تركيا... الخلاف الدستوري يُعيق "عملية السلام"

"العمال الكردستاني" يعول على الحرج الجيوسياسي الإقليمي الذي تعيشيه أنقرة

رويترز
رويترز
البرلمان التركي في أنقرة

تركيا... الخلاف الدستوري يُعيق "عملية السلام"

بعدما اتخذ حزب "العمال الكردستاني" عدة خطوات ميدانية في سياق "عملية السلام" الجارية بينه وبين الدولة التركية، مثل إعلان إنهاء الكفاح المسلح وسحب مقاتليه من مناطق المواجهات الساخنة وكامل الأراضي التركية، أعلن استنكافه عن اتخاذ أية خطوات أخرى مستقبلا، ما لم تقر الدولة مجموعة من التغييرات القانونية والدستورية الواضحة في سياق عملية السلام. في وقتٍ تواصل فيه لجنة "التضامن والأخوّة والديمقراطية" اجتماعاتها، بغية تحديد الإطار القانوني الذي سيحمي ويدفع عملية السلام بين الطرفين قُدما، عبر تحويلها إلى آلية قانونية ومؤسساتية.

حتى الآن، قدمت الأحزاب الأربعة الرئيسة في البلاد تقاريرها إلى اللجنة البرلمانية، حزبا "تحالف الجمهور" الحاكم، (حزب "العدالة والتنمية" وحزب "الحركة القومية")، وحزبا المعارضة (حزب "الشعب الجمهوري"- الأتاتوركي، وحزب "الشعوب للمساواة والديمقراطية"، المؤيد لحقوق الأكراد). لكن الخلاف الجذري بين هذه الأحزاب كان واضحا للغاية، حسبما ورد في التقارير. فبينما طالب الحزب المؤيد للأكراد بأن تكون التغييرات في إطار منح الأكراد مزيدا من الحقوق الدستورية واللغوية والسياسية والإدارية، عبر الاعتراف الدستوري بهم وتغيير بنية الدولة لتكون أكثر قبولا بالأكراد، فإن الأحزاب التركية الأخرى رفضت ذلك تماما، وإن كان حزب "الشعب الجمهوري" قد طالب بإلغاء قانون "السيطرة على البلديات المحلية" الذي يُستخدم في المناطق الكردية، وعبّر حزب "الحركة القومية" عن قبوله بإمكانية الإفراج عن زعيم حزب "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان، ضمن مادة "الحق في الأمل"، والتي تُرجح الإفراج عن المحكومين بأحكام مؤبدة بعد قضائهم لثلاثين عاما في السجن.

الدستور الحالي أُقر عام 1982، كنتيجة لانتصار الانقلاب العسكري الذي حدث قبل عامين من ذلك، وأوصل النُخبتين العسكرية والقومية إلى سُدة الحُكم، وأفرغ البلاد من أي تيارات مخالفة أو معارضة

الجوهر الدستوري

يشرح أستاذ علم الدستور أحمد خيري درويش في حديث مع "المجلة" ما يسميه "المرتكز الدستوري" في الدولة التركية الحديثة، معتبرا إياه الجوهر الحاكم والمُحدد لهوية الدولة وتاليا المؤسسات والخيال العام وحتى رؤية الفرد لنفسه ضمن الدولة، وبذا يصنف التغييرات التي يطالب بها حزب "العمال الكردستاني" وحزب "الشعوب للمساواة والديمقراطية" كأداة لإحداث تغيير جوهري في بنية كل ذلك، ولأجل ذلك ستلاقي مقاومة شديدة في أكثر من مستوى، حسب رأيه.

أ.ف.ب
أنصار عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون، يرفعون صورته بعد دعوته الحزب إلى نزع سلاحه وحل نفسه في ديار بكر، جنوب شرق تركيا، في 27 فبراير 2025

ويضيف درويش: "الدستور الحالي أُقر في عام 1982، كنتيجة لانتصار الانقلاب العسكري الذي حدث قبل عامين من ذلك، وأوصل النُخبتين العسكرية والقومية إلى سُدة الحُكم، وأفرغ البلاد من أي تيارات مخالفة أو معارضة للمنتصرين من العسكر/القوميين. حصّن هؤلاء هيمنتهم المطلقة بإطار دستوري مُحكم، غير قابل للتغيير أو التحديث إلا برغبة وقبول منهم، أي النواة الصلبة من الدولة، المؤلفة منهم. بالتقادم، ودوما بسبب هيمنتهم على الفضاء العام، في قطاعات التعليم والقضاء والجيش والإعلام، تم تشييد هالة رمزية مقدسة حول الدستور، دفعت القواعد الاجتماعية للاعتقاد بأن أي تغيير للدستور سيعني تفكيك تركيا نفسها. لأجل ذلك، نرى في تركيا أن أي حزب حينما يريد تخوين الأحزاب الأخرى، فإنه يتهمه بمحاولة تغيير الدستور".

