العالم العربي ومخاض التحول... غزة والهيمنة ونهضة الفاعلية

في الوعي العربي، جسد غزو العراق مخاطر التدخل الخارجي: غطرسة قوة عظمى انتهت بانقسام إقليمي

أ.ف.ب
أ.ف.ب
طفل يحمل حوضا بلاستيكيا أثناء عودة النازحين إلى منازلهم في منطقة الزهراء، شمال مخيم النصيرات للاجئين وسط قطاع غزة، بعد يوم من دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، في 14 أكتوبر 2025

العالم العربي ومخاض التحول... غزة والهيمنة ونهضة الفاعلية

حطمت حرب غزة أوهام الاستقرار الإقليمي وكشفت عن مدى الهيمنة الإسرائيلية والأميركية. ومع ذلك، بين أنقاض هذا الدمار ثمة واقع إقليمي ناشئ، واقع يشير إلى ما يبدو أنه إعادة اكتشاف للفاعلية العربية.

لم ينشأ هذا التحول من فراغ ولم يأت من العدم، بل جاء تتويجا لعقود من الضغوط المتراكمة، من نهاية الحرب الباردة إلى اضطرابات "الربيع العربي"، والآن الصراع الممتد في غزة الذي استمر من عام 2023 إلى عام 2025.

وما بدأ كرد فعل على توغل "حماس"، تطور إلى تصفية حسابات عميقة، أجبرت العالم العربي على مواجهة سلبيته التاريخية واستعادة قدر من الاستقلال الاستراتيجي.

في هذا التأمل الموسع، نغوص عميقا في الأسس التاريخية، والتفكك متعدد الجوانب للنظام القديم، والدور المحفز لحرب غزة، وإخفاق الهيمنة، وإعادة اكتشاف الدبلوماسية العربية، وصعود القوى المتوسطة، والتحولات العالمية، وعودة بروز القضية الفلسطينية والاعتراف بأهميتها، والمعضلات الاستراتيجية التي تواجه إسرائيل، والدروس المستفادة للعالم العربي، ومعالم النظام الإقليمي الناشئ في الشرق الأوسط. وتحت عدسة المجهر تبرز حرب غزة، كأمل ساطع في نهاية نفق مظلم، فهي لم تحمل في طياتها المأساة وحسب، بل كانت المرجل الذي يعيد تشكيل هوية المنطقة ومكانتها في العالم.

تفكك النظام القديم

كان الشرق الأوسط طيلة فترة ما بعد "الحرب الباردة"، نظاما تديره الولايات المتحدة إلى حد كبير. وقد حققت المظلة الأمنية لواشنطن، التي تدعمها تحالفاتها الإقليمية، استقرارا وعرا انتهج سياسة الاحتواء بدل تقديم حلول حقيقية. وأكدت حرب الخليج عام 1991، التفوق الأميركي في المنطقة، بعد أن طرد تحالف بقيادة الولايات المتحدة القوات العراقية من الكويت، الأمر الذي أرسى سابقة للتدخل تحت راية التحالفات الدولية. وعززت هذه العملية، التي شاركت فيها أكثر من 30 دولة محققة ذروة أهدافها بانتصار سريع، فكرة أن الولايات المتحدة بمقدورها أن تملي شروطها في العالم العربي، من فرض للعقوبات إلى مناطق حظر الطيران. بيد أن التصدعات كانت واضحة حتى آنذاك: تركت الحرب نظام صدام حسين سليما معافى، زارعة بذور انعدام الاستقرار المستقبلي.

رويترز
جندي أميركي يراقب سقوط تمثال الرئيس العراقي صدام حسين في وسط بغداد، 9 أبريل 2003

كان غزو العراق عام 2003 كارثيا في تنفيذه وتداعياته، إلا أنه عزز في البداية هيمنة الولايات المتحدة. وقد جرى تصويره على أنه مهمة لنزع أسلحة الدمار الشامل (التي ثبت عدم وجودها) وتعزيز الديمقراطية. لقد أطاح الغزو بالدكتاتور صدام حسين، غير أنه أطلق العنان للفوضى الطائفية والتمرد، وصعود الجماعات المتطرفة مثل "داعش". وكانت التكلفة البشرية باهظة: مئات الآلاف من القتلى وملايين النازحين، أما العبء المادي فقد فاق تريليون دولار على الولايات المتحدة وحدها. وفي الوعي العربي، جسد هذا الغزو مخاطر التدخل الخارجي: غطرسة قوة عظمى انتهت بانقسام إقليمي. وتآكلت الثقة أيضا في النوايا الأميركية، حيث فتحت وعود التحرير الباب للاحتلال وفضائح "أبو غريب".

