الولايات المتحدة... المانحون اليهود يهددون "أعداء السامية" و"كارهي إسرائيل"

من الواضح أن دعم اليمين المسيحي للدولة العبرية لم يعد من المسلمات

رويترز
رويترز
رُفعت أعلام إسرائيل والولايات المتحدة بالقرب من مبنى الكابيتول الأميركي خلال مسيرة دعماً لإسرائيل واحتجاجاً على معاداة السامية في ناشونال مول بواشنطن، في 14 نوفمبر 2023.

الولايات المتحدة... المانحون اليهود يهددون "أعداء السامية" و"كارهي إسرائيل"

مع تنامي الاستياء داخل أروقة الحزبين الجمهوري والديمقراطي إزاء الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، وتزامنا مع اتساع رقعة التحول السياسي في صفوف الناخبين الأميركيين ضد كل من دعم أو ساند أو شجع العدوان الصهيوني على الفلسطينيين، أعلن المتبرعون والمانحون الداعمون لمرشحي الكونغرس من أنصار إسرائيل واللوبيات الصهيونية الحرب على من يطلقون عليهم "أعداء السامية" و"كارهي إسرائيل"، حيث صعّدوا من خطابات التهديد والوعيد بمنع هؤلاء من الوصول إلى أي منصب رسمي سواء كان تنفيذيا أو نيابيا وبالحيلولة دون نجاحهم في انتخابات التجديد النصفي القادمة بأي ثمن.

يأتي هذا فيما يشهد الدعم الذي اعتادت إسرائيل الحصول عليه من القاعدة المحافظة بالولايات المتحدة انحسارا واضحا، لاسيما بين المسيحيين الإنجيليين الذين كانوا يشكلون أقوى القلاع المسيحية دفاعا عن إسرائيل واليهود. وتجلى ذلك في نكوص عدد من اليمينيين والمحافظين المؤثرين على موقفهم من الدولة العبرية، من أمثال تاكر كارلسون الذي كان يعد أحد أيقونات اليمين المحافظ وأبرز نجومهم الإعلاميين الذين تألقوا على شاشاتهم، خاصة "فوكس نيوز"، وكانديس أوينز الكاتبة والمعلقة السياسية التي صعد نجمها في سماء المحافظين، ومارغوري تيلور غرين النائبة الجمهورية اليمينية التي كانت من أشد أنصار دونالد ترمب قبل أن تنقلب عليه وتنتقد سياساته الخارجية والداخلية على السواء. وانتفضت اللوبيات الصهيونية بشكل خاص بعد أن استضاف كارلسون في برنامجه الشهير الذي يتابعه عشرات الملايين الناشط العنصري اليميني نيكولاس فوينتس الذي يجهر بكراهيته لإسرائيل ويرى أن اليهود الأميركيين أكثر ولاء لإسرائيل من الولايات المتحدة. كارلسون لم يتفق مع الكثير من آراء فوينتس لكنه أكد أنه يشاطره الرأي إزاء علاقة الولايات المتحدة ودعمها المستمر لإسرائيل، مؤكدا أن هذا ضرب من الجنون وأن هذه العلاقة لا تعود بأي نفع على واشنطن.

ورغم استمرار الدعم لإسرائيل بين المحافظين من كبار السن، فإن هذا الدعم بدأ يتلاشى بين الأجيال الجديدة وفقا لكثير من استطلاعات الرأي. فقد أظهر استطلاع أجراه "مركز بيو للبحوث" هذا العام أن شباب المحافظين ممن تقل أعمارهم عن 50 عاما يزدادون توجسا من إسرائيل. وقفزت الآراء السلبية لهذه الشريحة عن إسرائيل من 35 في المئة إلى 50 في المئة خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ومن شأن اتساع رقعة هذه الآراء بين المحافظين وانتقالها من المؤثرين على وسائل التواصل إلى النواب المنتخبين أن يهدد المليارات من الدولارات التي تتلقاها إسرائيل سنويا من الولايات المتحدة في شكل مساعدات عسكرية ومدنية، ناهيك عن الدعم الدبلوماسي المطلق.

