسّ به، بقدر ما تتعلق بجدوى أو مغزى تأكيد "حماس" طابعها، أو تمييز نفسها، كحركة إسلامية، كأن هذا التميز يحجب الإسلام عن الفصائل الأخرى، أو يخرجها منه، علما أن الخلفية الإسلامية حاضرة في فكر "فتح"، مثلا، بما لا يقل عن حضورها لدى "حماس"، مع تمسكها بكونها حركة سياسية وطنية لكل الشعب الفلسطيني، من دون أي تمييز.

ثمة مسألتان يفترض لفت الانتباه إليهما أيضا، الأولى، أن تلك الحركة لم تنخرط في الكفاح المسلح الفلسطيني، الذي انطلق في منتصف الستينات

القصد أن "حماس" كان بإمكانها أن تستمد من الإسلام قيمه المتعلقة بالمساواة والعدل والحكمة والحرية ورفض الظلم، لتأكيد ذاتها كحركة سياسية وطنية، وتجنب الغرق في هذه المتاهة، وضمنه تنزيه الإسلام من مآرب السياسة وصراعات السلطة ونزواتها، مع تجنب الوصم بتطييف الصراع، أو إضفاء مسحة دينية عليه، وهو بالمناسبة أمر استخدمته الحركة الصهيونية، لكسب جمهور اليهود، واستغلته لاستدراج الفلسطينيين وغيرهم إليها، لغايات تبرير ذاتها، وتغطية جرائمها، وإظهار الطابع الديني للصراع على حساب غيره، ولتغطية حقيقتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية.

في هذا الإطار، وبعيدا عن عقلية المؤامرة، لا يمكن تجاهل أن إسرائيل رأت أن من مصلحتها تسهيل صعود "حماس"، في المشهد الفلسطيني، في خضم معركتها ضد "منظمة التحرير الفلسطينية"، وفي سياق محاولاتها إضعاف وحدانية التمثيل الفلسطيني، وتقويض الكيان الناشئ عن اتفاق أوسلو، باعتبار أن الفلسطينيين غير مؤهلين لحكم أنفسهم.

عموما، فإن "حماس" استطاعت، بعد التأسيس، فرض ذاتها كمعارضة للقيادة الفلسطينية، أي قيادة "المنظمة" و"السلطة" و"فتح"، انطلاقا من معارضتها اتفاق أوسلو (1993)، ومحاولتها التشكيك بشرعية "منظمة التحرير" وبالاستناد إلى الشبهات المتعلقة بأداء السلطة الفلسطينية، وتملص إسرائيل من الاستحقاقات المطلوبة منها وفقا لعملية التسوية.

بيد أن صعود حركة "حماس"، بشكل أكبر، أتى في مناخات الانتفاضة الثانية (2000-2004)، ومع انتهاجها نمط العمليات التفجيرية (الاستشهادية)، رغم أن "فتح" استُدرجت إلى تبني ذات النمط من العمليات، في انتفاضة غلب عليها طابع الصراع المسلح.

عبد الكريم حنا- أ.ب
طفل فلسطيني الى جانب والدته وهي تغسل الملابس وتُعلقها لتجف فوق خيمتهم في مخيم مؤقت للنازحين أقيم على شاطئ مدينة غزة، الثلاثاء 16 ديسمبر

وعليه، فقد تزايدت شعبية "حماس"، في هذا الظرف، مع ترهل جسم "فتح"، الذي تحمّل كل تبعات ومشكلات وجوده كحزب للسلطة، وقد فاقم من ذلك رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، الأمر الذي خلخل وضع "فتح"، وتاليا مهد الطريق أمام نجاح "حماس" في الانتخابات التشريعية (2006).

صعود "حماس" إلى القيادة والسلطة

بعد فوزها في تلك الانتخابات، وجدت "حماس" نفسها- وهي التي قدمت نفسها كمعارضة لاتفاق أوسلو- إزاء كثير من المشكلات، ضمنها تحولها، رسيما وشعبيا، إلى سلطة أو إلى شريك في السلطة، ثم حصل الانقسام، الذي فرضته بقوة السلاح، ما أدى إلى سيطرتها بشكل أحادي وإقصائي على قطاع غزة (يونيو/حزيران 2007) وتاليا هيمنتها على نحو مليونين من الفلسطينيين فيه، مع كل ما يتطلبه ذلك منها كسلطة، في قطاع ما زالت إسرائيل تتحكم بمداخله ومخارجه، بعد انسحابها منه (2005).

