الصمت الغربي حول السودان يفصح عن الكثير

لم يعد مستغربا أن يرفع عدد قليل فقط من المشاهير أصواتهم احتجاجا على ما يجري في السودان

رويترز
رويترز
سفيرة الامم المتحدة للنوايا الحسنة الممثلة الاميركية انجلينا جولي مع اطفال نازحين في غرب دارفور في صورة تعود الى 28 اكتوبر 2004

الصمت الغربي حول السودان يفصح عن الكثير

وردت، إثر سقوط مدينة الفاشر السودانية في نوفمبر/تشرين الثاني، تقارير مروعة عن مجازر جماعية. وقد أُبلغ أعضاء البرلمان البريطاني أنه يُعتقد أن ما لا يقل عن 60 ألف شخص قُتلوا في الأسابيع الثلاثة الأولى بعد سقوط المدينة في يد المعارضة من "قوات الدعم السريع". وصرّح ناثانييل ريموند، مدير مختبر الأبحاث الإنسانية في جامعة ييل، لصحيفة "الغارديان" بأن الفاشر "باتت تبدو كمسلخ بشري".

وعلى الرغم من الطابع الفريد وغير المسبوق لحجم هذه المجازر، أصبحت روايات الفظائع مألوفة ومتكررة في سياق الحرب الأهلية السودانية الطاحنة، التي تدور رحاها بين "قوات الدعم السريع" والجيش منذ أبريل/نيسان 2023. والمؤلم أن الفاشر هي الأعرف بهذا النوع من العنف، إذ سبق أن تعرضت مناطقها الداخلية في دارفور لحملة تطهير عرقي مفترضة خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. غير أن الفارق الجوهري بين الوضع الراهن وما كان عليه الحال آنذاك يتمثل في موجة الاستنكار العالمي الواسع التي اجتاحت الغرب في تلك الفترة. فقد تصدرت حملة دعم ضخمة، قادها مشاهير من بينهم الممثل جورج كلوني، جهود الضغط الواسع ضد الإبادة الجماعية المزعومة، ما لفت أنظار العالم إلى غرب السودان وسلط الضوء على ما يجري هناك.

تأسس "ائتلاف إنقاذ دارفور"، الذي ضم أكثر من 190 جماعة دينية وإنسانية متنوعة، في واشنطن عام 2004، بهدف الضغط من أجل وقف العنف

أما اليوم، فلا يحظى الصراع في السودان إلا بتغطية إعلامية محدودة، ولم ينخرط في محاولات لفت الانتباه إلى مجازر الفاشر سوى عدد ضئيل من المشاهير، في وقت تتجه فيه الأنظار إلى ساحات صراع أخرى، وعلى وجه الخصوص غزة وأوكرانيا. ومن ناحية أخرى، يبدو أن الإيمان بقدرة الحكومات الغربية أو رغبتها في منع مثل هذه الفظائع قد تراجع عما كان عليه قبل عشرين عاما.

حملة المشاهير من أجل دارفور


اندلعت الحرب في دارفور عام 2003 عندما قادت جماعات متمردة، تألفت في معظمها من سكان الإقليم غير العرب، تمردا ردا على التمييز والهجمات العنيفة التي مارستها الحكومة السودانية. ورد الرئيس السوداني آنذاك، عمر البشير، بإرسال الجيش مدعوما بميليشيات "الجنجويد" لمواجهة المتمردين، ما أشعل حربا دامية قدّرت الأمم المتحدة أنها أودت بحياة 300 ألف شخص نتيجة العنف المباشر أو الأمراض والمجاعة التي نجمت عنه. وخلال فترة النزاع، وُجهت اتهامات إلى القوات الحكومية، ولا سيما الجنجويد، بارتكاب أعمال تطهير عرقي وإبادة جماعية بحق السكان غير العرب في دارفور.
ومع انتشار أخبار المجازر، سارعت جماعات المناصرة الغربية إلى التحرك الفوري. فقد تأسس "ائتلاف إنقاذ دارفور"، الذي ضم أكثر من 190 جماعة دينية وإنسانية متنوعة، في واشنطن عام 2004، بهدف الضغط من أجل وقف العنف. وسرعان ما تحولت الحرب إلى قضية رأي عام، وأصبحت موضوعا بارزا في أوساط المشاهير الليبراليين. فقد زارت أنجلينا جولي دارفور عام 2004 بصفتها سفيرة للنوايا الحسنة لدى الأمم المتحدة، ووصفت الأوضاع التي شاهدتها بأنها "مروعة بشكل لا يصدق". وتبعها في ذلك عدد كبير من المشاهير.