تأييد إسرائيل حاليا بين الجمهوريين عامة لا يزيد على 24 في المئة حيث أصبح الشباب من الجمهوريين يتعاطفون مع الفلسطينيين أكثر من تعاطفهم مع الإسرائيليين

وقد ظل أغلب الدعم السياسي لإسرائيل يأتي من قلاع المحافظين المسيحيين الأميركيين. ومع الشعور بالغضب الذي ينتاب الكثيرين من يسار المحافظين، بات هذا الدعم من تلك الفئة التقليدية أكثر أهمية من ذي قبل إذ يشكلون آخر قلاع الدفاع المنظم والواسع عن إسرائيل. ويعتقد الكثير من المسيحيين الإنجيليين أن وعد الله المزعوم لليهود في العهد القديم لا يزال قائما وأن مؤازرة دولة إسرائيل هي أحد أشكال الوفاء بهذه الإرادة الإلهية. ففي رأيهم "إذا كان الرب قد قال إن هذه الأرض لليهود إلى الأبد، فإنها تبقى كذلك لأنه هو الخالق وهو المانح والمانع". كما يعتقد كثيرون منهم أن عودة اليهود إلى إسرائيل (فلسطين) هي أحد شروط العودة الثانية للمسيح.       

وقد شكلت في عام 2006 جماعة تسمى "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل" وتبنت قضية واحدة وهي الدفاع عن إسرائيل وتأييد سياساتها التوسعية، لاسيما الاستيطان في الضفة الغربية. وتزعم هذه الجماعة أنها تحظى بتأييد الملايين من الإنجيليين الأميركيين. واستمر دعم المسيحيين الصهاينة لإسرائيل رغم تراجعه المضطرد بين اليسار لاسيما فيما يتعلق بالسياسيات التي تنتهجها في الضفة الغربية وغزة.   

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب لدى استقباله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض بواشنطن العاصمة، في 29 سبتمبر 2025

إلا أن الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة تحدت هذا الموقف، حيث شهدت السنوات الأخيرة تآكل هذا الدعم التقليدي لها بين المسيحيين الإنجليين. وأشار البروفيسور شبلي تلحمي، الأستاذ بجامعة ميريلاند والمتتبع لمسار الرأي العام إزاء إسرائيل، إلى أن 32 في المئة فقط من الإنجيليين ممن تتراوح أعمارهم بين 18-34 عاما يتعاطفون مع إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهو ما يقل بنحو 30 في المئة عن الأجيال الأكبر سنا. أما تأييد إسرائيل حاليا بين الجمهوريين عامة فلا يزيد على 24 في المئة حيث أصبح الشباب من الجمهوريين يتعاطفون مع الفلسطينيين أكثر من تعاطفهم مع الإسرائيليين.

ويعتقد تلحمي أن هذا التحول العاطفي شجع المعارضين اليمينيين المناوئين لإسرائيل، مثل تاكر وكانديس والمستشار السابق للرئيس ترمب ستيف بانون الذي جهر مؤخرا أيضا بانتقاده للدولة العبرية. حيث تجرأ هؤلاء وشعروا بأن الوقت قد حان لرفع أصواتهم بذلك. ويتمتع هؤلاء الأشخاص بشعبية جارفة ولهم ملايين المتابعين الذين يؤمنون أيضا بما يقولون ويشعرون بالغضب والإحباط مما يحدث في غزة. كما يرفض الكثير من الأميركيين تورط بلادهم في أي حروب جديدة، خاصة في الشرق الأوسط ويعتريهم القلق من انجرار ترمب وراء شطحات إسرائيل العسكرية. وزاد هذا القلق بعد قصف الولايات المتحدة للمنشآت النووية الإيرانية هذا العام. ويعتقدون أن الإسرائيليين واللوبي الصهيوني وحكومة نتنياهو والمحافظين الجدد يستخدمون الولايات المتحدة كعربة مستأجرة لتنفيذ مغامراتهم.

يكشف عدم الارتياح بين كبار المتبرعين لإسرائيل، والذين يوجهون دفة التبرعات للحزب الجمهوري، مدى المصاعب التي يواجهها المحافظون اليهود في المناخ السياسي السائد حاليا

وتصر إدارة ترمب على مواصلة الدعم غير المحدود لإسرائيل فيما عينت مسيحيا إنجيليا من أشد الداعمين لإسرائيل، مايك هوكابي، سفيرا لدى تل أبيب. وتحاول اللوبيات الصهيونية أن تجعل المعارضة للسياسات الإسرائيلية بمثابة عداء للسامية.