من نتائج هذا التطور العاصف أن الفلسطينيين باتوا إزاء كيانين أو سلطتين فلسطينيتين، متنافستين ومتعارضتين، واحدة لحركة "فتح" في الضفة، والثانية لحركة "حماس" في غزة، وكل واحدة منهما لها أجهزتها الأمنية والخدمية، وكلتاهما ترزح تحت الاحتلال والحصار أو تحت هيمنة السلطة الإسرائيلية، وهو انقسام لم تنفع كل جولات الحوار في القاهرة وبيروت ومكة وإسطنبول وصنعاء والجزائر وموسكو وبكين لإيجاد حلول له.

المشكلة هنا، أيضا، تتعدى الجانب الفلسطيني، أو تداعيات الانقسام، إذ إن الأطراف الدولية والإقليمية والعربية لم تسهل لـ"حماس" تمددها، بيد أن هذه وجدت ملاذا آمنا لها من بعض الأطراف، لا سيما النظام السوري (أقله إلى حين اندلاع الثورة السورية)، ونظام "الولي الفقيه" في إيران، اللذين أرادا الاستثمار في تلك الحركة، بالضد من قيادة "منظمة التحرير"، ولأغراض ابتزاز الأنظمة الأخرى، وبغرض تعزيز أدوارهما على الصعيد الإقليمي.

الانقلاب الذي أحدثته "حماس" في غزة (يونيو 2007)، بالتداعيات التي ولدها في الساحة الفلسطينية، هو بالضبط ما كانت تأمله إسرائيل لدى تفكيرها بالانسحاب الأحادي من هذا القطاع

ومع تأكيد أن إسرائيل هي المسؤول الأول عن كل ما يجري للفلسطينيين، وتحديدا عن الحالة المأساوية لهم في القطاع، لا سيما بعد عدة حروب مدمرة شنتها عليهم (أعوام 2008 – 2012 – 2014 - 2021 - 2023)، وبعد حصار طويل، فإن الانقلاب الذي أحدثته "حماس" في غزة (يونيو 2007)، بالتداعيات التي ولدها في الساحة الفلسطينية، هو بالضبط ما كانت تأمله إسرائيل لدى تفكيرها بالانسحاب الأحادي من هذا القطاع (2005)، لتكريس الانقسام والخلاف والفوضى في الساحة الفلسطينية، وللتضييق على مليوني فلسطيني في غزة، وتاليا التخفف، بطرق مختلفة، مما تسميه الخطر الديموغرافي.

ولعل مسؤولية "حماس" هنا أنها لم تدرك أنها بانقلابها أضعفت شرعيتها الفلسطينية، وأن الواقع العربي والدولي لا يمكن أن يتعاطى معها، وأنها بذلك تسهم في تبرير مساعي إسرائيل لتشديد حصار قطاع غزة، والتملص من كل استحقاقات التسوية مع الفلسطينيين، ناهيك عن وضع غزة في المهداف الإسرائيلي، الذي يضغط عليها كسلطة، من مختلف النواحي، وهو ما حصل.

إشكاليات "حماس" كسلطة

على أية حال فإن التطورات والتعقيدات المذكورة أدت إلى وضع حركة "حماس" في مواجهة تحديات ومخاطر جديدة، يمكن إجمالها في الآتي:

أولا، لدى ممارستها للسلطة في غزة وجدت "حماس" نفسها إزاء مسؤوليات ضخمة، وإزاء تحول لم تكن مهيأة له، وفي المحصلة فهي لم تستطع تقديم نموذج أفضل للسلطة في غزة، عن النموذج القائم في الضفة حيث غريمتها "فتح"، كما هو مفترض، أو بحسب الادعاءات التي أسست عليها نفسها في المعارضة. والمشكلة هنا أن "حماس" لم تكتف فقط بكونها سلطة تحتكر السلاح والموارد والقرار في قطاع غزة، وإنما حاولت عبر طرق وإجراءات قسرية فرض سلوكياتها ورؤاها في العيش على الفلسطينيين في غزة، ما أثر على مكانتها أو على شعبيتها سلبا، خارج دائرة منتسبيها، وما أدى إلى تغليب النظرة إليها كتيار إسلامي على كونها حركة وطنية.