الصراع في سوريا الذي بدأ كاحتجاجات ضد بشار الأسد، تحول إلى حرب إقليمية ودولية بالوكالة جذبت آلاف المقاتلين الأجانب

وبحلول أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، اتسعت التصدعات في تلك الواجهة أحادية القطب بشكل لافت. فالأزمة المالية العالمية عام 2008  أضعفت ثقة الغرب، وكشفت عن نقاط الضعف في النموذج النيوليبرالي الذي جرى تصديره إلى المنطقة من خلال الاتفاقيات التجارية وبرامج الإصلاحات الهيكلية التي يفرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عند تقديم قروض إلى البلدان التي تعاني من أزمات اقتصادية. عانت الاقتصادات العربية، المعتمدة بشكل كبير على صادرات النفط والتحويلات المالية، من آثار متتالية: حيث ارتفعت معدلات البطالة، لا سيما بين الشباب، مما أدى إلى تأجيج السخط الذي اندلع عام 2011.

كشفت الانتفاضات العربية في ذلك العام عن هشاشة الأنظمة الإقليمية وإفلاس العقود الاجتماعية القديمة. من "ثورة الياسمين" في تونس إلى ميدان التحرير في مصر، طالب الملايين بالخبز والحرية والعدالة الاجتماعية. لم تكن هذه الحركات أيديولوجيات مستوردة، بل انبثقت كاستجابة طبيعية لعقود من الاستبداد والفساد والتفاوت الاقتصادي. ومن المؤسف أن التطورات التي تلت تلك التحركات، والتي تفاقمت بسبب التدخل الأجنبي، سلطت الضوء على حدود التغيير الذي يقوده الناس دون ضمانات مؤسسية.

رويترز
متظاهرون مناهضون للحكومة في ميدان التحرير بالقاهرة يستمعون إلى خطاب الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، في 10 فبراير 2011

وأدت الحروب في أعقاب تلك الانتفاضات إلى تفتيت المنطقة أكثر. فالصراع في سوريا الذي بدأ كاحتجاجات ضد بشار الأسد، تحول إلى حرب إقليمية ودولية بالوكالة جذبت آلاف المقاتلين الأجانب، وعلى الساحة السورية تصارعت كل من روسيا (التي دعمت النظام بالقوة الجوية)، وإيران (عبر "حزب الله" والميليشيات)، وتركيا (التي دعمت فصائل المعارضة)، والولايات المتحدة (التي دعمت الجماعات المسلحة واستهدفت "داعش" مع تحفظها بشأن الأكراد). وشهد اليمن حربا بين التحالف العربي والإسلامي و"الحوثيين" المدعومين من إيران، فأسفرت تلك الحرب عن واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية. أما ليبيا فقد انحدرت إلى حكم الميليشيات بعد الإطاحة بمعمر القذافي، لتصبح ساحة معركة بالوكالة للمصالح الإقليمية والدولية المتنافسة.

ونجم عن هذه الصراعات ظهور جهات فاعلة جديدة، مما أضعف من الحصرية الأميركية. حيث مارست روسيا نفوذها عبر سوريا و"أوبك+"، بتنسيق إنتاج النفط لتحقيق استقرار الأسعار  وتعزيز نفوذها في قطاع الطاقة. ووسعت الصين حضورها الاقتصادي من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، فاستثمرت في الموانئ من جيبوتي إلى عمان، والسكك الحديدية في مصر، والبنية التحتية في الخليج.