 لكن من الواضح أن دعم اليمين المسيحي لإسرائيل لم يعد من المسلمات.  

وهنا يبرز السؤال: هل سيؤدي هذا التحول في الرأي العام الأميركي إلى تحول في السياسات؟

على جانب آخر، لا يزال الشباب اليهود يتمسكون بدعم دولة إسرائيل. فوفقا لاستطلاع أجري بين الطلبة اليهود بجامعة بنسلفانيا مؤخرا، أيد 84 في المئة منهم حق إسرائيل في تقرير المصير فيما وصف 62 في المئة منهم أنفسهم بأنهم صهاينة، واتفق 80 في المئة منهم على أن أغلب الانتقادات الموجهة لإسرائيل ترقى إلى مستوى العداء للسامية.   

وقد رصدت اللجنة الأميركية اليهودية التي تعد من أشد الداعمين لإسرائيل وحكوماتها تنامي ما وصفته بالعداء للسامية من جانب اليمين المتشدد واليسار المتشدد على السواء، علاوة على أطراف أخرى. وتخشى أن هذا التجرؤ من شأنه أن يؤجج "العداء للسامية" التي ترى أنه يتنامى فعليا على مستوى العالم. وتعتقد اللجنة أن العداء الأشد فتكا يأتي من اليمين المتشدد ومن العنصريين البيض الذين يعتبرون اليهود العدو الأول الذي يسعى لإنزالهم من على عرش التفوق. في المقابل، حسب اللجنة، يرى اليسار المتشدد أن اليهود عنصريون وأن فكرة "شعب الله المختار" تدعم هذا الاتهام، وأنهم يتمتعون بسلطات ومزايا أكثر من اللازم.

رويترز
يهودي يتظاهر تضامناً مع الفلسطينيين في اليوم الذي كان من المقرر أن يلقي فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطاباً أمام جلسة مشتركة للكونغرس الأميركي، في مبنى الكابيتول بواشنطن العاصمة، في 24 يوليو 2024.

في خضم هذه الموجة المتصاعدة، يأمل كبار المانحين اليهود في كبح جماح هذا المد الجارف من "العداء للسامية" في صفوف الجمهوريين، إلا أنهم لم يتفقوا بعد على أفضل السبل إلى ذلك. وفيما يحاول بعض هؤلاء المانحين التظاهر بالغفلة عن هذه المشكلة، يستعد البعض الآخر لوأد تطلعات المرشحين الجمهوريين المدرجين على قائمة "أعداء السامية" بالكونغرس، لاسيما الناشط فوينتس الذي أعلن عزمه إنشاء منظمة "تهدي الناس وتساعدهم على اختيار مرشحيهم"، وفضح اللوبيات الإسرائيلية، ومنها "إسرائيل أولا"، و"حركة اجعلوا إسرائيل عظيمة مرة أخرى".

ويكشف عدم الارتياح بين كبار المتبرعين لإسرائيل، والذين يوجهون دفة التبرعات للحزب الجمهوري، مدى المصاعب التي يواجهها المحافظون اليهود في المناخ السياسي السائد حاليا. ويشعر أغلبهم أن الحزب الديمقراطي سمح بتسلل العداء للسامية بين صفوفه خلال السنوات الأخيرة. والآن باتوا يخشون انتشار العدوى في سائر جسد الحزب الجمهوري، لاسيما بعد مقابلة كارلسون وفوينتس الذي أكد أن "التنظيمات اليهودية" تقف عائقا أمام توحيد الشعب الأميركي. ورد كارلسون بأن الجمهوريين الداعمين لإسرائيل يعانون من "اختلال في المخ". وسرعان ما انبرى نواب الكونغرس الداعمون لإسرائيل، من أمثال السيناتور تيد كروز وليندسي غراهام، والإعلاميون من أمثال بن شابيرو، لمهاجمة كارلسون وفوينتس. إلا أن ترمب لم يتخذ موقفا إذ صرح بأن من حق كارلسون أن يستضيف من يشاء وعلى الناس أن تقرر.

