ما الذي يجعل تغيير المسار في تركيا وشيكا؟

عندما يحين موعد الدفع تفعل الشيء الصحيح دائما

أ.ف.ب. / المجلة
أ.ف.ب. / المجلة

ما الذي يجعل تغيير المسار في تركيا وشيكا؟

جرت في تركيا في أيار/مايو الماضي الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي أعادت اختيار الرئيس رجب طيب أردوغان، بعد نزاع شديد، بنسبة 52,4 في المئة من الأصوات. وعلى الرغم من فوزه في الانتخابات، قام أردوغان بتغييرٍ كبير في حكومته، طال بشكل لافت وزارة الخزانة والمالية، التي عين فيها محمد شيمشك. وفسّر المحللون ذلك على نطاق واسع على أنه تغيير في السياسة الاقتصادية التركية، وقد انخفض مستوى أخطار مبادلة الائتمان الافتراضية من 700 إلى أقل من 500، مما يعني أن هذه الحركة ولّدت توقعات إيجابية حول تركيا.

ما الذي سيسرّع حدوث نقلةٍ اقتصادية كبيرةٍ في تركيا؟

تمر تركيا، الدولة الصناعية في منطقتنا، بعملية يمكن أن تسمى "الأرجنتنة"، وهو ما يشير إلى تراجع الصورة الكبيرة للاستقرار الاقتصادي الكلي. بناء عليه كان هذا التغيير أمرا لا مفر منه. ودعوني أشرح ذلك.

تركيا عملاق صناعي

أتذكر مدى دهشتي عندما بدأ مسؤول عراقي يتحدث عن تركيا قبل عقدين من الزمن باعتبارها العملاق الصناعي في المنطقة. فنحن الأتراك نميل إلى مقارنة بلدنا بالدول الأوروبية، ونادرا ما تكون لدينا فكرة عن أداء جيراننا.لكن هذا صحيح؛ فتركيا عملاق صناعي في هذه المنطقة. ومرد ذلك هو الانفتاح التركي الذي حدث في أوائل ثمانينات القرن الماضي، بقيادة الرئيس تورغوت أوزال، حيث كانت نسبة صادرات الصناعات التحويلية أقل من 10 في المئة في تلك الأيام. وقد ارتفعت في أيامنا إلى نحو 80 في المئة، يذهب أكثر من نصفها إلى أوروبا. وإذا أخذت بعين الاعتبار دول مجموعة السبع، فهي تمثل 60 في المئة من صادرات تركيا.

عندما وُلدتُ في أوائل الستينات، كانت تركيا دولةً زراعية. والآن، تحولت البلاد إلى مركزٍ ديناميكي للصناعات التحويلية. وفي أوائل الثمانينات، كانت الصناعة تتمركز حول المدن الكبرى: إسطنبول، وإزمير، وأضنة. ثم انتقلت الصناعة شرقاً، وظهرت مجموعة من المدن الثانوية: مثل قيصري وغازي عنتاب وكهرمان مرعش، ودنيزلي. وامتدت قاعدة المهارات الخاصة بالإنتاج الصناعي من المستوى الأولى إلى المستوى الثاني.

تركيا عملاق صناعي في المنطقة، ومرد ذلك هو الانفتاح التركي الذي حدث أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بقيادة الرئيس تورغوت أوزال

يتعلق أول رسمٍ بياني بمستويات الكفاءة الاقتصادية أو مجموعة المؤهلات في دول مختلفة. وكلما تحرك المؤشر على المحور الأفقي يمينا، كانت الدولة تمتلك مجموعة فرصٍ أكثر أهلية، ما يعني مؤهلاتٍ لإنتاج منتجاتٍ أكثر تعقيدا. أما التحرك للأعلى على المحور العامودي فيعني أن الدولة لديها المزيد من الإمكانات لجعل القطاعات الأخرى أكثر أهلية. فكلما زادت المؤهلات التي تمتلكها الدولة، زادت ثراءً. في عام 1962 كان موقع تركيا في الربع الأيسر السُفلي، جنبا إلى جنب مع المملكة العربية السعودية واليمن وغيرهما من الدول التي لا يتوفر لديها سوى إنتاج محدود وفرص محدودة. ونظرا لإمكاناتها المنخفضة، فهي بحاجة إلى سياسات استراتيجية.

