إيران ما بعد حرب الــ12 يوما... حرب مفروضة أو سلام مفروض

هل تمضي ايران في خيار المواجهة الطويلة مع الولايات المتحدة

إدواردو رامون
إدواردو رامون

إيران ما بعد حرب الــ12 يوما... حرب مفروضة أو سلام مفروض

في أعقاب الهجمات الأميركية على المواقع النووية الإيرانية يوم 22 يونيو/حزيران ووقف الحرب بعد 12 يوما برز سؤال ملحّ: كيف سترد طهران؟

غير أن السؤال الأهم الذي يواجه طهران اليوم يتعلق بمستقبلها الاستراتيجي: هل تمضي في خيار المواجهة الطويلة مع الولايات المتحدة، رغم ما قد يترتب عليه من توترات مع دول الجوار التي تحتضن قواعد أميركية؟ أم تختار مسارا مغايرا، وتسعى إلى اتفاق تاريخي مع واشنطن قد يُنهي حالة التصعيد ويضع حدا للحرب المشتعلة؟

من الطبيعي أن يكون هناك هامش لمسارات وسطى. فقد أثبتت التجربة السياسية لـ"الجمهورية الإسلامية" قدرتها على الجمع بين الشعارات المعادية، كالهتاف بـ"الموت لأميركا"، وبين التعاون العملي مع واشنطن عند الضرورة. وربما ينجح النظام الإيراني مجددا في تفادي مواجهة شاملة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، مستمرا في تبني خطاب مناهض للغرب بينما يداوي جراحه. إلا أن الحفاظ على هذا التوازن المزدوج بات أكثر صعوبة، خصوصا في ظل وجود دونالد ترمب، المعروف بقلة صبره، والذي يبدو مستعدا لإحياء خيار لطالما استبعده: سياسة تغيير النظام.

في السادسة والثمانين من عمره، يقف "المرشد الأعلى"، المثقل بالأزمات، على أعتاب نهاية مسيرته السياسية. والمفارقة أنه خيّب آمال الكثيرين

وقد قادت السياسات التي انتهجها "المرشد"، آية الله علي خامنئي، إيران إلى هذا الوضع الحالي. فمنذ العام الماضي، تعرضت البلاد لهجمات شنتها ثلاث دول تمتلك أسلحة نووية: باكستان في عام 2024، تليها الآن إسرائيل والولايات المتحدة. واليوم، ترزح إيران تحت وطأة الهجمات الإسرائيلية، وتواجه رئيسا أميركيا متقلب المزاج لا يُستبعد أن يرد بعنف إذا ما قررت طهران مهاجمة المصالح الأميركية. وفي ظل هذا التصعيد، بدأت دوائر من النخبة العسكرية والمالية والسياسية داخل إيران تتساءل عن جدوى الاستمرار في النهج المعادي للولايات المتحدة الذي يصر عليه خامنئي.
في السادسة والثمانين من عمره، يقف "المرشد الأعلى"، المثقل بالأزمات، على أعتاب نهاية مسيرته السياسية. والمفارقة أنه خيّب آمال الكثيرين: من التيارات التي كانت تأمل في تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، إلى أولئك الذين كانوا يطمحون إلى دور إقليمي أكثر حزما لإيران. فقد اتسم نهجه بتصلب أيديولوجي وعداء صارم تجاه الغرب، مع حذر مفرط على المستوى التكتيكي. ونتيجة لهذا التناقض، تآكل رصيده لدى مختلف التيارات داخل النظام. وقد يشكل عزله صدمة مؤسسية كبيرة، لهذا فإن كثيرين يفضلون الانتظار حتى وفاته. ومع ذلك، يُرجّح أن يتعرض للتهميش التدريجي، مع انتقال مراكز النفوذ الحقيقية إلى أطراف أخرى داخل السلطة.

خيار المواجهة


ومع ذلك، وبغض النظر عن الجهة التي تمسك بزمام القرار في طهران، فإن ملامح مستقبل إيران بعد هذه الحرب يُمكن استشرافها ضمن مسارين رئيسين.
بداية، قد تُصرّ إيران على التمسك بمواقفها وتمضي في نهجها الرافض على صعيد السياسة الخارجية، وربما تسعى إلى توسيع رقعة المواجهة مع الولايات المتحدة عبر استهداف مصالحها في المنطقة وعلى الساحة الدولية. غير أن المضي في هذا المسار سيهدد بتقويض شبكة العلاقات الإقليمية التي نجحت طهران في ترسيخها خلال السنوات الأخيرة، لا سيما مع السعودية والإمارات، وحتى مع دول مثل تركيا وقطر التي احتفظت بعلاقات وثيقة معها لفترات طويلة.

