محمد بكري... علامة مضيئة نقلت الجرح الفلسطيني إلى شاشات العالم

جسد السردية الفلسطينية المغايرة لما يروجه الاحتلال

AFP / Andreas Solaro
AFP / Andreas Solaro
الممثل الفلسطيني محمد بكري خلال جلسة تصوير لفيلم "زهور كركوك" في مهرجان روما السينمائي الخامس، 2 نوفمبر 2010

محمد بكري... علامة مضيئة نقلت الجرح الفلسطيني إلى شاشات العالم

برحيل الممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري (1953 ـ 2025) خسرت الساحة الفنية العربية رمزا من رموزها، وواحدا من أبرز قاماتها التي طالما جعلت العمل الفني مختبرا حقيقيا لميلاد لغة تجد جمالية تفاصيلها في طبيعة الواقع الفلسطيني المعقد في ظل الاحتلال الإسرائيلي.

لم يكن صاحب "جنين... جنين" من الأسماء التي يمكن إسكاتها بالإغراءات والقمع أو السجن أو القتل، ذلك لأن طمس السردية الفلسطينية في نظر بكري، لطالما كان أخطر من أي إجراء تأخذه في حقه إسرائيل. لذلك بادر منذ بداياته، إلى توجيه نقد لاذع للاحتلال سواء عبر المنابر الإعلامية التي كان دائم الحضور فيها، أو من خلال أعماله المسرحية والسينمائية التي يضيء فيها على جوانب مختلفة من معاناة الفلسطينيين.

لذلك، فإن الراحل لم يكن من الوجوه العابرة في تاريخ الفن الفلسطيني، بل علامة مضيئة في تاريخه وذاكرته، إذ يصعب العثور على اسم فني في حجم محمد بكري، إنسانا وسيرة وحياة وتمثيلا وإخراجا، بحكم المسار الطويل الذي قطعه داخل بيئة مضطربة تعاني من أهوال إسرائيلية وجد فيها وسيلة لتقديم ما يمكن الفن أن يصبح عليه في زمن القتل، حيث غدت النصوص المسرحية والأفلام السينمائية، عبارة عن وسائل للمقاومة الثقافية والجهر بالحقائق.

الفن أفقا للمقاومة

على مر عقود، أصبح بكري الوجه الأبرز للسينما الفلسطينية والممثل الدائم لها في مهرجانات عربية ودولية، فلم تقتصر مشاركاته على الجغرافيا الفلسطينية وإنما شارك في أعمال عالمية مثل "حنة ك"(1983) لكوستا غرافاس و"من وراء القضبان"(1984) لأوري بارباش و"نهائي الكأس" لعيران ريكليس (1992) و"درب التبانات"(1997) لعلي نصار وغيرها من الأفلام التي حضر فيها ممثلا للجسد الفلسطيني الممزق داخل العالم العربي. فهذه الأفلام أعطت بكري شهرة واسعة وجعلته أكثر بروزا، مقارنة بوجوه سينمائية أخرى.

أصبح الوجه الأشهر للسينما الفلسطينية في الخارج ونسج المشاهد معه علاقة حميمة تجعله يفطن كلما شاهده بقامته المديدة وعينيه الزرقاوين، أنه في صدد عمل له علاقة بالواقع الفلسطيني

بيد أن هذه الأفلام على الرغم من معالمها المختلفة وعوالمها المتباينة من ناحية الكتابة والتخييل، فإن المثير للدهشة أن بكري يحضر دائما فيها، لا باعتباره ممثلا فلسطينيا وإنما شخصية فلسطينية داخل أحداث الفيلم. وهو ما جعله يصبح الوجه الأشهر للسينما الفلسطينية في الخارج وينسج المشاهد معه علاقة حميمة تجعله يفطن كلما شاهده بقامته المديدة وعينيه الزرقاوين، أنه في صدد عمل له علاقة بالواقع الفلسطيني. فصورة محمد بكري في أفلام أجنبية أصبحت تحيل بالنسبة الى المشاهد على مكانة القضية الفلسطينية في وجدان من تبنوا هذه القضية فكرا وعملا.

