دافيد ديوب يعيد إحياء الذاكرة الأفريقية في "حيث تسند السماء"

رواية ملحمية تنسي القراء "شقيق الروح"

AFP
AFP
دافيد ديوب يحضر حفل جوائز الكتاب الوطني الـ74 في نيويورك، 15 نوفمبر 2023

دافيد ديوب يعيد إحياء الذاكرة الأفريقية في "حيث تسند السماء"

بعد النجاح النقدي والجماهيري الساحق الذي حققته روايته "شقيق الروح"، والتي فازت بجائزة "غونكور" للطلاب وجائزة "بوكر" الدولية، يعود الكاتب الفرنسي السنغالي دافيد ديوب بملحمة جديدة غير مسبوقة في طموحها وعمقها التاريخي والنقدي، هي رواية "حيث تسند السماء"، مشروع سردي عميق سعى من خلاله ديوب إلى إعادة ربط خيوط الذاكرة الأفريقية الممزقة، وتحدي السرديات الاستعمارية التي فصلت بين شمال القارة وجنوبها، وبين تاريخها القديم وحاضرها.

هي رحلة عبر الزمان والمكان، من ضفاف النيل في مصر القديمة إلى سهول السنغال ومالي في القرن التاسع عشر، محملة أسئلة الهوية، والمنفى، وعبء النقل الشفوي.

الملحمة المزدوجة

تعتمد الرواية على بنية سردية مزدوجة، تتشابك فيها قصتان تفصل بينهما آلاف السنين، لكن يجمعهما خيط واحد هو "أنشودة الأصول"، في تشابك لم يوظفه ديوب كتقنية أدبية، بل سعى ليجعل منه جوهر الرواية الفكري، عبر تأكيد استمرارية التاريخ الأفريقي ووحدته.

تدور أحداث القصة الأولى في القرن التاسع عشر، وتتبع رحلة بلال سيكوهو غريوت (ناقل للذاكرة الشفوية)، سنغالي من سان لويس. تبدأ رحلته في جدة، بعدما تخلى عنه سيده النبيل خلال وباء الكوليرا الذي ضرب الحجاج العائدين من مكة. بلال، الذي نجا بمعجزة، يجد نفسه وحيدا ومجردا، لكنه يحمل في ذاكرته كنزا لا يقدر بثمن: "أنشودة الأصول"، التي توارثها عن واحد وسبعين ناقلا قبله. هذه الأنشودة هي تاريخ عائلته وطبقته الاجتماعية التي تعتبر "نجسة الدم" في مجتمعه. حول الكاتب رحلة بلال من رحلة جسدية من الشرق إلى الغرب، إلى رحلة روحية لاستعادة كرامته وإثبات صحة ذاكرته.

أما القصة الثانية، فتعود بنا إلى مصر البطلمية (القرن الثالث قبل الميلاد)، وتحديدا إلى مدينة أبيدوس. تروي قصة مجموعة من المنفيين يطلق عليهم "المدنسون"، الذين قادهم الكاهن الأعظم أونيفير في ثورة ضد الفراعنة اليونانيين الجدد (البطالمة). يحكم على هؤلاء المدنسين بالمنفى الأبدي إلى "أقصى الغرب"، إلى "جبل باخو الذي يسند السماء".

هذا الربط التاريخي يمنح الرواية عمقا إضافيا، حيث تتحول إلى أداة لإعادة كتابة التاريخ من منظور أفريقي موحد، يتجاوز الحدود التي رسمها الاستعمار

من بين هؤلاء المنفيين نجد الرامي أنتيف وزوجته ميريت والكاتب سخسخ، الذي يتورط في دسائس القصر وألاعيب السلطة. هذا التناوب السردي بين بلال في القرن التاسع عشر وأونيفير في مصر القديمة، يبرز أن "أنشودة الأصول" قد عبرت العصور، محافظة على روحها وجوهرها، حتى وإن اختلفت كلماتها، حيث أضاف كل جيل إليها آماله ومخاوفه الخاصة.