قد تلجأ الميليشيات الشيعية الموالية لطهران في العراق إلى استهداف القواعد الأميركية، لكنها تحرص على عدم الظهور بمظهر من يعيد البلاد إلى أجواء حرب شاملة، خاصة مع اقتراب الانتخابات 

وهذه الخسارة لن تكون بسيطة. فاستئناف العلاقات مع الرياض وأبوظبي أسهم في تقليص عزلة النظام الإيراني، وشكّل أحد أبرز إنجازاته الدبلوماسية في الآونة الأخيرة. وقد تجلّى ذلك في موقف السعودية، التي رغم شراكتها الوثيقة مع واشنطن، لم تتردد في إدانة الهجمات الإسرائيلية والأميركية على إيران، في تعبير واضح عن استقلالية موقفها.
كذلك كانت إيران تمضي قدما نحو إعادة العلاقات مع مصر والبحرين، بعد عقد اجتماعات متكررة على مستوى وزراء الخارجية. بل إن مشهد وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، وهو يتجول في شوارع القاهرة متحدثا بحماسة عن عشقه للمطبخ المصري، بات مشهدا مألوفا. ومن ثم، فإن خسارة هذا الود العربي نتيجة الانزلاق إلى حرب إقليمية ستكون ضربة موجعة لطهران.
وإذا اندلعت الحرب، فمن المرجح أن تجد إيران نفسها تخوضها إلى حد بعيد بمفردها. فعلى الرغم من الخطابات المتشددة والوعود التي يطلقها بعض الأيديولوجيين، فإن من غير المحتمل أن تبادر روسيا أو الصين مثلا إلى تقديم دعم مباشر لطهران. فقد سمحت موسكو، حتى في أكثر مراحل التقارب بين الدولتين، لإسرائيل باستهداف القوات الإيرانية في سوريا، ورفضت تزويد طهران بأنظمة الدفاع الجوي التي طالبت بها. أما الصين، فحتى إن دخلت في صراع عالمي مع الولايات المتحدة، فلن يكون ذلك دفاعا عن إيران، تماما كما لم تفعل ذلك من أجل أوكرانيا. وهكذا، من الناحية الاستراتيجية، ستبقى إيران معزولة، تواجه حربا من المؤكد أنها لن تلقى تأييدا داخليا واسعا.

غيتي
صور القتلى الذين سقطوا في الهجوم الاسرائيلي مرفوعة اثناء احياء "عيد الغدير" في طهران في 14 يونيو

يفتخر أنصار النظام الإيراني بقدرته على الصمود في حروب طويلة وغير متكافئة، إلا أن النظام لم يعد يتمتع بالمرونة التي ميزته في سنواته الأولى. فقد أدّت سلسلة من التحولات الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة إلى تفكك ما يُعرف بـ"محور المقاومة". وكان مركز هذا المحور ونموذجه الأبرز هو نظام بشار الأسد في سوريا، الذي انهار أمام ثورة شعبية العام الماضي. كما لعبت إسرائيل دورا محوريا في تفكيك بقية مكونات هذا المحور.
وفي العراق، قد تلجأ الميليشيات الشيعية الموالية لطهران إلى استهداف القواعد الأميركية، لكنها تحرص في الوقت نفسه على عدم الظهور بمظهر من يعيد البلاد إلى أجواء حرب شاملة، خاصة مع اقتراب الانتخابات الوطنية. أما في المشهد العربي الأوسع، فإن أغلب الدول تتجه نحو أولويات تنموية واقتصادية، وتسعى إلى جذب الاستثمارات الخليجية والأميركية، ما يجعلها غير مستعدة للانخراط في نزاع مسلح بين إيران وإسرائيل.
لذلك، تضيق المساحة السياسية أمام الميليشيات المتحالفة مع طهران في الدول العربية لخوض حرب مفتوحة ضد الولايات المتحدة. وهذا ما يفسر تريث "حزب الله" في الانخراط بالتصعيد. أما الحوثيون في اليمن، فهم يستفيدون حاليا من ترتيبات وقف إطلاق نار منفصلة مع كل من الولايات المتحدة والسعودية، مما يُبقيهم خارج دائرة المواجهة المباشرة.