رويترز
عنصر من "قوات الدعم السريع" يرفع اسلحة مصادرة اثناء زيارة الرئيس السابق عمر البشير الى منطقة دارفور في 23 سبتمبر 2013

وفي وقت لاحق، قال روب كريلي، مؤلف كتاب "إنقاذ دارفور: الحرب الأفريقية المفضلة لدى الجميع"، لهيئة الإذاعة البريطانية إن الحرب أصبحت "قضية جذابة ومثيرة لاهتمام المشاهير".
وكان جورج كلوني من أبرز الداعمين لهذه الحملة. فقد سافر إلى المنطقة عدة مرات في مسعى للضغط على الحكومات الأميركية والأوروبية، كما ألقى خطابا حماسيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مطالبا بمحاسبة البشير. غير أن كلوني أقر لاحقا بإخفاق هذه الجهود، إذ أعلن عام 2008 أنه، على الرغم من كل ما بُذل، "فإن الناس في دارفور ليسوا أفضل حالا مما كانوا عليه قبل سنوات".
ومع ذلك، لا يمكن التقليل من أثر حملة المشاهير تلك، إذ أسهمت في تسليط الضوء على ما جرى في دارفور، وساعدت في توجيه الاتهام إلى البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية، رغم أنه لم يُقبض عليه قط. كما ساهمت في قرار مجلس الأمن بنشر بعثة حفظ سلام مشتركة بين الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في الفاشر، المعروفة باسم "يوناميد"، عام 2007. وعلى الرغم من أن هذه القوة، التي بلغ قوامها نحو 26 ألف جندي، لم تنجح في وقف العنف بشكل كامل، فإنها أسهمت في الحد من بعض مظاهره، وأقنعت البشير بالسعي إلى التفاوض عام 2010.

استجابة خجولة في عام 2025


على الرغم من تراجع وتيرة العنف، فإنه لم ينحسر تماما إلا بعد سقوط نظام البشير عام 2019، وتوقيع الحكومة الجديدة اتفاقا مع متمردي دارفور بعد عام. غير أن العنف عاد مجددا عندما تفجر الخلاف بين الجيش و"قوات الدعم السريع"، التي كانت قد أسهمت في الإطاحة بالبشير. وسيطرت "قوات الدعم السريع"، المنبثقة عن ميليشيات الجنجويد، على مساحات واسعة من دارفور، وعملت على طرد الجيش من مواقعه المتبقية. وكانت الفاشر إحدى هذه المعاقل العسكرية التي تحصن فيها الجيش، ما أدى إلى حصار استمر عامين قبل أن تتمكن "قوات الدعم السريع" من السيطرة عليها في نهاية المطاف في نوفمبر/تشرين الثاني. وكما حدث مع الجنجويد قبل عشرين عاما، وُجهت اتهامات إلى "قوات الدعم السريع" بارتكاب مجازر على أساس عرقي عقب سيطرتها على المنطقة، وكان عدد كبير من الضحايا من المدنيين غير العرب.

عندما اندلعت حرب دارفور عام 2003، لم يكن الرأي العام الغربي معتادا على مثل هذه الفظائع. ففي تسعينات القرن الماضي، قُدمت أعمال العنف العرقي في البوسنة ورواندا وكوسوفو على أنها استثناءات صادمة

هذه المرة، لم يتحرك المشاهير على نحو يذكر. فقد شارك كلوني في كتابة مقال عام 2023 عبّر فيه عن أسفه وانتقد "خذلان المجتمع الدولي للسودان" مع اندلاع الحرب الأهلية في بدايتها. وبعد مرور عام، وجّه عدد من المشاهير البريطانيين، من بينهم الممثل بيل ناي والمغنية بالوما فايث، رسالة مفتوحة إلى وزير الخارجية آنذاك ديفيد كاميرون طالبوا فيها باتخاذ إجراءات جدية. غير أن هذه المبادرات لا تعدو كونها قطرات محدودة إذا ما قيست بحملات المشاهير الواسعة قبل نحو عشرين عاما. فمجازر الفاشر الحالية، التي استهدفت جماعات دارفورية مرة أخرى، لم تستدع ردود فعل تذكر.
وهنا يطرح السؤال نفسه: ما الذي تغير؟ يبدو واضحا أن دارفور تراجعت على سلم الأولويات. فالمشاهير ما زالوا ينخرطون في حملات تضامن مع قضايا إنسانية، لكنهم يميلون أكثر إلى تلك التي تتصدر عناوين الأخبار، مثل غزة والصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ففي ديسمبر/كانون الأول، طالب ممثلون بريطانيون بارزون، من بينهم بنديكت كامبرباتش وإيان ماكيلين، إسرائيل بالإفراج عن الزعيم الفلسطيني الأسير مروان البرغوثي. وفي الشهر نفسه، شارك عدد من المشاهير، من بينهم كيت وينسلت وليام هيمسورث، في حملة لبيع أحذيتهم في مزاد علني لجمع تبرعات لصالح أطفال غزة. وبالمثل، دفعت الحرب في أوكرانيا شخصيات مثل شون بن وميلا كونيس وأنجلينا جولي، مرة أخرى، إلى رفع أصواتهم علنا.