AFP / Valery Hache
طاقم فيلم "ولد من الجنة" خلال جلسة تصوير في مهرجان كان السينمائي الـ75، 21 مايو 2022

حدس ابن قرية البعنة بالجليل منذ عشريناته، أن دوره لا يقتصر على أداء أدوار فنية بعينها، لذلك لم يهتم بصناعة نجومية زائفة، بقدر ما عمل إلى جانب أدواره السينمائية والمسرحية على المشاركة في تأجيج النقاش العام داخل الفضاءات العمومية العربية بطريقة يغدو فيها صاحب مسرحية "المتشائل" (1986) مفكرا وصاحب رأي قوي يبسط الأحداث ويعلق عليها، بل ويسرد علينا أحيانا مجموعة من الوقائع التاريخية الحقيقية التي تزيد حضوره تألقا وإشعاعا لا بوصفه ممثلا فقط، وإنما صانعا للحكايات الفلسطينية المضيئة في ظلام العالم العربي.

فهذا الافتتان بمحاورة الرأي العام، جعله قريبا من المثقفين يثير معهم داخل مهرجانات سينمائية عربية أسئلة قلقة حول الصورة والهوية وفلسطين والعنف وغيرها من المفاهيم البارزة في ثنايا مشروعه الفني الذي يجعل من المقاومة أفقا له.

في أفلام من قبيل "فيروز" (2014) لشادي الهمص و"الغريب" (2021) لأمير فخر الدين و"ما بعد" (2024) لمها الحاج، و"اللي باقي منك" (2025) لشيرين دعيبس، يحضر بكري باعتباره الإنسان المنكسر في ألمه والأسير في حزنه، حيث يقدم أداء أصيلا تتعدد فيه لغة الحركة ويصبح الصمت عبارة عن بعد جمالي يعطي الفيلم بلاغة خاصة تكشف عن التعقيدات الداخلية التي يعيشها الفلسطيني العادي داخل فضاءات متعددة. ولعل هذا الأداء الخاص، هو ما جعل صاحب "موسم الزيتون" (2004) يعرف كممثل أكثر من كونه مخرجا، إذ يظل التمثيل غالبا على سيرته ومساره الفني.

واقع متحول

لا يمكن فصل سيرة محمد بكري الفنية، عن تحولات السينما الفلسطينية وتطورها، إذ أصبح حضوره مرادفا لسيرة هذه السينما التي أصبحت بين السينمات العربية الأكثر حضورا في مهرجانات عالمية. والحق أن المخرجين الفلسطينيين بذلوا جهدا كبيرا في إيصال السردية الفلسطينية إلى العالم ونزعوا اعتراف كبار المنتجين والممثلين والمخرجين العالميين بقيمة ما يكتبونه وما يخرجونه من أفلام سينمائية صادقة ومتجذرة في بيئتهم واجتماعهم.

AFP
الممثل الفلسطيني محمد بكري يحيي الجمهور خلال حفل افتتاح مهرجان دبي السينمائي الدولي في دبي، 9 ديسمبر 2009

ولذلك تبدو سيرة محمد بكري ملتصقة بالحديث عن تحولات الفيلم الفلسطيني، إذ نقل الراحل قصص الفلسطينيين وحكاياتهم إلى الشاشات العالمية، وساهم في إيصال صورة ما يقع داخل الجغرافيا الفلسطينية من تمييز وقتل وتهجير وتعذيب وانتهاكات، حتى غدا اسم هذه السينما مطابقا لصورة الفنان بكري بوصفه ممثلا أمينا للسينما الفلسطينية في العالم.

يقدم أداء أصيلا تتعدد فيه لغة الحركة ويصبح الصمت عبارة عن بعد جمالي يعطي الفيلم بلاغة خاصة تكشف عن التعقيدات الداخلية التي يعيشها الفلسطيني العادي

ورغم قلة الأعمال التي أخرجها الراحل، فإن حضوره ممثلا داخل عدد من الأفلام والمسرحيات، جعله أكثر شهرة ووجها مألوفا ومتداولا بشدة داخل التظاهرات الفنية العربية، ممثلا مذهلا ومخرجا يقظا، جعل من سيرته الفنية مختبرا حقيقيا لتكريس السردية الفلسطينية.

AFP / Ammar Abd Rabbo
المخرج محمد بكري (في الوسط) يتسلّم جائزة من الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم (يسار) ومدير مهرجان دبي السينمائي الدولي مسعود أمر الله آل علي (يمين) خلال حفل ختام مهرجان دبي السينمائي الدولي، 13 ديسمبر 2017

أما على مستوى الإبداع المسرحي، فتعد مسرحية "المتشائل" التي أخرجها مازن غطاس عن رواية إميل حبيبي الشهيرة، فتعد من الأعمال المسرحية الأيقونية في سيرة بكري، إذ تمكنت من نقل هذا النص المدهش الذي يصور التراجيديا الفلسطينية منذ نكبة 1948 وفق معالجة فنية ساخرة تضمر نوعا من التأرجح بين اليأس والأمل والقوة والضعف، لكنها في باطنها، تقدم رسائل قوية حول الرغبة في التحرر والانعتاق.