علّقت السعودية محادثات للتطبيع مع إسرائيل، التي بدأت في ظل "اتفاقات أبراهام"، وأعلنت أنه لا يمكن للسلام أن يدوم دون تحقيق العدالة للفلسطينيين، وتبين أن السعوديين ينظرون إلى فلسطين كقضية جوهرية

وبحلول العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لم يعد الشرق الأوسط فضاء أحادي القطب. بقيت واشنطن قوة عظمى، لكنها لم تعد القوة الوحيدة. فدول الخليج على سبيل المثال نوعت شراكاتها الأمنية والاستثمارية، فاشترت الأسلحة من روسيا والصين مع الحفاظ على القواعد الأميركية. وسعت كل من مصر والمملكة العربية السعودية وتركيا إلى تحقيق التوازن بدلا من التوافق، منخرطة في "التوازن الشامل" لدفع خياراتها إلى أقصى الآفاق.

انتهى عصر الوصاية. وحل محله ما أسميه "نظام القوى الإقليمية المتوسطة": وهو يضم دولا، على الرغم من أنها ليست قوى عالمية، إلا أنها امتلكت ما يكفي من القوة لتشكيل النتائج وحجز مكان لها بين المتنافسين. وآمل أن يتطور هذا إلى ما يمكن أن يصبح ثورة هادئة في العالم العربي: صحوة للاستقلال الاستراتيجي. وتجلى هذا في تحولات خفية، مثل رفض معظم الدول العربية الانحياز الكامل للمواقف الأميركية بشأن أوكرانيا. لم يولد هذا التطور من رحم الأيديولوجيا، بل أنجبته الضرورة، حيث كانت الدول العربية تبحر في عالم تشتت فيه القوى العظمى بسبب الاستقطاب الداخلي وتنافس تلك القوى فيما بينها.

غزة... الحافز الذي حرض على التغيير

وجاءت غزة، ذلك الشريط من الأرض الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا مربعا، بيد أنه يحتل مكانة مميزة في الوعي الإقليمي.

أ.ف.ب
فلسطينيون يتجهون إلى مدينة غزة عبر "ممر نتساريم" من النصيرات وسط قطاع غزة في 11 أكتوبر 2025

وكانت الحرب التي بدأت في أكتوبر/تشرين الأول 2023 غير مسبوقة في نطاقها وعواقبها. وكان رد الفعل الإسرائيلي إثر عملية اخترقت فيها "حماس" الحدود الإسرائيلية، سريعا وساحقا. تطورت عملية "السيوف الحديدية" إلى حملة ممتدة شملت توغلات برية وقصفا جويا، أسفرت عن مقتل أكثر من 70 ألف شخص وتركت غزة مدمرة وغير صالحة للسكن تقريبا.

وما رأته إسرائيل حربا من أجل الأمن، عاشه العالم العربي كحرب من القهر، مما استرجع ذكريات نكبة عام 1948 واحتلال عام 1967 بكل ما حملته من إحباط وآلام. وكشفت صور الأقمار الاصطناعية عن محو أحياء بأكملها، واندثار مواقع للتراث الثقافي، وإتلاف أراض زراعية لتتحول إلى مساحات قاحلة بفعل المواد الكيماوية.

وكان رد الفعل العربي متعدد الأوجه ومتواصلا. فمصر رفضت رفضا قاطعا أي خطة إسرائيلية لتهجير سكان غزة إلى سيناء، وهو عمل ينتهك السيادة المصرية، وينكأ جراح التهجير التاريخية، ويزعزع استقرار البلاد. فعززت حدودها، ونشرت قواتها، وأصدرت تحذيرات صارمة، مستفيدة من دورها كضامن في اتفاقات وقف إطلاق النار السابقة.

وعلّقت السعودية محادثات للتطبيع مع إسرائيل، التي بدأت في ظل "اتفاقات أبراهام"، وأعلنت أنه لا يمكن للسلام أن يدوم دون تحقيق العدالة للفلسطينيين، وتبين أن السعوديين ينظرون إلى فلسطين كقضية جوهرية. أما الإمارات العربية المتحدة، فعلى الرغم من تطبيعها عام 2020، فقد انتقدت تكتيكات إسرائيل في تصريحات علنية، ودعمت قرارات الأمم المتحدة الداعية إلى وقف إطلاق النار.