حسب ما هو متفق عليه سياسيا، فإن تقريرا مشتركا سيصدر عما قريب من اللجنة البرلمانية، سيراعي الطروحات التي تقدمت بها الأحزاب الأربعة الرئيسة، ليكون بمثابة ورقة عمل مشتركة فيما بينها

ويتابع الدكتور أحمد خيري درويش حديثه مع "المجلة" مفككا التموضع الحالي بشأن الدستور: "منذ أوائل التسعينات، حينما تخلى حزب (العمال الكردستاني) عن تطلعاته الكبرى في تأسيس دولة قومية خاصة بالأكراد، فإن سعيه الرئيس كان يتمحور حول تغيير الدستور في تركيا، ليكون قابلا للاعتراف بالأكراد سياسيا. وهو فعليا كان يقصد ست مواد دستورية، هي المواد التعريفية الأربع الأولى، والمادتان 42 و66 من الدستور. فالمادة الأولى التي تعرف البلاد بتسميتها (تركيا) إنما تؤسس لملكيتها لعنصر عرقي في البلاد دون آخر. والمادة الثانية تعتبر (الولاء لقومية أتاتورك) أداة معيارية لصلاح الفرد وعمل المؤسسة وأجهزة الحُكم. فيما تؤسس المادة الثالثة لمجموعة من الرموز المقدسة، مثل اللغة الرسمية ونوعية النشيد الوطني والعلم، التُركية تماما. والمادة الرابعة تمنع تغيير هذه المواد بأي شكل، حتى عبر آليات التغيير الدستورية التقليدية، بل تُجرم السعي لتغييرها. أما المادة 42 فإنها تُحدد اللغة التركية كلغة أم وحيدة ومطلقة وتمنع باقي اللغات من الحضور في المجال التعليمي، خلا اللغات الأجنبية العالمية، وتعتبر (مبادئ أتاتورك) البنية كهوية رمزية ومهنية لنظام التربية والتعليم العام. أما المادة 66 فإنها تُحدد وتعرف الشخص التركي بأنه كل من يملك الجنسية التركية، وتاليا تعتبر كل المواطنين أتراكا بالضرورة، وبذا تقطع الطريق أمام إمكانية التنوع القومي. حسب ذلك، فإن سعي (العمال الكردستاني) لفرض تغييرات دستورية كشرط لإتمام عملية السلام، سيعني إعادة صياغة للدولة التركية نفسها، مؤسساتها ومواثيقها وعالمها الرمزي".

مطالبات واضحة

حسب ما هو متفق عليه سياسيا، فإن تقريرا مشتركا سيصدر عما قريب من اللجنة البرلمانية، سيراعي الطروحات التي تقدمت بها الأحزاب الأربعة الرئيسة، ليكون بمثابة ورقة عمل مشتركة فيما بينها، تتحول إلى مجموعة من التشريعات الخاصة بعملية السلام، وستكون موزعة على مستويين منفصلين: الأول يخص الآليات القانونية التي سوف يتم عبرها استقبال الآلاف من مقاتلي حزب "العمال الكردستاني" الذين سيتخلون عن الكفاح المسلح. فهم حسب القوانين التركية الراهنة "مُدانون" ضمن بنود "قانون مكافحة الإرهاب". ومقاتلو الكردستاني لن يقبلوا العودة حسب هذه الصيغة. أما المستوى الآخر فيتعلق بزيادة مستويات الانفتاح على المواطنين الأكراد، كما يقول حزب "الشعوب"، أو زيادة مستويات الديمقراطية في البلاد، كما تسميها باقي الأحزاب.

أ.ف.ب
مقهى تركي تقليدي بالقرب من جامع ديار بكر الكبير في حي سور التاريخي، بعد إعلان حزب العمال الكردستاني (PKK) حلّ نفسه في ديار بكر، في 12 مايو 2025

توضح نائبة رئيس حزب "الشعوب للمساواة والديمقراطية" التركي المؤيد لحقوق الأكراد، إبرو غوناي، في حديث مع "المجلة" رؤية حزبها لما يجري راهنا في تركيا بشأن التغييرات الدستورية، وتقول: "في كل التجارب العالمية السابقة، حينما كانت ثمة إرادة سياسية واضحة من قِبل المتصارعين، لكن أساسا من قِبل القائمين على السلطة، لتجاوز مرحلة الحروب والصدامات، وتأسيس سلام سياسي واجتماعي مستدام، تحديدا في الدول التي كانت لصراعاتها أبعاد متعلقة بالهوية والتنوع الديني والعرقي والمناطقي، في كل تلك التجارب فإن تغييرات قانونية ودستورية جوهرية كانت تُقر، وذلك لسببين: تحويل ما يُتفق عليه سياسيا بشكل آني إلى توافقات مستدامة، مصونة بروح القانون وسطوة الدستور. كذلك لإبعاد الآليات التي أدت إلى الصراع نفسه، والتي غالبا ما تكون متأتية من الدستور والقوانين العامة، التي تمايز بين نوعية من المواطنين دون آخرين، وتحصر أدوات القوة بيد جهة بذاتها، ولأجل ذلك تقوم الصراعات الداخلية".