هذه الملحمة القديمة، رغم طابعها الأسطوري، لم تخل من قسوة الواقع، إذ كان على المنفيين أن يواجهوا الخيانة والموت العنيف والجوع والعطش في رحلتهم الطويلة والشاقة عبر الصحاري. يستخدم ديوب هذا التوازي ليؤكد أن تاريخ الغريوت "المنبوذين" في غرب أفريقيا ليس وصمة اجتماعية فحسب، بل هو نتاج ملحمة قديمة من المنفى والمقاومة، وأن أصولهم تعود إلى النخبة المصرية القديمة التي رفضت الخضوع للاحتلال الأجنبي.

عبء الدم النجس

أحد أكثر المواضيع إثارة في الرواية، هو معالجة ديوب لمسألة الغريوت (المنشدين/القصاصين) ونظام الطبقات في غرب أفريقيا.

في السنغال، ينظر إلى الغريوت، وهم حراس الذاكرة الشفوية والموسيقيون، على أنهم ينتمون إلى طبقة دنيا، أو إلى طبقة "نجسة الدم". يقدم ديوب تفسيرا أسطوريا لهذا الوصم الاجتماعي من خلال "أنشودة الأصول" التي يحملها بلال الذي يكتشف أن سبب "نجاسة دمه" يعود إلى "الخطأ الأصلي" لأحد أسلافه في مصر القديمة. هذا الخطأ ليس في الضرورة عارا، بل هو ثمن لقرار مصيري اتخذه الأجداد، فبدلا من أن يكون الوصم دليلا على الدونية، يصبح في سياق الرواية دليلا على الاستمرارية والأصالة.

بلال، بصفته الناقل الثاني والسبعين، هو الرابط الحي بين مصر القديمة ومالي والسنغال الحديثة. هذا الاقتباس من بداية الرواية يلخص مهمة بلال: "أنا الرائي، المختار من المختارين. أنا الناقل العليم، الرابط الحي بين الماضي والحاضر، كاتب الأمس واليوم. كلمات الجد الأكبر هي حمايتي، تميمة بقائي ما لم أورثها بدوري". هكذا تصبح الذاكرة هويته ووسيلة نجاته. إنها قوة خارقة تمنحه "شرفا" يفوق شرف سيده النبيل الذي تخلى عنه. بهذه الرؤية، يقلب ديوب الموازين الاجتماعية، جاعلا من المنبوذ هو الحارس الحقيقي للتاريخ، والساعي لإعادة تأهيل كرامة وكلمة طالما اعتبرتا نجستين.

غلاف رواية "في الليل كلّ الدم أسود"

من النيل إلى النيجر

تكمن الجرأة الفكرية للرواية في محاولتها الجادة لربط مصر القديمة بحضارات غرب أفريقيا، وهو موضوع نوقش طويلا في الأوساط الأكاديمية الأفريقية. تقدم الرواية هذا الرابط ليس كفرضية أكاديمية، بل كحقيقة ملحمية متجسدة في رحلة المنفيين. يظهر ديوب كيف أن هؤلاء المنفيين، الذين هربوا من الاضطهاد في أبيدوس، لم يختفوا في الصحراء، بل أسسوا حضارات جديدة. إنهم يحملون معهم المعرفة المصرية القديمة، بما في ذلك فنون الكتابة، والعمارة، والطقوس. تصل رحلتهم إلى ذروتها في تأسيس مدينة جيني في مالي، والتي تعرف بعمارتها الطينية الفريدة.

هذا الربط التاريخي يمنح الرواية عمقا إضافيا، حيث تتحول إلى أداة لإعادة كتابة التاريخ من منظور أفريقي موحد، يتجاوز الحدود التي رسمها الاستعمار

هذا الربط التاريخي يمنح الرواية عمقا إضافيا، حيث تتحول إلى أداة لإعادة كتابة التاريخ من منظور أفريقي موحد، يتجاوز الحدود التي رسمها الاستعمار، كأنما هي دعوة بأن الحضارة الأفريقية ليست مجرد مجموعة من الكيانات المنفصلة، بل هي نسيج واحد يمتد من النيل إلى المحيط الأطلسي.