كما واجه الأردن احتجاجات حاشدة تطالب بتعليق معاهدة السلام المبرمة عام 1994 مع إسرائيل. ونجح الملك عبد الله الثاني في كبح جماح الغضب الداخلي مع الحفاظ على التنسيق الأمني، فطرد الدبلوماسيين الإسرائيليين مؤقتا واستدعى السفير الأردني. أما في العراق، فقد شنت الميليشيات عدة هجمات بطائرات مسيرة على أهداف إسرائيلية؛ وفي لبنان، صعّد "حزب الله" مناوشاته الحدودية، مما جر إسرائيل إلى الجبهة الشمالية.

مطالبة إسرائيل بالزعامة الإقليمية لم تُقوّض بسبب العداء العربي، وإنما بسبب عزلتها الأخلاقية

وفي سائر أرجاء المنطقة، عادت القضية الفلسطينية، التي همشتها البرغماتية الجيوسياسية وإغراءات الصفقات الاقتصادية لفترة طويلة، إلى صميم الوعي العربي. سلطت وسائل التواصل الاجتماعي الضوء على صور  المعاناة بكثافة غير مسبوقة، حاشدة جاليات الشتات وحركات التضامن العالمية. واستهدفت حركات المقاطعة العلامات التجارية المرتبطة بإسرائيل، بينما أحيى الفنانون والمثقفون والشباب أشكال التعبير الثقافي للمقاومة. ولم يكن هذا الانبعاث حنينا إلى الماضي، بل كان يتطلع إلى المستقبل، حيث اندمجت فلسطين في سرديات الكرامة وتقرير المصير.

فشل الهيمنة

بالنسبة لإسرائيل، كانت حرب غزة تهدف إلى استعادة قوة الردع بعد صدمة السابع من أكتوبر. لكنها في الحقيقة كشفت عن نقاط ضعفها الحرجة: محدودية هيمنتها العسكرية، وعدم ديمومة النظام الإقليمي القائم على الاستخدام المفرط للقوة، واعتمادها المطلق على الولايات المتحدة الذي حطم أسطورة استقلالها الاستراتيجي.

     إن الجيش الإسرائيلي، المجهز بأحدث التقنيات من طائرات مسيرة، وذخائر موجهة بالذكاء الاصطناعي، وقبة حديدية، حقق بلا شك نجاحات تكتيكية، إلا أنه واجه جمودا استراتيجياً. ورغم إضعاف "حماس" و"حزب الله" بشدة، فهما ما زالا قوتين سياسيتين لا يستهان بهما. وإيران، التي ضعفت عسكريا على نحو خطير أيضا، لم تتخل عن جرأتها وتحديها بعد.

أ.ف.ب
توقيع "اتفاقات ابراهام" في 20 سبتمبر 2020

منذ "اتفاقات أبراهام" عام 2020، سعت إسرائيل إلى إعادة تعريف دورها: ليس كقوة احتلال، وإنما كدولة شرق أوسطية "طبيعية": متقدمة تقنيا، وديناميكية اقتصاديا، وشريكة للأنظمة العربية البرغماتية. قدمت الاتفاقات مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان وعودا بتبادل التجارة والسياحة ونقل التكنولوجيا، متجاوزة فلسطين.

واعتمدت هذه الاستراتيجية على افتراضين: إمكانية احتواء القضية الفلسطينية من خلال الحوافز والعزلة، وأن الدول العربية ستنحاز للدخول إلى عالم الحداثة بدل التضامن، معتبرة أن "حماس" مجرد وكيل لإيران وليس حركة مقاومة.

وقد انهار كلا الافتراضين في غزة. ووُصفت الخسائر المدنية غير المسبوقة والدمار الشامل (الذي تحققت منه منظمات دولية مثل "منظمة العفو الدولية" و"هيومان رايتس ووتش" والمقررون الخاصون المكلفون من الأمم المتحدة) بأنها ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، مما جعل التطبيع ساما سياسيا. وأجبرت الاحتجاجات الحكومات على إعادة النظر. حتى أقرب شركاء إسرائيل نأوا بأنفسهم: حيث أدان مسؤولو الإمارات "العقاب الجماعي" على سبيل المثال.

إن مطالبة إسرائيل بالزعامة الإقليمية لم تُقوّض بسبب العداء العربي، وإنما بسبب عزلتها الأخلاقية. فالمحاكم العالمية، بما فيها محكمة العدل الدولية، أصدرت تدابير مؤقتة ضد أفعال إسرائيل، مشيرة إلى مخاطر الإبادة الجماعية في قضية رفعتها جنوب أفريقيا، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيليين.

