عن ليلى الجميلة بنت يوسف العظمة

تُوفيت ليلى سنة 1971، ولم تكن ضريرة ولا مشردة في شوارع إسطنبول. كانت سيدة جميلة مثل أبيها

MAJALLA
MAJALLA
ليلى بنت يوسف العظمة، التي ولدت سنة 1915 وسمّيت على اسم جدتها ليلى الشربجي (والدة يوسف العظمة) وتوفيت في إسطنبول سنة 1971

عن ليلى الجميلة بنت يوسف العظمة

قبل ساعات من المواجهة العسكرية بين الجيش السوري الصغير والقوات الفرنسية القادمة من سهل البقاع باتجاه العاصمة دمشق، يوم 24 يوليو/تموز 1920، دخل وزير الحربية يوسف العظمة على الملك فيصل الأول في قصره المطل على العاصمة السورية من منطقة المهاجرين.

سلّم سلاما عسكريا وقال إنه متجه إلى منطقة ميسلون لواجهة الفرنسيين، وهو مدرك تماما أنه سيقتل لكنه لا يريد للتاريخ أن يذكر إن فرنسا احتلت سوريا دون مواجهة حقيقية من أهلها. وقبل المغادرة نظر العظمة إلى الملك وقال: "أنا أترك ابنتي الوحيدة أمانة لدى جلالتكم." تفاصيل هذا اللقاء – وهو الأخير بين فيصل والعظمة – نقله طبيب الملك أحمد قدري في مذكراته المنشورة بدمشق سنة 1956، حيث قال "وقد خصص فيصل مبلغ عشرين جنيها إسترلينيا شهريا لابنة الشهيد يوسف العظمة تقديرا لتضحية أبيها وكانت تصلها بانتظام."

عند هذا الحد ينتهي الكلام الموثق عن ليلى بنت يوسف العظمة، التي ولدت سنة 1915 وسمّيت على اسم جدتها ليلى الشربجي (والدة يوسف العظمة) وتوفيت في إسطنبول سنة 1971. ومن يومها بقيت سيرتها مجهولة وسارت حولها عدة إشاعات، وصل بعضها إلى مداولات المجلس النيابي السوري، وقيل إن الحكومة السورية قطعت عنها الراتب الشهري الذي وعد به فيصل، وجاء البعض ليؤكد إنها ماتت فقيرة ومريضة وضريرة في شوارع إسطنبول.

يُقال إن الحكومة السورية قطعت عنها الراتب الشهري الذي وعد به فيصل وجاء البعض ليؤكد إنها ماتت فقيرة ومريضة وضريرة في شوارع إسطنبول

كبرت هذه الرواية ككرة الثلج. واتخذها البعض كذريعة لنسف مصداقية كل حكام سوريا المعاصرين، ووصفهم بقلة الوفاء لمن ضحى بروحه في سبيل البلاد. وقال البعض ان ليلى غادرت دمشق مع أمها التركية بعد استشهاد أبيها ولم تعد إليها قط، نظرا لقلة الود الذي لمسته من السوريين، وجاء آخرون في السنوات القليلة الماضية ليقولوا إن ولائها كان – مثل ولاء أبيها - عثمانيا تركيا وليس سوريا.

وقد تخلل هذا الاتهام أن يوسف العظمة حارب الفرنسيين في ميسلون ليس دفاعا عن استقلال سورية بل نصرة للدولة التركية التي قضى في خدمتها معظم سنوات حياته، أي أنه قاتل فرنسا لكي يعود الحكم العثماني إلى سوريا. ولكي يؤكدوا على هذا الولاء العثماني، اخترع البعض رواية مزيفة تقول إن زوجة العظمة "أم ليلى" هي بنت جمال باشا، الملقب بالسفاح والمشهور بإعدامه 21 شخصا من أعيان العرب ومثقفيهم في ساحات بيروت ودمشق سنة 1916.

MAJALLA
يوسف العظمة عندما كان وزيرا في حكومة هاشم الأتاسي عام 1920

أصحاب هذه الأكاذيب نسوا، أو تناسوا، أن يوسف العظمة وصل إلى رتبة قائد فيلق في الجيش العثماني، وكان مرافقا قبلها لأنور باشا أحد قادة جمعية الاتحاد والترقي في إسطنبول، ولكنه رفض البقاء في تركيا بعد انتهاء الحرب العظمى، وعاد بقراره إلى سوريا للمشاركة في تأسيس حكومتها العربية، برئاسة الأمير فيصل الذي توج ملكا في 8 مارس/آذار 1920. عاد العظمة إلى مسقط رأسه في حي الشاغور، وعمل على تعريب الكتب العسكرية، وتأسيس القوات المسلحة قبل تعيينه وزيرا للحربية يوم 5 مايو/أيار 1920، وقد اختاره لهذا المنصب الحساس رئيس الحكومة في حينها هاشم الأتاسي، أحد حكماء عصره المشهود له بالنزاهة والوطنيّة.