رويترز
مسلحو حماس خلال تسليمهم رهائن إلى أعضاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر كجزء من صفقة تبادل الأسرى مع إسرائيل، في مدينة غزة، 19 يناير 2025

ثانيا، لم تستطع "حماس" الاعتماد على ذاتها، كسلطة، إذ وقعت في إسار الارتهان للمساعدات الخارجية، بحيث إنها في هذا الوضع الصعب باتت بحاجة لموارد لأربعين ألف موظف بعد تجفيف مصادر تمويلها الخاصة، وبحيث بات ذلك من الشروط التي تتوقف عليها عملية المصالحة، ومن وسائل الضغط الخارجي عليها، كما شهدنا. علما أنها تعرف أن موارد السلطة الفلسطينية تأتي من الدول المانحة الراعية لعملية التسوية ولاتفاق أوسلو، مع ما يعنيه ذلك من تناقض يلف مواقف تلك الحركة.

هكذا، تم نوع من التوافق على قيام قطر بتأمين جزء من موارد "حماس"، وهذا حصل بمعرفة إسرائيل كما هو معلن. وكما اعتمدت على الموارد المتأتية من إيران، بطرق خاصة، أيضا اعتمدت "حماس" في تمويل ذاتها على الضرائب التي تفرضها على الغزيين، الذين عانوا ذلك في ظروف الحصار والأوضاع الاقتصادية الصعبة في غزة، وكلها مصادر أثارت شبهة قطاعات واسعة من الفلسطينيين.

ثالثا، بعدما وجدت "حماس" نفسها في مكانة السلطة، بدت حائرة بين الحفاظ على تلك المكانة، وبين الاستناد إلى تميزها، ومبرر وجودها، بشأن احتفاظها بمكانتها كحركة مقاومة، وهذا الوضع الحائر، أو التخبط الناجم عن الافتقاد لاستراتيجية سياسية وكفاحية، هو الذي يفسر عدم وضوح موقفها مما يمكن أن تفعله في غزة، وعدم وضوح موقفها من الشكل الأنجع أو الأنسب للمقاومة، كأنها دخلت إلى المربع الحرج الذي عانت منه حركة "فتح" (غريمتها) سابقا، كونها عندما استلمت السلطة وتقيدت بقيودها، لم تستطع الحفاظ على وضعها كحركة مقاومة، أي كأنها في تلك اللحظة وصلت إلى حيث انتهت "فتح" قبلها بأزيد من عشرة أعوام.

بعدما وجدت "حماس" نفسها في مكانة السلطة، بدت حائرة بين الحفاظ على تلك المكانة، وبين الاستناد إلى تميزها، ومبرر وجودها، بشأن احتفاظها بمكانتها كحركة مقاومة

رابعا، تعاملها بطريقة قدرية وإرادوية في الصراع مع إسرائيل، مع مبالغتها بقدراتها الذاتية، وكأن قطاع غزة بمثابة جزيرة معزولة عن العالم، أي عن المعطيات الدولية والإقليمية والعربية، التي لا تسمح بهزيمة إسرائيل، ولو على أي مستوى، بفرض أن الفلسطينيين يستطيعون ذلك، علما أن موازين القوى والمعطيات الدولية لم تسمح حتى باستثمار التضحيات والبطولات التي بذلت، في الانتفاضتين، وفي الحروب الإسرائيلية على غزة منذ عام 2008، بدليل خوضها "طوفان الأقصى" (2023) على أساس أن إسرائيل آيلة للانهيار، وعلى وهم مساندة "الملائكة"، و"وحدة الساحات". 

خامسا، لم تنجح "حماس" في اختبار الديمقراطية، وإدارة المجتمع، إذ إنها لم تنجح في إشاعة الثقة بشأن إمكان تحول الحركات الإسلامية إلى الديمقراطية، التي تتضمن احترام الرأي الآخر، وإغناء التنوع والتعددية في المجتمع، والقبول بالمشاركة، واحترام الرأي الآخر، وبمبدأ تداول السلطة، في ظل سلطة أحادية لا يشاركها فيها أحد.

سادسا، في العلاقات الخارجية، ثمة اضطراب، أو نوع من التخبط، في الموقف من إيران، بين اعتبار "حماس"، أو جناح فيها، لهذه الدولة كجزء من معسكر المقاومة والممانعة، الذي يضم النظام السوري، وكدولة إسلامية، وبين اعتبارها دولة إقليمية تحاول أن تهيمن على المشرق العربي، مع تحميلها مسؤولية التصدع الدولتي والمجتمعي في هذه المنطقة، لتسببها بإثارة النعرة الطائفية-المذهبية، وإنشائها ميليشيات مذهبية مسلحة تشتغل كأذرع إقليمية لها، ولتوظيفها الصراع ضد إسرائيل لخدمة أجندتها، ناهيك عن دورها في خراب العراق ومقاتلتها السوريين دفاعا عن نظام الأسد، ما أفاد إسرائيل أكثر مما أضرها. أي إن إيران قدمت في ما فعلته في تلك البلدان أكبر خدمة لإسرائيل، التي أضحت الدولة الأكثر أماناً واستقراراً في الشرق الأوسط، ونظرة إلى واقع سوريا والعراق ولبنان واليمن تؤكد ذلك.