يبدو أن حزب "العمال الكردستاني" يعول على الحرج الجيوسياسي الإقليمي الذي تعيشيه تركيا راهنا، حيث تستشعر قلقا عميقا من التغيرات الإقليمية التي قد تحدث في المستقبل المنظور

تضيف غوناي التي تلعب دورا رئيسا ضمن وفد حزبها الذي يفاوض باقي الأحزاب السياسية التركية: "لا يُمكن التفكير بسلام داخلي مستدام وذي قيمة في تركيا بينما يقبع عشرات الآلاف من أعضاء حزبنا في السجون، ولأسباب تقول عملية السلام الراهنة إنه يجب تجاوزها. الأمر نفسه ينطبق على عشرات آلاف آخرين من المنفيين خارج البلاد، للسبب نفسه، هو النضال السياسي في سبيل القضية الحقوقية والسياسية للأكراد، وقيام السلطات باتهامهم بدعم الإرهاب. مع الأمرين، فإن مستقبل آلاف المقاتلين الأكراد ليس واضحا. فكيف لدولة أن تطلب من آلاف المقاتلين وضع السلاح وتفكيك آليات الصراع المسلح بشكل سلمي، في وقت تجهز نفسها للتعامل معهم كمدانين. الأمر نفسه ينطبق على زعيم (العمال الكردستاني) عبدالله أوجلان. ومع كل ذلك، كيف يُمكن إقناع ملايين الأكراد بصواب ما يجري راهنا، دون منحهم الحقوق الأساسية المُقرة في المواثيق الدولية، مثل حقهم في التعليم بلغتهم الأم أو حقهم بالتعبير عن شخصيتهم الثقافية والقومية في مؤسسات الدولة، أو حتى عدم خضوعهم لطيف من الرمزيات المناهضة لذاكرتهم؟ نحن لا نعتبر أن التغييرات التي نطالب بها خاصة بالأكراد فحسب، بل أيضا بكل الهوية السياسية للدولة التركية، التي ما تزال تعتقل المعارضة وتضع قيودا على الصحافة وتقمع الرأي العام. فرؤيتنا خاصة بتحديث تركيا ودمقرطة مؤسساتها ووثائقها التأسيسية".

لحظة حاسمة

حسب رأي المتابعين للشأن التركي، فإن ثمة تعويلين متبادلين بين البنى العميقة في الدولة التركية، وعلى رأسها حزب "الحركة القومية" بقيادة دولت بهجلي، وبين حزب "العمال الكردستاني" من طرف آخر.

فبهجلي وجزء من النُخب السياسية المحيطة به، تعول على دور رئيس لأوجلان نفسه في هذه العملية، عبر التفاهم معه على صيغة لا تُحرج حزب "الحركة القومية" أمام القواعد القومية التركية، بشكل يدفعها لأن تصطف مع حزب "الشعب الجمهوري"، قُبالة التعهد بالاستجابة لبعض المطالب الخاصة بأوجلان ومنح بعض الصلاحيات الثقافية للبلديات مستقبلا، لكن فقط عقب إجراء الانتخابات العامة في عام 2028، أو أية انتخابات عامة مبكرة قد تجري قبل ذلك التاريخ. حسبما تُشير وسائل الإعلام المقربة من هذا الحزب وزعيمه.

قُبالتهم، يبدو أن حزب "العمال الكردستاني" يعول على الحرج الجيوسياسي الإقليمي الذي تعيشيه تركيا راهنا، حيث تستشعر قلقا عميقا من التغيرات الإقليمية التي قد تحدث في المستقبل المنظور، والتي قد تُهدد وحدة وسلامة تركيا نفسها. ومن جهة أخرى يعول الحزب على حاجة الحزبين الحاكمين إلى استمالة القواعد الاجتماعية الكردية في أية انتخابات عامة مقبلة، فبغير ذلك لن يستطيعا "هزيمة" حزب "الشعب الجمهوري". وبناء على تلك الحسابات، يعتقد "العمال الكردستاني" أنهما سيقبلان بإجراء تغييرات دستورية ما لصالح الأكراد في البلاد.

font change

مقالات ذات صلة