في السنوات القليلة الماضية قال البعض إن ولاء ليلى العظمة كان – مثل ولاء أبيها - عثمانيا تركيا وليس سوريا

وفي كتابه عن العهد الفيصلي، يقول الدكتور علي سلطان من جامعة دمشق، نقلا عن أحد أقرباء شريف الحجار، قائد الشعبة الثالثة في الجيش السوري يومها: "يوسف العظمة وبعد ذهابه إلى بيته، صوب المسدس إلى رأسه يريد الانتحار، فدخلت ابنته ليلى الصغيرة فتوقف عن تنفيذ الانتحار."

هذه الرواية بحاجة إلى مراجعة، فمن يريد الانتحار يحيط نفسه عادة بعزلة كاملة، بعيدا عن أسرته وأولاده، ولا يفسح المجال أمام ابنته الصغيرة أن تدخل عليه وتمنعه من قتل نفسه، ولو تأخرت قليلا، لتراه ميتا والدماء تسيل من رأسه. لو أراد العظمة الانتحار، لفعلها في مكتبه في الوزارة، وليس في داره وعلى مقربة بن ابنته.

أم ليلى

وحول رواية زواج يوسف العظمة من بنت جمال باشا، يمكن نسفها بسهولة لأن الأخير، وكما هو معروف جيدا في كتب التاريخ، كان له ابنة واحدة فقط تُدعى "كمران،" ولدت في إسطنبول سنة 1908 وتوفيت عام 1974. وبذلك يكون عمرها 12 سنة فقط يوم استشهاد يوسف العظمة سنة 1920.

ومن المعروف أن "ليلى" كان عمرها خمس سنوات يوم وفاة أبيها، ومعنى ذلك أن الزوجة المزعومة "كمران جمال" أنجبت ليلى وهي في السابعة من عمرها.

أما السيدة منيرة – زوجة يوسف العظمة الحقيقية – فكانت فعلا تركية، ولها نشاط معروف في المجتمع الدمشقي، وقد بقيت مقيمة بدمشق حتى منتصف العشرينيات. وشاركت في تأسيس جمعية نور الفيحاء لتعليم البنات مع الرائدة الدمشقية نازك العابد، وفي عام 1922 وقَّعت على معروض مقدم إلى السلطات الفرنسية للمطالبة بإطلاق سراح الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد رفاق زوجها المعتقلين في السجون الفرنسية.

MAJALLA
صورة حديثة لمنزل يوسف العظمة في دمشق

بعد استشهاد أبيها، عادت ليلى إلى تركيا لإكمال دراستها. وعاشت مع عائلة أمها، ولكنّها لم تكن فقيرة أو محتاجة أبدا، كما قال بعض السوريين افتراء وظلما. آل العظمة كانوا من ذوي الأملاك، وأملاك أبيها في بساتين الشاغور كانت كفيلة بتأمين حياة كريمة لها ولوالدتها، مع راتب أبيها من الدولة السورية الذي أقر بمرسوم جمهوري في عهد الرئيس شكري القوتلي عام 1947 (المرسوم 288)، الذي خصص بموجبه ألفي ليرة سورية لليلى بنت يوسف العظمة وألفي ليرة معونة (بموجب المرسوم 982). وكل من تبوأ منصبا رفيعا من آل العظمة في سوريا ظل يسأل عن ليلى، ويلبي كل حاجاتها، ابتداء من وزير الدفاع نبيه العظمة سنة 1946، مروراً بأخيه الوزير عادل العظمة، وصولا إلى رئيس الوزراء الدكتور بشير العظمة في عهد الانفصال سنة 1962.

كل من تبوأ منصبا رفيعا من آل العظمة في سوريا ظل يسأل عن ليلى، ويلبي كل حاجاتها، ابتداء من وزير الدفاع نبيه العظمة سنة 1946، مروراً بأخيه الوزير عادل العظمة، وصولا إلى رئيس الوزراء الدكتور بشير العظمة في عهد الانفصال سنة 1962

وقد توفيت ليلى في سريرها آمنة سنة 1971، وليس في شوارع إسطنبول، ولم تكن ضريرة ولا مشردة. كانت سيدة جميلة مثل أبيها، كبرت وتعلمت في المدرسة الفرنسية، وتزوجت من تاجر تركي ثري من عائلة "أشار" كان له متجر قماش في ساحة تقسيم، وقد أنجبت منه ولدا واحدا فقط سنة 1943 اسمه جلال، الحفيد الوحيد ليوسف العظمة.

وعلى عكس ما يقال اليوم، فإنها زارت دمشق واحتفى بها السوريون وبابنها الذي زار دمشق للمرة الأولى سنة 1952 والتقطت له صورة تذكارية عند ضريح جده في ميسلون، تنفرد المجلّة بنشرها للمرة الأولى مع صور أخرى لليلى – في الذكرى 103 لاستشهاد أبيها. أما عن كل ما يقال عنها سنويا في ذكرى ميسلون، فهو لا يتعدى ثرثرة فيسبوكية، ابتدعها البعض إما للتسلية أو لنسف رموز سوريا التاريخية في وقت لم يبق للسوريين إلا ماضيهم ليتغنوا به، بعد أن انهارت بلادهم من حولهم.

font change

مقالات ذات صلة