REUTERS
صورة جوية لخيام نازحين قرب مبانٍ مدمرة في غزة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، أكتوبر 2025

الملاحظة هنا أن "حماس"، بدلا من أن تتحمل مسؤولية وتبعات الانقسام الفلسطيني، كانت في غنى عن التورط بالسلطة، والبقاء كحركة تحرر وطني، وكحركة مقاومة، أو الحفاظ على نفسها ككتلة وازنة في المجلس التشريعي، وكقوة ضغط على القيادة الفلسطينية، وهي قيادة "المنظمة" و"السلطة" و"فتح"، أو عدم أخذ السلطة بالقوة، حتى لو كانت تملك القدرة على ذلك، تجنبا للمخاطر الحاصلة، لأن العالم الذي دعم اتفاق أوسلو (1993) لن يسمح لها بأخذ السلطة، ولا بفرض أجندتها؛ وهذا ما نرى عواقبه الكارثية الآن، على "حماس" وعلى الحركة الوطنية الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني وقضيته.

الملاحظة الأخرى، أن قطاع غزة، الذي حكمته "حماس"، حملته بأوهامها فوق ما يحتمل، مع افتقاده للموارد، وللعمق الجغرافي والديموغرافي، فهو يشكل 1.4 في المئة من مساحة فلسطين، فقط، ويعيش فيه 2.5 مليون فلسطيني في ظروف صعبة، وفي حالة حصار إسرائيلي مشدد منذ سيطرة "حماس" كسلطة، مع التعرض لحرب مدمرة بين فترة وأخرى. وهكذا، فرغم أحاديث "حماس" عن قدراتها العسكرية، وعن "توازن الرعب"، و"الردع المتبادل"، و"زلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل"، فإن "حماس" لم تستطع رفع الحصار عن القطاع، ولا رد اعتداءات إسرائيل عليه، بل إن أوضاع القطاع ظلت تزداد بؤساً، ناهيك بالهيمنة السلطوية لـ"حماس" على مجتمع الفلسطينيين في غزة، بحيث وصل الأمر بفلسطينيي غزة إلى "الطوفان" وإلى حرب الإبادة الإسرائيلية الوحشية.

"طوفان الأقصى" كنكبة

بنت "حماس" عملية "طوفان الأقصى" على أوهام، أو على رؤى غير مدروسة وقاصرة وقدرية ورغبوية، دون النظر إلى موازين القوى بصورة موضوعية، ودون اهتمام بالمعطيات العربية والإقليمية والدولية السائدة، المواتية لإسرائيل.

هكذا راهنت "حماس" على وهن إسرائيل، التي هي برأيها "أوهى من بيت العنكبوت"، كما على هشاشة جبهتها الداخلية، في حرب تتكبد فيها خسائر بشرية، وعلى قصر نفسها في حرب طويلة الأمد، كما راهنت، كما قدمنا، على ما يسمى "وحدة الساحات"، وحلف "المقاومة والممانعة"، ودعم العالمين العربي والإسلامي، فضلا عن الاعتقاد بتدخل "الملائكة"!

أ ف ب
نتنياهو لدى وصوله الى ممر نتساريم في وسط قطاع غزة في 19 نوفمبر

بيد أن إسرائيل المتوحشة كشفت في تلك الحرب عن جبروتها العسكري، في كل الشرق الأوسط، وعن استعدادها خوض حرب طويلة، وتحمل خسائر بشرية كبيرة، لأنها رأت في "الطوفان"، من جهة حكومتها المتطرفة، بمثابة حرب وجودية، وليس مجرد مقاومة، وهذا ما استثمرت فيه، بدعم من الولايات المتحدة الأميركية، لشد عصب الإسرائيليين، فإذا بالحكومة التي كانت آيلة للانهيار، مع رئيس حكومة (نتنياهو) انتهى زمنه السياسي، قبل تلك المعركة، بسبب التناقضات الداخلية، تتجاوز كل ذلك، وتنجح في استقطاب أغلبية الإسرائيليين حولها، على حساب المعارضة.