وعلى غرار فيلم "جنين... جنين"، ظلت "المتشائل" مصدر متاعب لبكري مع سلطات الاحتلال، بعدما تلقى عام 2017 خلال عرضه المسرحية في بيروت تهديدات من مسؤولين إسرائيليين وتخويفه بسحب الجنسية منه، في وقت ظل فيه بكري يقف سامقا أمام الجمهور اللبناني، مقدما أداء رفيعا حول شخصية الفلسطيني سعيد أبي النحس التي غدت الشخصية الأكثر شهرة في سيرة الروائي إميل حبيبي.

"جنين... جنين"

ترتكز سيرة بكري على ثنائية "فن ـ مقاومة" إذ يستحيل النظر إلى الراحل خارج مدارات هذه الثنائية الفكرية التي تشربها بكري، وجعل منها عنوانا آسرا لإبداعه وسيرته وحياته. فمنذ إخراج فيلمه الشهير "جنين... جنين"(2002) أصبح دائم الحضور في المحاكم الإسرائيلية على خلفية اتهامه بترويج "مغالطات" حول إسرائيل وتزوير التاريخ، في وقت شرع فيه بكري في تصوير وتوثيق مجزرة مخيم جنين وتحميل القوات الإسرائيلية مسؤولية ما وقع فيه. من ثم، عملت إسرائيل على منع عرض الفيلم وعدم تقديم ترخيص له من أجل عروضه التجارية، معتبرة أن هذا الفيلم الوثائقي يقدم وجهة نظر بصرية للجانب الفلسطيني فقط، وأنه يحتكر فعل الشهادة حول ما وقع في جنين.

AFP
محمد بكري والمنتِجة وراعية الثقافة والناشطة في مجال حقوق الإنسان كارول زاباركارول زابار

جسد صاحب "واجب" (آن ماري جاسر، 2019) السردية الفلسطينية المغايرة لما يروجه الاحتلال، وجعل الفن أداة لكشف حقيقة ما يمارسه من كذب وتضليل وقتل وتهجير وتنكيل في حق الفلسطينيين. وكان ذكيا في اختيار الوثائقي شكلا سينمائيا لتقديمه قصصه وحكاياته وشخصياته، فالوثائقي يتميز بقدرته على الكشف، حيث تكون الكاميرا تلقائية ومشرعة على متاهات الواقع اليومي، يصبح عند بكري متحررا من سلطة السيناريو (الكتابة) وأكثر انفتاحا على تصوير الواقع وتقصي الحقائق وإعادة إنتاج واقع جديد (حقيقي) يدين ما وقع في المخيم. ورغم المشاكل المادية والصعوبات الأمنية التي واجهت بكري خلال تصوير فيلمه، كان يعي جيدا أن فيلمه هذا عبارة عن صرخة سينمائية في وجه إسرائيل، تعري أعطابها وتناقضاتها وخرافاتها. وذلك أصبح "جنين... جنين" اليوم من المتون السينمائية المهمة الخاصة بالسردية السينمائية الفلسطينية.

جسّد بكري السردية الفلسطينية المغايرة لما يروجه الاحتلال، وجعل الفن أداة لكشف حقيقة ما يمارسه من كذب وتضليل وقتل وتهجير

يأتي الواقع في الفيلم، باعتباره وثيقة بصرية ترمم أعطاب اجتياح إسرائيلي قاتل، فالصورة هنا ليست للتوثيق والأرشفة وإنما للكشف وإدانة واقع تتستر عليه إسرائيل وتسعى جاهدة إلى تغييره ونسج روايات كاذبة حوله. استطاع "جنين... جنين" أن يعيد الأنظار إلى القضية الفلسطينية من خلال الفن السابع.

AFP / Patrick Baz
المنتجة مي عودة تتسلّم جائزة الإنجاز المهني نيابةً عن محمد بكري في مهرجان الجونة السينمائي، 22 أكتوبر 2021

حصل الفيلم على العديد من الجوائز، منها جائزة "التانيت الذهبي" في أيام قرطاج السينمائية عام 2003 وجائزة أفضل وثائقي في مهرجان الإسماعيلية في مصر عام 2002 ورشح لجوائز أخرى مهمة مثل "الأوسكار" و"البافتا". كما لم يفت مهرجان الجونة السينمائي عام 2021 تكريم محمد بكري واعتباره فنان السنة ومنحه جائزة في التميز والإنجاز الإبداعي عن مساره الطويل في خدمة الفن داخل فلسطين.

font change