بين الأسطورة والواقعية

تميز أسلوب ديوب في هذه الرواية بنفس ملحمي يذكرنا بالأوديسات الكلاسيكية، وفي الوقت نفسه بالروايات الفلسفية العميقة. فقد وظف لغة قوية ومكثفة، جمعت بين فخامة اللغة المصرية القديمة، كما تصورها، من خلال أسماء الأماكن والشخصيات والطقوس، وواقعية الحياة اليومية في غرب أفريقيا.

AFP / Joel Saget
الروائي والأكاديمي الفرنسي دافيد ديوب خلال جلسة تصوير في باريس، 8 أكتوبر 2025

أظهر ديوب براعة في دمج العناصر الأسطورية بالواقعية التاريخية. فبينما نتابع بلال سيك في رحلته الواقعية عبر الصحراء والمدن، نعيش بالتوازي مع أسلافه في مصر القديمة صراعاتهم السياسية والدينية. هذا المزيج منح الرواية إحساسا بالخلود، حيث تبدو الأحداث وكأنها تتكرر عبر العصور، خاصة حين يستعمل كتابة شعرية غاية في الإيحاء، كثيفة للغاية ومترنمة كقصيدة شعر، تتطلب من القارئ إصغاء منتبها. فالرواية في مجملها ليست قراءة سهلة، بل دعوة للتخلي عن سرعة العصر والانغماس في بطء السرد لتقدير قوته الكاملة. إذ تمزج بين النفس الروائي والتقاليد الشفوية، لتسائل قوة الكلمات على عبور القرون.

لا تخلو الرواية أيضا من النقد الاجتماعي الحاد. فقصة بلال سيك في جدة، وتخلي سيده عنه بسبب خوفه من "الدم النجس" في زمن الوباء، هي نقد لاذع للنفاق الاجتماعي والديني الذي يتجاوز الحدود الجغرافية. بلال، الذي نجا من الكوليرا بفضل دمه النجس الذي منحه مناعة روحية، يكتشف أن الوصم الاجتماعي يمكن أن يكون في الواقع مصدر قوة. أفريقيا، التي تظهر في العمل كمصفوفة مجروحة وذاكرة حية، هي الأساس لمعرفة يجب استعادتها وروحانية يجب إعادة ابتكارها، في توتر مثمر بين الإرث والابتكار.

غلاف رواية "شقيق الروح"

استعادة الكرامة الأفريقية

"حيث يسند السماء" هي رواية تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتتجاوز بنحو مدهش رواية "شقيق الروح" التي اعتبرت رائعة، فهي تقدم رؤية شاملة وموحدة للتاريخ الأفريقي، ليس على شكل بحث ممل عن الأصول، بل في صورة دعوة لاستعادة الكرامة الأفريقية من خلال الاعتراف بالاستمرارية الحضارية للقارة.

يقدم دافيد ديوب، بأسلوبه المتقن وعمقه الفكري، عملا أدبيا ضخما يثبت مكانته كواحد من أهم الأصوات الأدبية المعاصرة التي تتناول قضايا الذاكرة والهوية في أفريقيا

يقدم دافيد ديوب، بأسلوبه المتقن وعمقه الفكري، عملا أدبيا ضخما يثبت مكانته كواحد من أهم الأصوات الأدبية المعاصرة التي تتناول قضايا الذاكرة والهوية في أفريقيا. إنها رواية تستحق القراءة بتمعن، ليس فقط لجمالها الأدبي، بل لقدرتها على إثارة أسئلة جوهرية حول كيفية بناء الهوية في مواجهة التجزئة التاريخية والاجتماعية. في نهاية المطاف، ينجح ديوب في أن يجعلنا نرى أن السماء لا تسند على جبل باخو فحسب، بل تسند أيضا على أكتاف الغريوت، حراس الذاكرة، الذين يضمنون أن "أنشودة الأصول" لن تموت أبدا.

font change