ديانا استيفانا روبيو

إلا أن موقع تركيا على الرسم البياني تحسن بفضل إصلاحات تورغوت أوزال، والانفتاح الذي حدث في الثمانينات. وبحلول عام 2000، انتقل موقع تركيا إلى الربع الأيمن العلوي، إلى جانب معظم دول الاتحاد الأوروبي، وأصبحت الآن دولةً تتمتع بمجموعة واسعة من الفرص، وتبحث عن السياسات المناسبة للقيام بالقفزة التالية. واعتبارا من عام 2020، حافظت تركيا على موقعها في هذا المربع، مع المزيج الصحيح من السياسات لتصبح أكثر ثراءً. 

ديانا استيفانا روبيو

يُظهر تصدير منتجات الصناعة التحويلية القدرة التنافسية المتزايدة للاقتصاد التركي. هذا التحول في القدرة التنافسية العالمية لتركيا واضحةٌ للغاية في مؤشر التعقيد الاقتصادي الذي يصدره معهد ماساشوستس للتكنولوجيا أي "مراقبة التعقيد الاقتصادي". ويعتمد المؤشر على تحليل المنتجات الموجودة في سلّة الصادرات لبلد ما. فإما أن تتقارب مع مجموعة منتجات الدول الأكثر ثراءً، وإما أن تتباعد عنها.

ارتفعت قدرة الاقتصاد التركي التنافسية العالمية في الثمانينات، ومن ثم في الألفية الجديدة. تزامنت كلتا الفترتين بعد أزمات اقتصادية عميقة عانت منها تركيا. فالأزمة تُولد فرصة للإصلاح. في البداية، ظهرت أزمة النفط، ثم أدى تراكم الدين العام إلى انهيار رصيد المصارف. وانطوى كلا الأمرين على أزمات مالية للحكومة. ومع ذلك، استغلت تركيا هذه الأزمات لإحداث قفزة في قدرتها التنافسية من خلال اتخاذ مجموعة مناسبة من التدابير استجابة للمشاكل الاقتصادية العميقة. أثبتت هذه الطريقة أن اتخاذ مجموعة من الإجراءات الصحيحة يؤتي أكله.

تركيا دولةٌ تعاني من عجز هيكلي في المدخرات، وبالتالي تواجه عجزا مزمنا في الحساب الجاري يجب تمويله

ديانا استيفانا روبيو

يوضح الرسم البياني الثالث موقع تركيا من حيث إمكانات صادرات الصناعات التحويلية. وهنا تُقارن تركيا بإمكانات دول المنطقة، كروسيا في الشمال والخليج في الجنوب. ويوضح المحور الأفقي حصة صادرات الصناعات التحويلية من صادرات الدولة الإجمالية. هنا تتموضع كل من تركيا وإسرائيل وهما دولتان صناعيتان، إذ تشكل صادرات الصناعات التحويلية نحو 80 في المئة من صادراتهما الإجمالية. بينما روسيا خارج هذه المجموعة، إذ أن نحو 30 في المئة فقط من الصادرات الروسية هي من الصناعات التحويلية.

أصبحت تركيا عملاقا صناعيا اعتبارا من عام 1993. تجلى ذلك أكثر عندما دخلت تركيا في اتفاق جمركي مع الاتحاد الأوروبي بخصوص المنتجات الصناعية.

لاحظ أنَّ كلاً من المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة قد زادتا من إمكانات تصدير صناعتهما التحويلية، بينما تدهورت قاعدة روسيا الصناعية مقارنة ببقية اقتصادها. 