وفي الوقت نفسه، الولايات المتحدة التي لطالما لعبت دور الدرع الدبلوماسي لإسرائيل، وجدت نفسها محاصرة. إن الدعم غير المشروط، الذي تجلى في مليارات الدولارات من الأسلحة واستخدام حق النقض (الفيتو) ضد أكثر من 12 قرارا في مجلس الأمن، أفضى إلى نفور الرأي العام العالمي، وساهم في تسريع تآكل السلطة الأخلاقية الأميركية في العالم العربي. وشكل استخدام واشنطن المتكرر للفيتو تناقضا صارخا مع التزامها المعلن بالقانون الدولي، مكررا بذلك نفاقها الذي انكشف في العراق.

نجحت مصر، مستفيدة من خبرتها الدبلوماسية وموقعها الجغرافي المركزي، في تحقيق علاقات متوازنة مع كل من واشنطن (بمساعداتها العسكرية)، وموسكو (بصفقات محطات الطاقة النووية)، وبكين

ويبدو أن الاحتجاجات التي شهدتها الجامعات في الغرب والتحولات في الرأي العام الأميركي، ليس بين الديمقراطيين فقط، ولكن أيضا ضمن بعض أوساط الحزب الجمهوري، بدأت تؤثر على السياسات الأميركية والأوروبية.

كشفت حرب غزة، مثلما كشف غزو العراق قبل عشرين عاما خلت، عن تناقضات هيمنة متلاشية: قوة ساحقة مقترنة بتراجع الشرعية. وعكس سعي إسرائيل إلى الهيمنة الإقليمية الأزمةَ الأوسع التي يعاني منها النظام الذي يقوده الغرب، حيث يعجز التفوق العسكري عن التحول إلى نفوذ دائم في ظل تنامي التعددية القطبية.

إعادة اكتشاف القدرات العربية

وإذا كانت غزة قد كشفت عن فشل الهيمنة، فقد أظهرت في الوقت نفسه عودة الدبلوماسية العربية بطرق ملموسة ومبتكرة.

قادت مصر وقطر جهود الوساطة بين إسرائيل و"حماس" والولايات المتحدة، مستفيدة من عدة مزايا بارزة. إن قرب القاهرة من غزة، وقنواتها الأمنية التاريخية عبر رفح، وعلاقاتها الاستخباراتية، كلها عومل لعبت دورا في تسهيل مفاوضات الرهائن. كما أتاحت استضافة الدوحة لقادة "حماس" السياسيين ودعمها المالي إجراء محادثات عبر قنوات غير رسمية.

واستخدمت الرياض نفوذها العالمي، وعلى رأسه نفوذها في "أوبك+" وعضويتها في مجموعة "بريكس"، في الضغط من أجل خفض التصعيد. وتمخض عن كل ما سبق عملية بقيادة عربية، بلغت ذروتها في إطار "الرؤية الشاملة لغزة" في القاهرة في فبراير/شباط 2025، والمبادرة السعودية في يونيو/حزيران 2025 (بالتعاون مع فرنسا) بشأن مؤتمر الأمم المتحدة حول حل الدولتين لفلسطين. المبادرة الأولى، التي ركزت على غزة، أسست لوقف إطلاق نار تدريجي: إطلاق سراح الرهائن في البداية في عملية تبادل للأسرى، وتوسيع فترات التوقف الإنساني وصولا إلى التوقف الكامل، وآليات لإعادة الإعمار بتمويل من تعهدات الخليج والمانحين الدوليين. ووضعت  الخطة تصورا لوكالات الأمم المتحدة التي تشرف على توزيع المساعدات، ولقوة متعددة الجنسيات تراقب الحدود. أما المبادرة الثانية فقد قدمت خارطة طريق مفصلة وشاملة لإقامة دولة فلسطينية. وكلتاهما كانتا حافزا لخطة ترمب المكونة من 20 بندا والتي أعلن عنها في سبتمبر/أيلول الماضي.

