مروان الغفوري يستكشف الحركات السلفية في أحدث رواياته

على مقربة من المكان اليمني ومن مجتمعه الحيوي

غلاف رواية "خمس منازل لله وغرفة لجدتي"

مروان الغفوري يستكشف الحركات السلفية في أحدث رواياته

ربما يعطي عنوان رواية الكاتب اليمني مروان الغفوري، "خمس منازل لله وغرفة لجدتي"، انطباعا مربكا للقارئ العربي، قبل أن يكتشف أن الكاتب يقصد المقامات والدرجات التي تؤدي إلى الله، أو منازل القرب منه. فالرواية التي صدرت عن "دار الساقي" في بيروت، ووصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة بـ"البوكر العربية"، تستكشف تصور بعض الجماعات الدينية عن الله وعن علاقتهم به، من خلال راو يجد نفسه منخرطا في علاقات مع جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين وجماعة التبليغ والمتصوفة، إضافة إلى مدرب الكاراتيه الذي ينقل اليه تصورات كونفوشيوسية عن النور والظلام والخير والشر.

تنقسم الرواية فصلين، الأول بعنوان "منازل الله"، والثاني بعنوان "غرفة جدتي"، يسرد فيهما الراوي، الذي لا نعرف اسمه مع اتخاذه لاحقا كنية "أبي حرب"، قصة طالب ينتقل من الريف إلى مدينة تعز لدراسة الثانوية، وهناك يسكن في غرفة ملحقة بمسجد مع مؤذن يدعى "الأخ يونس"، قبل أن يتحول من "الإخوان" إلى "السلفيين" ويصبح اسمه "أبا حذيفة"، ويذهب إلى العمل في مسجد آخر: "كان الأخ يونس يعشق القرآن ويخاف منه. وكان يقول إن المتمعن فيه سيفجع نفسه"، فإما "أن تتمعن فيه وإما ترتله. إذا رتلته ضاع معناه. وإذا تمعنت فيه ضاع صوتك".

في المدرسة يتعرف الى أستاذ يلقب بـ"البحيري" يدعوه الى دروس الحديث في مسجد للسلفيين، وعلى الأستاذ نبيل، مدرس العربية المنتمي الى الإخوان الذي يدعوه هو الآخر إلى مسجد يعطي دروسا في العقيدة، فيما عامل "كافتيريا الدعوة" البعداني يأخذه معه للمبيت ثلاث ليال في مسجد لجماعة "التبليغ".

مع هؤلاء، هناك أيضا الكابتن منيف الذي يعطيه دروسا في "الوينغ شون" وهو فرع من "الكونغ فو"، حيث يتحدث عن فن التواضع وأن الجسد المتوازن أهم من العضلات فـ"توازن الجسد يفضي إلى توازن في الروح". وهناك المتصوف شمس الدين الذي يتعرف اليه بواسطة ابنه، شمس الدين الابن زميله في المدرسة، فيسمع منه أحاديث عن الحقيقة والعرفان. وإليه يذهب مع جدته، لتمكث لديهم في غرفة خاصة لمدة سبعة أيام طلبا للشفاء من مرض أصابها في عجزها، ظنوا أنه مس من الجن، ولم ينفعها المقرئون الذين حاولوا معالجتها بقراءة القرآن.

تخيلات مكبوتة

حول الجدة وأيامها في منزل شمس الدين الأب يدور الفصل الثاني من الرواية، وفيه نتعرف الى شخصية فاتنة في حكاياتها وقصصها، أثارت انتباه نساء شمس الدين وأعطت حياتهن معنى آخر، بعد أن ظنن أنهن مكلفات المشاركة في علاج السيدة الممسوسة.

هكذا نجده يفسر أي خط أو نقطة قد تضعها فتاة في دفتر يعيرها إياه كأنها إشارات للحب أو لعلاقة ما

الراوي يظل في إطار مجتمع ذكوري، لا يوجد نساء ضمن هذا المجتمع سوى جدته وأمه وتلك التي يتخيلها، ابنة أو زوجة الأستاذ نبيل، أو بنات شمس الدين. فهن غير موجودات أو غير ناشطات في مجتمع يعلو فيه صوت الرجل وحده، وأحيانا يستحوذ نشاطهم في الدعوة على كل وقتهم، مما يضطر بعض العائلات إلى تطليق بناتهم من هؤلاء، كما في حال البعداني المنتمي لجماعة التبليغ.

فالمرأة تبدو في تهويمات وتخيلات الراوي تعبيرا عن الكبت الذي يعيشه الشباب في ظل عدم وجود أي اتصال يجمعهم بالفتيات، خاصة في مرحلة ما قبل انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. هكذا نجده يفسر أي خط أو نقطة قد تضعها فتاة في دفتر يعيرها إياه كأنها إشارات للحب أو لعلاقة ما. وهو ما يتحقق عبر المراسلة مع ابنة أو زوجة الأستاذ نبيل، اللتين لا يعرف أيهما تتواصل معه.