 رويترز
الممثل الاميركي جورج كلوني في مؤتمر صحافي بحضور عضو مجلس الشيوخ (الرئيس الاميركي لاحقا) باراك أوباما (يمين الصورة) في 27 ابريل وقد خصص المؤتمر للحديث عن رحلته الى جنوب السودان وتشاد حيث التقى اللاجئين من دارفور 2006

غير أن ثمة ما يشير إلى أن تحولا أعمق يجري أيضا، وهو أقرب إلى كونه انعكاسا لتحولات جيوسياسية واسعة، أكثر من ارتباطه بدورات اهتمام المشاهير. أولا، أصبح هذا النوع من القتل الجماعي، للأسف، أمرا مألوفا. فعندما اندلعت حرب دارفور عام 2003، لم يكن الرأي العام الغربي معتادا على مثل هذه الفظائع. ففي تسعينات القرن الماضي، قُدمت أعمال العنف العرقي في البوسنة ورواندا وكوسوفو على أنها استثناءات صادمة. ولذلك كان من المفهوم أن تصيب صدمة الإبادة الجماعية في دارفور قطاعات واسعة من الجمهور الغربي. أما منذ ذلك الحين، فقد قُتل مئات الآلاف في العراق وأفغانستان وسوريا وأوكرانيا وليبيا واليمن، ومؤخرا في غزة، إضافة إلى صراعات عديدة في مناطق أخرى من العالم. وعلى الرغم من أن كل جريمة قتل جماعي تظل مأساة بحد ذاتها، فإنها لم تعد تُعامل بوصفها حدثا استثنائيا، بل باتت جزءا مألوفا من المشهد العالمي. ومن المؤسف أنه بعد عقدين من الحرب في السودان، لم تعد مجزرة جديدة في الفاشر قادرة على تصدر عناوين الأخبار كما كان الحال في السابق.

ربما كان جورج كلوني وغيره من المشاهير ساذجين أو حالمين حين اعتقدوا أن تحركاتهم يمكن أن تدفع قادة الغرب إلى اتخاذ خطوات جدية في السودان

ثانيا، تغيرت توقعات الحكومات الغربية بصورة جذرية. فقد مثّل عام 2003 ذروة النفوذ الغربي في عالم أحادي القطب. وبعد غزو جورج دبليو بوش لأفغانستان والعراق، ساد اعتقاد لدى المشاهير والناشطين بأن البيت الأبيض والحكومات الأوروبية يمتلكون القدرة والرغبة في استخدام نفوذهم للتدخل في دارفور. لكن بعد مرور عشرين عاما، تراجعت الثقة في هذا النفوذ. فالعالم أصبح متعدد الأقطاب، وتقلص الدور الغربي، وبدا أن معظم الحكومات الغربية باتت تضع مصالحها الذاتية فوق الأهداف الإنسانية. ولا يوحي تصاعد اهتمام الاتحاد الأوروبي بأوكرانيا، وسعيه إلى خفض أعداد المهاجرين الأجانب، ولا النهج النفعي الذي يتبعه دونالد ترمب، بأن أيا من هذه الأطراف مستعد للاستثمار سياسيا أو دبلوماسيا في الصراع السوداني. فما زالت الجهات الفاعلة الغربية تحتفظ بمصالح رئيسة في كل من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والحرب في أوكرانيا، وهو ما يفسر استمرار الضغط الشعبي في هذين الملفين، في حين يدرك كثيرون أن الرهانات الغربية في السودان باتت محدودة.

صمت أبلغ من الكلام


ربما لا يكون من العدل إلقاء اللوم على المشاهير بسبب صمتهم في عام 2025. فنجوم هوليوود يتقاضون أجورهم لصناعة الأفلام، لا لقيادة الحملات السياسية. كما أن مسؤولية التعامل مع النزاعات الكبرى، مثل الأزمة السودانية، تقع على عاتق القادة وصناع القرار والمجتمع الدولي، لا على عاتق النجوم العالميين. ومع ذلك، فإن الهدوء الذي خيم على أحداث الفاشر وعلى الصراع السوداني الأخير، مقارنة بالاهتمام الواسع الذي حظيت به دارفور في العقد الأول من الألفية، يحمل دلالات مهمة على التحولات التي يشهدها العالم.
ربما كان جورج كلوني وغيره من المشاهير ساذجين أو حالمين حين اعتقدوا أن تحركاتهم يمكن أن تدفع قادة الغرب إلى اتخاذ خطوات جدية في السودان. لكنهم، في ذلك الوقت، كانوا صادقين في آمالهم. ويبدو أن تلك التوقعات قد تلاشت اليوم. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: متى بدأ هذا التبدد؟ هل كان في العراق؟ أم في سوريا؟ أم في أوكرانيا؟ أم في غزة؟ لعل هذه الخيبات المتراكمة أسهمت مجتمعة في الوصول إلى اللحظة الراهنة، حيث لم يعد مستغربا أن يرفع عدد قليل فقط من المشاهير أصواتهم احتجاجا على ما يجري في السودان، إذ يبدو أنهم لا يتوقعون أن تجد أصواتهم آذانا مصغية لدى أصحاب السلطة والنفوذ. 

font change

مقالات ذات صلة