أ.ف.ب
شاحنات محملة بالمساعدات لغزة، تنتظر على الجانب المصري من معبر رفح في 18 أغسطس 2025

وامتدت أهمية هذه الدبلوماسية إلى ما هو أبعد من الصراع نفسه. فللمرة الأولى منذ عقود، يبدو أن الدول العربية تعمل على تشكيل معايير أزمة إقليمية كبرى ولا تكتفي بتأييدها.  وكان التنسيق بينها عملياً لا أيديولوجياً: بيانات مشتركة في جامعة الدول العربية، وتصويتات منسقة في الجمعية العامة، ومسارات موازية مع تركيا وإيران. وقد أشار ذلك إلى تحول نفسي مهم: إدراك عميق بأن الاستقرار الإقليمي لن يتحقق بالاعتماد إلى أجل غير مسمى على رعاة خارجيين، غالبا ما يعملون لخدمة مصالحهم أولا.

صعود القوى المتوسطة

اشتعلت أزمة غزة على خلفية تحولات هيكلية أعمق في النظام الدولي. فالثنائية القديمة القائمة على "هيمنة القوى العظمى والتبعية الإقليمية" استُبدلت بنظام أكثر تعددية وديناميكية، نظام يمكن تسميته بالتعددية الاستراتيجية العربية، حيث تتعاون الدول مع أقطاب متعددة لتعزيز نفوذها.

نجحت مصر، مستفيدة من خبرتها الدبلوماسية وموقعها الجغرافي المركزي، في تحقيق علاقات متوازنة مع كل من واشنطن (بمساعداتها العسكرية)، وموسكو (بصفقات محطات الطاقة النووية)، وبكين (باستثمارات قناة السويس)، وفي الوقت نفسه وضعت نفسها في موضع الوسيط الذي لا غنى عنه في العالم العربي.

النظام الدولي في حالة تغير مستمر، ينتقل من أحادية القطب إلى تعدد الأقطاب المتنازع عليه أو إلى نظام مناطق النفوذ إذا ساد التنافس بين القوى العظمى

وأعادت المملكة العربية السعودية تعريف دورها العالمي من خلال "رؤية 2030"، مستندة إلى التنوع الاقتصادي لتأكيد استقلاليتها. إن شراكاتها المتنامية مع الصين في ميدان التحول في مجال الطاقة (مشاريع الطاقة الشمسية) والتكنولوجيا (هواوي، الجيل الخامس)، إلى جانب علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة والتنسيق مع روسيا في إطار "أوبك+"، تجسد الدبلوماسية متعددة الأقطاب. وقد انعكس الاتفاق السعودي - الإيراني، الذي توسطت فيه الصين عام 2023، على الوضع في اليمن.

أما الإمارات العربية المتحدة وقطر، وبفضل شبكاتهما الواسعة من العلاقات المالية والاقتصادية حول العالم، إلى جانب قدراتهما في الوساطة، فقد لعبتا أدوارا مهمة في التأثير على الولايات المتحدة وأوروبا.

ومن ناحية أخرى، تتشارك تركيا نفس المنطق، وهو الموازنة بين تحالفاتها مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتأكيد على الوجود الإقليمي في سوريا وليبيا والصومال. وتساهم صادراتها من الطائرات المسيرة ووساطتها في صفقات الحبوب الأوكرانية في توسيع نفوذها.

أ.ف.ب
صورة تذكارية بعد الاجتماع الوزاري الـ163 لمجلس التعاون الخليجي في مكة المكرمة، المملكة العربية السعودية في 6 مارس 2025

وحتى إيران، التي ظلت معزولة لفترة طويلة، دخلت هذه الديناميكية متعددة الأقطاب، عبر تطبيع علاقاتها مع السعودية وانضمامها إلى مجموعة "بريكس". إضافة إلى ما سبق، وبعد حرب الاثني عشر يوما في يونيو/حزيران الماضي، يبدو أن طهران تفكر في إعادة مراجعة سياستها القائمة على الدفاع المتقدم (باستخدام جهات فاعلة غير حكومية كرادع ضد إسرائيل) التي كانت مصدر قلق لكثير من الدول العربية، وبالتالي تعزيز المسار الإيجابي لعلاقاتها مع الدول العربية.

وفي الوقت نفسه، لم تنجح إسرائيل في ترجمة نجاحاتها العسكرية الأولية إلى أرباح سياسية ملموسة ومكاسب استراتيجية. وإذا لم تراجع إسرائيل تطلعاتها إلى الهيمنة،  فإن هذا التحول في الأحداث قد يؤدي إلى إبعادها عن رسم ملامح مستقبل المنطقة.