على الرغم من أن الخيارات المتاحة قد لا تكون مغرية، فإن "المرشد" خامنئي قد يجد نفسه مضطرا للاختيار بين اثنين لا ثالث لهما: حرب مفروضة أو سلام مفروض

طريق بديل


في ظل هذا الواقع القاتم الذي تفرضه احتمالات التصعيد العسكري، قد يرى النظام الإيراني أن الخيار الأنسب هو الابتعاد عن منطق الحرب، وسلوك طريق بديل. فمن الممكن أن يتعامل بجدية مع المبادرة الأولية التي طرحها الرئيس ترمب، والهادفة إلى التفاوض على اتفاق دائم يشمل البرنامج النووي الإيراني وسائر الملفات التي تُثير قلق الغرب، مع ما تحمله من إمكانية الاستفادة من عرض ترمب بالانخراط في مسار اقتصادي مزدهر.
لا شك أن موافقة الولايات المتحدة على الهجمات الإسرائيلية ضد إيران، فضلا عن مشاركتها المباشرة فيها، تُثير في طهران شكوكا عميقة بشأن صدق الرئيس ترمب، وتطرح تساؤلات جدية حول جدوى استئناف المفاوضات مع رئيس لم يتردد في استهدافها خلال محادثات سابقة. ومع ذلك، فإن النظر إلى الموقف من زاوية مختلفة قد يُفضي إلى تفسير آخر لسلوك ترمب، لا باعتباره تعبيرا عن نوايا خبيثة، بل بوصفه انعكاسا لنفاد صبره.
فبعد خمس جولات من المفاوضات النووية بين عباس عراقجي وستيفن ويتكوف، مبعوث ترمب، توصّل الرئيس الأميركي إلى قناعة بأن الجانب الإيراني يتلاعب به. ومع مرور الوقت، بدأت نصائح بنيامين نتنياهو تُهيمن على قراراته. وبعد الجولة الخامسة، تباهى مؤيدو استراتيجية التفاوض الإيرانية بسياسة "الدبلوماسية الهجومية" وأعلنوا تبنيهم لموقف مبدئي قائم على "رفض" أي اتفاق تفرضه الولايات المتحدة. وهكذا، فإنه ليس من المستغرب أن يفقد ترمب أعصابه أمام ما اعتبره مناورات متعمدة.
قد يكون الخيار الأمثل أمام إيران للتوصل إلى اتفاق دائم هو الانفتاح على وسطاء جدد. فبينما أدّت سلطنة عُمان دورا محوريا ومميزا في تسهيل الحوار بين طهران وواشنطن، فإن السعودية، بما تمتلكه من نفوذ سياسي وثقل إقليمي، قد تُشكّل ضامنا أكثر فاعلية وجدّية في دفع العملية التفاوضية نحو نتائج حاسمة. إذ كانت الرياض أول محطة خارجية في جولات الرئيس ترمب. وفي ضوء ذلك، قد تُصبح الرياض منصة لقمة سلام جديدة تمهّد للقاء يجمع بين ترمب والرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان. وربما، وهو الأهم، لوضع أسس اتفاق تفاوضي يُنهي حالة المواجهة.
قبل الهجمات الأميركية، ألقى "المرشد الأعلى" علي خامنئي، خطابا شديد اللهجة، جدد فيه رفض إيران القاطع لـ"حرب مفروضة" أو "سلام مفروض". ورغم نبرة التحدي التي اتسم بها حديثه، فقد بدت ملامحه مرهقة، توحي بقائد أنهكته الأزمات لا بزعيم يستعد لقيادة بلاده نحو حرب كبيرة. وربما آن الأوان ليُقرّ الرجل المُسنّ بأن مسيرته الطويلة تقترب من محطتها الأخيرة. وعلى الرغم من أن الخيارات المتاحة قد لا تكون مغرية، فإنه قد يجد نفسه مضطرا للاختيار بين اثنين لا ثالث لهما: حرب مفروضة أو سلام مفروض.

font change

مقالات ذات صلة