واتهم أحد كبار المانحين اليهود للحزب الجمهوري الأشخاص من أمثال كارلسون وفوينتس بالتخفي وراء حرية التعبير والتخويف من عزلة الولايات المتحدة للترويج لخطاب العداء للسامية وتطبيعه.

فيما يعكف الجمهوريون على النظر في مستقبل الحزب بعد ترمب، فإنهم يدركون أن هذه المعركة ستلعب دورا محوريا في سباق الرئاسة القادم عندما ينشد المرشحون دعم الناخبين والمتبرعين المؤيدين لإسرائيل

واتساقا مع هذه الحملة المضادة، توعد مات بروكس، رئيس الائتلاف اليهودي الجمهوري، باستهداف أي مرشحين يدعمهم فوينتس ومنعهم من التسلل إلى صفوف الجمهوريين والسيطرة على الحزب "على غرار ما حدث بالحزب الديمقراطي"، حسب قوله. ورأى أن العزاء الآن يكمن في أن هذه العدوى لا تزال على أطراف الحزب الجمهوري ولم تتمكن بعد من مراكزه. وأقر بذلك ديفيد كوستوف، نائب تنيسي الذي يعد أقدم يهودي جمهوري بالكونغرس، والنائب راندي فاين الذي يعتبر من أشد أنصار إسرائيل حتى إنه لقب نفسه "بالمطرقة العبرية". كما هدد السيناتور غراهام بمواجهة أي مرشح جمهوري معادٍ للسامية لإفشاله. وفي فلوريدا، تعهد أحد كبار المانحين اليهود للحزب الجمهوري ببذل كافة الجهود هو ونظراؤه لمنع هؤلاء الأشخاص من دخول الكونغرس أو تولي أي سلطة.           

ونقلت صحيفة "بوليتيكو" محادثة دارت بين مجموعة من الشباب الجمهوريين الذين كانوا يشيدون بهتلر ويتهكمون على "الهولوكوست"، وهو الأسبوع نفسه الذي تم فيه اكتشاف رمز من رموز النازية معلقا بأحد مكاتب الجمهوريين بالكونغرس.

رويترز
نظم أنصار الشعب الفلسطيني مسيرة أُطلق عليها اسم "يوم العمل من أجل فلسطين"، بالقرب من البيت الأبيض في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة الأميركية، في 14 أكتوبر 2023

وكشف استطلاع للرأي أجرته "واشنطن بوست" أن الحزبين الجمهوري والديمقراطي باتا متساويين فيما يتعلق بالصداقة لليهود بعد أن كان الديمقراطيون يتقدمون في هذا الصدد بنحو 15 نقطة على الجمهوريين. وزادت نسبة اليهود الأميركيين الذين يعتبرون أن الحزب الديمقراطي أصبح أقل ودا تجاههم من 10 في المئة عام 2020 إلى 31 في المئة هذا العام.  وأظهر استطلاع آخر أجراه "مركز بيو للبحوث" في سبتمبر/أيلول الماضي أن 60 في المئة من الأميركيين لديهم آراء سلبية عن الحكومة الإسرائيلية. ويشتد هذا الشعور بين شباب الجمهوريين.

وفيما يعكف الجمهوريون على النظر في مستقبل الحزب بعد ترمب، فإنهم يدركون أن هذه المعركة ستلعب دورا محوريا في سباق الرئاسة القادم عندما ينشد المرشحون دعم الناخبين والمتبرعين المؤيدين لإسرائيل. ويروج الإعلام الموالي لإسرائيل لفكرة أن موقف هؤلاء المتطلعين من "العداء للسامية" سيكون من العناصر الأساسية في تحديد تعامل المانحين معهم.

ومن بين الكثير من الجمهوريين الطامحين للترشح للرئاسة في انتخابات 2028، يركز المانحون اليهود بشكل خاص على نائب الرئيس جيه دي فانس ليروا ماذا سيقول بشأن دعمه لإسرائيل. فهو لا يزال شابا (41 عاما) وليس لديه سجل من التصريحات أو الآراء عن إسرائيل، وهو ما يبعث بشيء من عدم الارتياح تجاهه، لاسيما بعد الصدمة التي أحدثها انتخاب الشاب المتمرد على المألوف زهران ممداني رئيسا لبلدية نيويورك.

font change