اليوم، تعمل الدول العربية وإيران وتركيا معا على رسم المشهد. لا أحد يسعى للهيمنة، الجميع يسعى إلى حرية المناورة السيادية. والنتيجة، كما نأمل، هي شرق أوسط أقل استقطابا، وأكثر برغماتية، وأكثر قدرة على تقرير المصير (على الأقل، ثمة أمل محتمل). وبوسع إسرائيل أن تختار الانضمام إلى هذا المسعى، أو تستمر في مطاردة سراب الهيمنة الإقليمية.

مخاض التحول

تعكس هذه التحولات الإقليمية تحولات عالمية أوسع نطاقا. فالنظام الدولي في حالة تغير مستمر، ينتقل من أحادية القطب إلى تعدد الأقطاب المتنازع عليه أو إلى نظام مناطق النفوذ إذا ساد التنافس بين القوى العظمى.

إن سعي دول الجنوب العالمي لتحقيق الإنصاف؛ في تمويل مشروع المناخ، وتوزيع اللقاحات، وتخفيف أعباء الديون، أدت إلى تآكل احتكار الغرب للحوكمة العالمية. وتوفر التجمعات الدولية مثل مجموعة "بريكس"، و"منظمة شنغهاي للتعاون"، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، منصات مهمة لدول الجنوب العالمي لصياغة الأجندة الدولية.

تواجه إسرائيل بيئتها الأكثر تعقيدا. فرغم تفوقها العسكري ونصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي الذي يتجاوز 50 ألف دولار، وامتلاكها مراكز ابتكار، فإنها تعاني من العزلة

وفي هذا السياق، تبرز البرغماتية الجديدة للعالم العربي كنموذج مميز. فالقوى العربية المتوسطة تسعى إلى الاستقلال وسط القوى العملاقة. وترسي هذه الدول خططا احتياطية بديلة: فمصر والإمارات العربية المتحدة انضمتا إلى مجموعة "البريكس"، وتستضيف السعودية محادثات أميركية صينية.

لقد قدمت غزة صورة جلية لا تحتاج المزيد من الشرح أو الإيضاح. فمع تآكل مصداقية الغرب (بالأسلحة التي تغدقها الولايات المتحدة على إسرائيل في ظل استخدام حق النقض) ​​أحيت الدبلوماسية العربية، بالتنسيق مع الاتحاد الأفريقي، ومجموعة "بريكس"، و"منظمة شنغهاي للتعاون"، وحركة عدم الانحياز، "روح باندونغ" وهي مجموعة المبادئ التي نتجت عن مؤتمر باندونغ عام 1955، والذي جمع دولا آسيوية وأفريقية لمواجهة الاستعمار ووضع أسس التعاون بين دول العالم الثالث. وذكّرت بأن الشرعية تنبع من ضبط النفس، لا من الهيمنة، التي تؤثر على إحالات المحكمة الجنائية الدولية وقضايا محكمة العدل الدولية.

عودة الروح إلى القضية الفلسطينية

أعادت حرب غزة القضية الفلسطينية إلى مركز السياسة الإقليمية. على مدى أكثر من عقد، سار التطبيع قُدما على افتراض إمكانية إدارة الصراع من خلال حوافز اقتصادية، ومناطق تكنولوجية في الضفة الغربية، ومدن صناعية في غزة. لكن الدمار الذي شاهده العالم على الهواء مباشرة حطم الأوهام: أطفال تحت الأنقاض، مستشفيات تقصف، قوافل مساعدات تمنع من تقديم المساعدات.

رويترز
جنود أميركيون وإسرائيليون في مركز التنسيق المدني العسكري، وهو المركز الذي تقوده الولايات المتحدة للإشراف على تنفيذ خطة الرئيس دونالد ترمب لإنهاء الحرب في غزة، في كريات جات، جنوب إسرائيل، في 17 نوفمبر 2025

بالنسبة للقادة العرب، كان هذا استراتيجياً. إن شرعية أجندات التحديث تعتمد على ثقة الشعوب، ففلسطين تسكن الوجدان العربي، وفقا لاستطلاعات "الباروميتر العربي" التي أظهرت أولوية القضية الفلسطينية بنسبة تزيد على 80 في المئة. إن إعادة فرض السلام تتطلب العدالة: إقامة دولتين، العودة إلى حدود 1967، ومدينة القدس مشتركة، كما تتطلب استعادة المصداقية والقدرة على التأثير.

