أتت التصريحات المتزامنة لقياديين في فصيلين محسوبين على محور "المقاومة والممانعة"، غريبة ومفاجئة. الأولى كانت للأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني، نعيم قاسم. والثانية للقيادي البارز في حركة "حماس" موسى أبو مرزوق، الذي ترأس مكتبها السياسي سابقا (1992-1996)، علما أن تلك التصريحات أتت في النصف الأول من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
في تصريحاتهما أكد الطرفان تكيّف فصيليهما، من ناحية عملية، مع الواقع الجديد، الناشئ، عن حرب الإبادة الوحشية، التي شنّتها إسرائيل ضد قطاع غزة، بتداعياتها في بلدان المشرق العربي، وبخاصة في لبنان وفلسطين، على الرغم من عدم اعترافهما لشعبيهما بهذه الحقيقة، وبما ألحقته تلك الحرب المدمرة، لجهة تقويض قدرات "الحزب" والحركة، وتاليا إنهاء محور "المقاومة والممانعة"، وتحجيم نفوذ إيران في المنطقة، بما يعنيه ذلك من انفصام قيادات هذين الفصيلين عن الواقع، وازدواجية، أو تناقض، مواقفهما.
ولعل ذروة ذلك التناقض، والانفصام، تكمن في الفجوة بين التكيف العملي مع نتائج الحرب، والإنكار النظري الكامن في تجاهل، أو تناسي، قيادات "حزب الله" وحركة "حماس"، للمنطلقات التي بنيت عليها معركتا "طوفان الأقصى"، و"الإسناد"، لجهة اعتبارهما أن "إسرائيل أوهن من خيوط العنكبوت"، وأنها آيلة للانهيار، مع ادعائهما طوال سنتي الحرب بأن "إسرائيل لم تحقق أهدافها"، وأن خسائرها استراتيجية في حين خسائر "حزب الله" و"حماس" تكتيكية!
أيضا، هناك في تلك التصريحات نوع من الانقلاب على تاريخ وشعارات هذين الفصيلين، هذا ما يمكن ملاحظته في استعدادهما التزام حفظ الأمن والاستقرار في المنطقة، مع تطلب تكريسهما كقوى شرعية، على الرغم من أن ذلك يفترض القبول بوقف المقاومة، والذهاب إلى هدنة طويلة، وفقا لمصطلحات "حماس"؛ هذا أولا. وثانيا، إبداء تجاوبهما مع طلب نزع سلاحيهما في مناطق معينة، إلى حدود الليطاني بالنسبة لـ"حزب الله"، مع التمسك بالسلاح الفردي شمالي الليطاني، أي بعيدا عن إسرائيل. أما من جهة "حماس" فهذا يتعلق بقبولها نزع السلاح "الثقيل"، والاحتفاظ بالسلاح الفردي في أجزاء من قطاع غزة. ثالثا، تبريرهما تمسكهما بالسلاح الفردي، بضرورة ضمان حفظ الاستقرار في أماكن وجودهما، شمالي لبنان وغزة، بما في ذلك ضمان أمن المستوطنات، أي كنوع من ضمانة لإسرائيل بأن ذلك السلاح لن يستخدم ضدها. رابعا، في السياق ذاته، يمكن فهم مطالبة خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" سابقا (1996-2017)، للإدارة الأميركية (10/12/2025)، لأخذ حركته بعين الاعتبار كقوة شرعية والتسامح معها، كأن الولايات المتحدة بلد محايد، في تناس لطبيعة العلاقة العضوية التي تربطها بإسرائيل، ولتاريخ الموقف الأميركي المعادي لحقوق الفلسطينيين، وضمن ذلك موقف إدارة دونالد ترمب الأكثر تماهيا مع الحكومة الأكثر تطرفا في إسرائيل، منذ قيامها، رغم بعض التعارضات الطارئة والثانوية.
ما يلفت الانتباه أن "حزب الله" وحركة "حماس"، وبدلا من أن يقدما على مراجعة خياراتهما السياسية والعسكرية، التي أضرت باللبنانيين والفلسطينيين، كما أضرت بهما وبشرعيتهما وبصدقيتهما، إذا بهما يذهبان بعيدا، بما يتناقض مع تاريخهما، وبما يأتي بالضد من كل الشعارات والادعاءات التي رفعاها سابقا، والتي بنيا عليها شرعيتهما، في الساحتين اللبنانية والفلسطينية.
أكثر ما يهم "حزب الله" و"حماس" هو البقاء كسلطة، كأن المقاومة كانت مجرد عدة شغل، أو طريقة لاكتساب الشرعية، والشعبية، وليس لاستعادة الحقوق أو الدفاع عن مصالح شعبيهما
بيد أن أهم رسالة يمكن فهمها من التصريحات المذكورة، تفيد بأن أكثر ما يهم الفصيلين هو البقاء كسلطة، كأن المقاومة كانت مجرد عدة شغل، أو طريقة لاكتساب الشرعية والشعبية، وليس لاستعادة الحقوق أو الدفاع عن مصالح شعبيهما.
فوق هذا وذاك، ثمة في تصريحات الفصيلين تجرّؤ على الشعب، ونوع من اللامبالاة، في طلب الإبقاء على السلاح الفردي، شمالي الليطاني (في لبنان) وفي بعض مناطق غزة، التي باتت مدمرة، مع تأكيد قيادتهما أن لا وظيفة للمقاومة ضد إسرائيل في هذا السلاح، وفي هذه الشروط، ما يعني أن هذا السلاح هو فقط لتعزيز مكانة الفصيلين، كقوة ميليشياوية مسلحة، في الواقعين اللبناني والفلسطيني.
في الحالين تصبح السلطة/السلاح أهم من القضية والحقوق، كأنها غاية في ذاتها، ولذاتها، ويصبح الفصيلان، أي "حزب الله" و"حماس" أهم من الشعبين اللبناني والفلسطيني.
المشكلة أن قيادات الفصيلين، وهي تتكيف فعليا مع المطالب الإسرائيلية والأميركية، بنزع السلاح، ووقف المقاومة، ما زالت لا تصارح شعبها بالحقائق، علما أنه هو الذي يدفع الأثمان الباهظة، وما زالت في حالة إنكار، مع ادعائها بالانتصار، وأن إسرائيل هي التي خسرت، في حين تتصرف بعكس ذلك، عبر تكييف أحوالها في الجغرافيا والوسائل، وفي الخيارات السياسية المغايرة لكل التجربة السابقة.
الخلاصة، أن كل شيء تغيّر في قوى "المقاومة والممانعة"، من الناحية العملية، لكن إسرائيل، الاستعمارية والعنصرية والإبادية، لم تتغير، لا نظريا ولا عمليا، إذ هي التي تصر على استمرار الحرب، وتوسيع نفوذها، وفرض إملاءاتها من إيران، مرورا بسوريا وفلسطين، إلى لبنان.