ديانا استيفانا روبيو

أرجنتنة الاقتصاد التركي

كما كان الحال في السبعينات والتسعينات، الاقتصاد التركي الآن في مأزق عميق؛ إذ تواجه البلاد مرة أخرى أزمة ميزان المدفوعات. قال الراحل سليمان ديميريل عام 1977 إنّ تركيا تحتاج إلى كل سنت. وها نحن نقترب بسرعة من تلك المرحلة. لماذا؟

تركيا دولةٌ تعاني من عجز هيكلي في المدخرات، وبالتالي تواجه عجزا مزمنا في الحساب الجاري ينبغي تمويله. لذلك، كانت تركيا من أوائل الدول التي طبقت إجراءات التحرير المالي أوائل الثمانينات. لماذا؟ خلال تلك الفترة، كانت تدفقات الأموال الدولية تتحول من الآليات التي تسيطر عليها الحكومة إلى الأنظمة القائمة على السوق، وكانت تركيا تحاول التكيّفَ مع مشكلة التمويل المزمنة التي تعاني منها. تمثل ذلك في بناء أسواق المال ورؤوس الأموال للسماح بتدفقات المحافظ الاستثمارية المالية المنظمة إلى الدولة. ويربط العجز في الميزان التجاري تركيا بأسواق الدولار الأميركية والغربية على نحو قوي. فكلما حدثت مشكلة في الأسواق المالية الدولية، ينعكس ذلك أزمة في ميزانية البلاد. 

مع ذلك، قد يكون من غير المناسب مقارنة تركيا مباشرة بالأرجنتين. فكما قال تولستوي في عبارته الشهيرة التي استهلّ بها روايته "آنا كارنينا": "جميع العائلات السعيدة متشابهة، ولكن كل عائلة تعيسة بطريقتها الخاصة"، فإن كل أزمة في الميزان التجاري متشابهة، ولكنها أزمات تحدث بطرقها الخاصة. في الرسوم البيانية، يمكن ملاحظة قاعدة صادرات الصناعة التحويلية في كل من الأرجنتين وتركيا. لو كان موقع الأرجنتين في الشرق الأوسط، كانت لتبدو في موضع ما أسفل موقع المملكة العربية السعودية.

فوز أردوغان في انتخابات الشهر الماضي هو الأكثر تكلفة حتى الآن، إذ تعاني تركيا في يومنا هذا مرة أخرى من مشكلة العجز المزدوج

مع ذلك، يمكن لأي تقنين كميٍ للنقد الأجنبي في تركيا أن يؤدي إلى انخفاضٍ سريع في قدرة البلاد على كسب العملة الصعبة وارتفاع معدلات البطالة، حيث سيتحتم على الشركات إغلاق المصانع (وبعضها لفترة موقتة)، لماذا؟ الأمر كله يتعلق بتدفق النقد الأجنبي إلى البلاد. يجب على تركيا استيراد المدخلات الوسيطة لإنتاج منتجات التصنيع. فواحدة من الخصائص الهيكلية للاقتصاد التركي هي ارتفاع عجز الميزان التجاري. ففي عام 2023، سيكون عجز الميزان التجاري في تركيا أكثر من 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

لماذا نحن في هذا الوضع؟ لقد أرست سياسة أردوغان الخاصة بخفض أسعار الفائدة بهدف خفض معدل التضخم الأساس. تفاقم الوضع بسبب تكلفة الزلزال، أضف إليها وعود أردوغان الانتخابية الأخيرة.
كما أنَّ فوز أردوغان في انتخابات مايو/أيار هو الأكثر تكلفة حتى الآن، إذ تعاني تركيا في يومنا هذا مرة أخرى من مشكلة العجز المزدوج. ويبدو أن عجز الميزانية قد بلغ أعلى مستوى له منذ 20 عاما، حيث وصل إلى نحو 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ووصل عجز الحساب الجاري إلى مستوى مرتفع تاريخيا، حيث بلغ 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. يفوق العجز الأخير متوسط عجز الحساب الجاري في تركيا على مدى عشر سنوات. بصرف النظر عن مقاربة الأمور، إنه وضعٌ متفجر لا محالة.

مع ذلك، تبقى بعض الأشياء على حالها؛ وعندما يحين موعد الدفع، فإن تركيا تفعل الشيء الصحيح دائما. لهذا السبب أشعر دائما بالتفاؤل بشأن هذا البلد. فلطالما عدنا أقوى مما كنا عليه مع بلوغ حافة كارثة اقتصادية. وبينما يتصف الوضع بأنه أكثر تعقيدا من السابق في الوقت الراهن، إلا أنني لا أرى أي سببٍ يجعل الأمر مختلفا هذه المرة.

font change

مقالات ذات صلة