AFP / Mohammed Huwais
نساء يمنيات يحملن عبوات مياه لملئها من صنبور عام في ظل شحّ حاد في إمدادات المياه إلى المنازل في العاصمة صنعاء، 8 أكتوبر 2015

مقامات الأذان

في جوانب من الرواية، يبدو أن الراوي ابتعد عن واقع تشدد أتباع هذه الجماعات، فيظهرهم مفتونين بالإيمان ولذة التجلي الروحي أكثر من ممارساتهم المتشددة التي عرفوا بها، فيونس والشرعبي يؤذنان على إيقاع مقامات متناغمة كمقامي نهاوند والصبا، تؤثر حتى على صحو الديوك في الفجر "أنا أخلط الصبا ونهاوند، أمزج الحزن والفرح معا. أنت توقظ الناس من سباتهم وراحتهم. امزج. امزج مقامين أو ثلاثة. شوق الناس للصلاة". كما أنهم لطفاء وبعضهم أصحاب نكتة "لو ضحك الإسلاميون سينسون ما عزموا عليه"، وهم لا يتحرجون في الحديث عما هو خاص بالجسد، وإن كان ذلك يبقى في إطار الاحتلام وممارسة العادة السرية، إذ من الضروري إغلاق نافذة الغرفة في الليل خوفا من رائحة بخور: "مرة واحدة وصلتنا رائحة بخور شاردة. في الليلة تلك بقي الأخ يونس يتقلب على فراشه مثل رجل عض ضبعا أو عضته كلبة. أنّ ولم ينبس ببنت شفة".

REUTERS/Anees Mahyoub
مشهد عام للمسجد الأشرفي التاريخي في مدينة تعز باليمن، 24 مايو 2022

هكذا، يبدو الراوي في حال علاقة مبكرة أو ناشئة مع هذه الجماعات، لذا لا يسرد سوى ما ظهر من سلوك بعض أفرادها أثناء علاقته بهم كشاب. في وقت لم يكن فيه الظاهر اجتماعيا هينا، ففي تلك الفترة المسرودة، من منتصف عقد التسعينات في القرن الماضي، شهدت موجات من تكفير الأدباء والفنانين ومحاكمتهم من خلال الاستقواء بالسلطة السياسية المتحالفة مع الإخوان المسلمين، وانتشرت نبرة التحريم لدى الخطاب الدعوي للإخوان والسلفيين، ومنها تحريم الغناء والموسيقى الحافظة لقواعد المقامات التي شغلت بال السلفيين في الرواية. وكان السلفيون ضد الإخوان والمتصوفة، كما كان الإخوان ضد السلفيين والمتصوفة، وكل جماعة تكفر الأخرى.

AFP / Mohammed Huwais
رجل يمني يقرأ القرآن في الجامع الكبير بالمدينة القديمة في العاصمة صنعاء خلال شهر رمضان، 9 مايو 2019

مزاج شعري

لذا، يلاحظ أن الكاتب أبقى المسألة في إطار الأيديولوجيا، أو القلق الفكري، دون أن يذهب إلى حال الصراع المجتمعي الذي عرفت به هذه الجماعات. وأظن أنه نجح في سرده الذي أراد له أن يبقى في هذا المستوى. حيث أعاد التساؤلات الذهنية الأولى لأي شاب، والمتعلقة بالجوانب العقدية الدينية من خلال تجربة حميمية خاضها الراوي. وذلك بلغة سردية سلسلة كتبت بمزاج شاعر، دون أن تطغى اللغة الشعرية على جوانب السرد: "قطعت المسافة بين الغرفة والمدرسة في ساعة كاملة. أو يوم. أو سنة. تأملت البيوت، عددتها بيتا بيتا. بحثت عن ابنة الأستاذ نبيل في النوافذ. تخيلتها تنحني وتوقد البخور. ربما كانت زوجته. خطر لي أنها الآن في البلكونة تنشر ملابس زوجها وتتأفف متذكرة أيام زمان. ذهبت إلى أيام زمانها ورأيتها تسرح شعرها وتنشر ملابس والدها بينما أمها واقفة إلى جوارها تتذكر أيام زمان وتنتحب. هبطت إلى أيام زمان أمها ورأيتها هناك في القرية، شابة رشيقة أحد نهديها أكبر من الآخر وهي تسأل الجدة عن السبب فتئن الجدة وتتذكر أيام زمان...".

يلاحظ أن الكاتب أبقى المسألة في إطار الأيديولوجيا، أو القلق الفكري، دون أن يذهب إلى حال الصراع المجتمعي الذي عرفت به هذه الجماعات

رواية قريبة من المكان اليمني ومن روح مجتمعه الحيوي بالأفكار والحياة، سواء تمثل ذلك بالجماعات الباحثة عن الله وكيفية التقرب إليه، أو بالجدة التي تعيش على طبيعتها وبلغتها غير المتكلفة.

font change