أعادت غزة التوازن الأخلاقي: فالاستقرار المبني على الظلم لا يمكن أن يدوم. وارتبطت أيضا بحقوق أوسع كتوظيف الشباب، ودور المرأة على سبيل المثال، مما يتطلب إصلاحا شاملا.

معضلة إسرائيل الاستراتيجية 

تواجه إسرائيل بيئتها الأكثر تعقيدا. فرغم تفوقها العسكري ونصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي الذي يتجاوز 50 ألف دولار، وامتلاكها مراكز ابتكار، فإنها تعاني من العزلة. وتبدو تحالفاتها الدولية التقليدية (التي خدمتها جيدا منذ تأسيسها) غير مستقرة، سواء في الولايات المتحدة أم في أوروبا.

ستشهد الأشهر القليلة المقبلة مدى قدرة العالم العربي على مواجهة التحدي. فهل ستُترجم هذه القدرة المكتشفة حديثا إلى صياغة رؤية مشتركة لمستقبل الشرق الأوسط

ويصطدم سرد "الدولة الناشئة" بواقع الاحتلال: تمدد المستوطنات وحصار غزة. لا يمكن للبراعة التكنولوجية أن تحل محل الشرعية؛ فالردع يفشل من دون السلام، كما أثبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

إن إرساء الأمن على المدى الطويل يتطلب إعادة الإدماج: على الصعيد السياسي (عبر إنهاء الاحتلال)، وعلى الصعيد الاقتصادي (من خلال التجارة الإقليمية)، وعلى المستوى الأخلاقي (الذي لن يتحقق إلا عبر الاعتراف بالسردية الفلسطينية). يمكن للقوة أن تُخضع الآخرين، لكنها لا تضمن قبولهم، ويجب على القيادة أن تحقق المساواة بدل الاستناد إلى التفوق الهرمي.

دروس للعالم العربي

يجب أن تُترجم إعادة اكتشاف القدرة على التصرف إلى رؤية مستقبلية للشرق الأوسط. ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من أخذ ثلاثة دروس في الاعتبار:

أولا، الاستقلال ليس غاية. إن وضع خطط احتياطية أمر بالغ الأهمية، ولكن في ظل غياب تعاون مؤسسي، وخاصة جامعة عربية يعاد إحياؤها، قد يتم الانزلاق إلى الانتهازية. فالأمن الجماعي والتكامل الاقتصادي كفيلان بالوقوف في وجه الأزمات.

ثانيا، القيادة تتطلب الشرعية.

يجب أن تعتمد الدبلوماسية على توافقات المجتمع وإجماع مكوناته؛ فعصر الهيمنة الهرمية يتلاشى في ظل هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، وتنامي دور الشباب.

ثالثا، الدور العالمي المرتكز على القيم. إن نداء العدالة في غزة له وزنه إذا ما اقترن بالإصلاح الداخلي: الإدماج، ومكافحة الفساد، والتنمية المستدامة.

ستشهد الأشهر القليلة المقبلة مدى قدرة العالم العربي على مواجهة هذا التحدي. فهل ستُترجم هذه القدرة المكتشفة حديثا إلى صياغة رؤية مشتركة لمستقبل الشرق الأوسط. رؤية تلبي تطلعات الشعوب العربية في الحرية السياسية والتقدم الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. رؤية قائمة على الاستقلال الإقليمي بعيدا عن الاعتماد على القوى العظمى. رؤية تستند إلى بنية أمنية إقليمية لا تضع نصب عينيها المصالح والمخاوف العربية وحسب، وإنما مصالح ومخاوف دول الجوار مثل تركيا وإيران، وفي نهاية المطاف مصالح ومخاوف إسرائيل عندما تتراجع عن سعيها للهيمنة الإقليمية وتقبل العيش جنبا إلى جنب مع دولة فلسطينية.

font change

مقالات ذات صلة