اللافت أن "حماس"، بعد تلك الكارثة المهولة، لم تذهب نحو مراجعة خياراتها، ولم تبحث عن استراتيجية تراجع، لتجنيب شعبها المزيد من الكارثة، بل إنها ظلت، حتى الأمس، وفي بياناتها في ذكرى انطلاقتها الـ38، تشهر مقولاتها عن أن العدو لم يحقق أهدافه، وأن القضية الفلسطينية باتت في وضع أفضل، وهي ما زالت تدعو الأمتين العربية والإسلامية للتدخل، في انفصام شديد عن الواقع.

وصل الأمر بـ"حماس" حد مطالبتها إدارة ترمب بالضغط على إسرائيل، وكأن الإدارة الأميركية كانت على الحياد، أو كأنها ليست هي صاحبة فكرة "الترانسفير" وتاليا فكرة فرض وصاية دولية على غزة!

وقد وصل الأمر بـ"حماس" حد مطالبتها إدارة ترمب بالضغط على إسرائيل، وكأن الإدارة الأميركية كانت على الحياد، أو كأنها ليست هي صاحب فكرة "الترانسفير" وتاليا فكرة فرض وصاية دولية على غزة!

ولعل أكثر مأزق تمر به "حماس" هو طرحها الإبقاء على سلاحها، أي على نوع من السلاح الفردي، لضمان أمن المستوطنات، أي تقديمها ذاتها كسلطة موثوقة في هذا المجال، بثمن إبقائها كسلطة في قطاع غزة، وهو التصريح الذي تزامن مع مثيله، الذي خرج على لسان الأمين العام لـ"حزب الله" مؤخرا، في سياق تبريره رفضه نزع سلاحه.

هذا هو الواقع المرّ والمحزن والكارثي، اليوم، بغض النظر عن الرغبات، والأحلام، التي لا يوجد في واقع الفلسطينيين ولا المعطيات المحيطة بهم ما يسندها. وهذا الواقع يفيد بأن المطروح مقايضة وجود "حماس" بوجود الشعب الفلسطيني في غزة، في وضع لا يوجد فيه في يد "حماس" أوراق قوة، بعد أن انقشعت الأوهام، بانهيار كل محور "المقاومة والممانعة"، كما قدمنا، ومن غير المعقول توهم إمكان تغلب "حماس" على إسرائيل، وأيضا من غير المعقول ترك الأمر لإسرائيل المتوحشة.

القصد أن "حماس" معنية بأن تتصرف بمسؤولية وعقلانية وبروح وطنية، لتفويت الفرصة على إسرائيل بالمضي في حرب الإبادة ضد فلسطينيي غزة، لإجبارهم على الرحيل بطريقة قسرية عنيفة، أو بطريقة قسرية "ناعمة"، إذ إن الأولوية في هذه الظروف لبقاء الشعب الفلسطيني في أرضه، وتمكينه من الصمود، وبناء ذاته، فهذا أهم من وجود "حماس" أو "فتح" أو أي من الفصائل، لأنه دون بقاء الشعب الفلسطيني في أرضه، لا قيمة لأي فصيل، ولا لأي مقاومة.  

والحاصل، فإنه ورغم كل هذه التجربة الصعبة والمعقدة والخطيرة، فإن حركة "حماس"، مثل كل الحركات السياسية في عالمنا العربي، إسلامية أو علمانية، يسارية أو يمينية، وطنية أو قومية أو أممية، لم تعتد على المراجعة والنقد، مع فارق آخر بالنسبة لحركات الإسلام السياسي، يكمن في أنها تحاول أن تضفي نوعاً من القدسية على سياساتها ومواقفها، بحيث تخرج نفسها من إطار المساءلة والنقد والمحاسبة، علما أنها ممكن أن تخطئ وأن تصيب، ويمكن أن تخفق أو تنجح، في هذا الأمر أو ذاك.

تشاء الأقدار أن تكون عملية "طوفان الأقصى" ذروة صعود "حماس"، وتاليا مقدمة هبوطها في المشهد الفلسطيني، وربما تكون تلك العملية أيضا بمثابة الصفحة الأخيرة، لتيار الكفاح المسلح في إطار الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، التي افتتحت بـ"عملية عيلبون"، التي أعلنت انطلاقة حركة "فتح"، مطلع عام 1965، أما بعد ذلك فبالتأكيد أن الفلسطينيين سيواصلون كفاحهم، من أجل حقوقهم، في أطر سياسية وكفاحية أخرى، ومغايرة، وبناء على دروس تلك التجربة المريرة والطويلة والغنية.

font change