جبرا إبراهيم جبرا: رمز الطليعيّات الحداثيّة

ترك إرثا مستمرا روائيا وناقدا ومترجما

AFP
AFP
جبرا إبراهيم جبرا

جبرا إبراهيم جبرا: رمز الطليعيّات الحداثيّة

قبل نحو ثلاثين عاما رَحَلَ جبرا إبراهيم جبرا ذو الدور الوازن في الطليعيّة الحداثيّة، ليس في الشِّعر فقط، بل في الرسم والترجمة والنقد والرواية والفكر والنقد. إنه المتعدّد الخصب، المنفتح والطليعيّ. إنّه الفلسطيني الذي وُلد في بيت لحم 1920، وهاجر إلى بغداد بعد نكبة 1948 حيث عمِل محاضرا في كليّة الآداب والعلوم، تخرّج في جامعة هارفرد وحصل على زمالة مؤسسة روكفلر في العلوم الإنسانيّة لدراسة الأدب الإنكليزي.

من أعماله الروائيّة "البحث عن وليد مسعود" (1978) و"البئر الأولى" (1988)، و"عالم بلا خرائط"، وفي الشعر "تموز في المدينة"، و"المدار المُغلق" و"لوعة الشمس". وقد جُمعت أعماله النقديّة في كتاب بعنوان "أقنعة الحقيقة".. "أقنعة الخيال".

هذه القامة الفلسطينيّة العربيّة - الذي انخرط في مناخات الثقافة والإبداع، وشارك في التيارات الحديثة، أدبا وفنّا وفكرا ورسما، کأنّما طواه النسيان، ككثير من الكبار، بل كصديقه الشاعر توفيق صايغ "رائد قصيدة النثر" الذي طواه الزمن وانتزعت منه هذه الريادة.

جبرا إبراهيم جبرا بين قلّة من الكُتّاب والشعراء والنقّاد العرب، الذي عرف كيف يؤلّف لنفسه فضاء متوازنا، ومتوازيا، ومنسجما، على امتداد أكثر من نصف قرن، يشكّل ربما، المرحلة الأخصب والأكثر التباسا، وخطورة في تاريخ الثقافة العربيّة. بمعنى آخر قلّما خرج جبرا إبراهيم جبرا على "ذاته"، أو "كسر" مع لغته، أو هدَّم ما بنت يداه وفكره.

منذ البداية أحسَّ بالحديث، المحلي والخارجي، في جلده وفي داخله، واستمرّ في البحث عن تجسدات هذا الحديث. في تعدّدية كتابية من الشِّعر إلى الرواية إلى القصة إلى النقد إلى الرسم وبالطبع إلى الترجمة.

على أن الحديث، فكرا ولغة، عند جبرا، لم يتّخذ سياقا متطرفا أو مقننا، أو حتى عشوائيا. كان الحديث عنده، على الرغم من مشاركته في مجلة "شعر"، مرتبطا دائما بتاريخ، أو بمرجعيّة، أو فلنقل بجذور ما، وهذا ما دعاه إلى عدم رفع شعارات رفعت طولا وعرضا من قبيل "تكسير اللغة" و"تخريب اللغة"، و"تفجير اللغة" و"تحطيم البنى السائدة"، و"تهديم التراث" و"اغتصاب اللغة"، و"انتهاك الواقع"... إلى آخر هذه المعزوفات التي اقتبست وانتهبت من البيانات السورياليّة والدادائيّة ومن تركة بعض الشعراء والمفكّرين الثوريين، ولعلّ عدم وقوع جبرا في ما ساد مرحلتي الخمسينات والستينات من صخب، وظواهر لفظيّة، وحيويّات كاسرة، هو الذي حال كذلك دون وقوعه في الخطاب السياسي أو الأيديولوجي الذي تميّز في تلك المراحل وحتى نهاية الثمانينات، بالمباشرة، وبلغة وظيفيّة حزبيّة أو "نضاليّة" أو تحريضيّة، أو سهلة. لهذا يمكن القول إن جبرا عاش مختلف هذه المراحل ولم ينتهِ بانتهائها كما هي حال معظم مثقفي "القضايا" و"الأفكار"... وإنما داخلها وتجاوزها، بحسٍّ واعٍ عميق، كما وبذائقة مرهفة، تعرف كيف تفصل ما هو آني (باطل) عمّا هو مرتبط بجوهر الأشياء والأمور والإبداع.

كأنه التقط جوهر الحديث. ذلك الجوهر "المطلق" الذي لا ينعطب عند أقل صدمة، أو يتحوّل عند أوّل هبوب ريح، أو يتنكر لذاته عند "تغيّر الأحوال". ومن يقرأ شعر جبرا على حداثته المغسولة، والمصفّاة، يكتشف بسهولة، هذا "الجانب المتأمّل" أو بالأحرى هذه الروح المغامرة، ولكن التي تعالج الأشياء، بدل أن تحطّمها.

منذ البداية أحسَّ جبرا بالحديث، المحلي والخارجي، في جلده وفي داخله، واستمرّ في البحث عن تجسدات هذا الحديث، في تعدّدية كتابية من الشِّعر إلى الرواية إلى القصة إلى النقد إلى الرسم وبالطبع إلى الترجمة

كأنه، إن جنَّ، أو انتفض، إنّما يهندس جنونه ويهیكل انتفاضته، ويسيطر على تفجيراته. ولعل هذا ما يُفسّر كتابة الرواية التي هي في جوهرها هندسة الزمن والتاريخ والحالات. لكن علينا ألا نخلط هنا، بين الحسّ الروائي الواعي والحادّ، وبين الحسّ الشعري المتمثّل في قصائد، حيث الوجدانيّة والعاطفيّة والتدفّق من سِمات هذا الشِّعر. وإن انصهر هذا التدفّق في بنية القصيدة، وفي إطارها. جيمس جويس أكبر مهندس للرواية "اللغوية" – التاريخيّة، عنده شعر عاطفي جدا. فهل هي مفارقة! ربّما لا! لأن جوهر اللعبة واحد. بيكيت نفسه، على الرغم من "معدنية" مناخه العبثيّ أحيانا، عنده شعر رومانسي رقيق، وبوحي… وفوكنر وهمنغواي وسواهما، عندهم شعر يقارب كتاباتهم الروائيّة، من الجوهر لا من الأداة اللغويّة المصنّفة.

 

جبرا الروائي

وإذا أردنا أن نتوغّل في بعض روايات جبرا كـ"البحث عن وليد مسعود" و"عالم بلا خرائط" (مع عبد الرحمن منيف) أو "يوميّات سراب عفان"، نجد هذا الحسّ العميق بالتأمّل. والتأمّل هنا ليس "الجمود الميتافيزيقي"، أو السكون الفكري، أو الخمول العقلي، أو القبول، وإنّما ذلك القلق العميق، والأسئلة التي تطرح وتقترح كل مساحة متّسعة وشاملة. من هنا، فإن الوجه الآخر للتأمّل عند جبرا هو التأمّل في اللغة، وفي البنى الشعريّة والروائيّة السائدة. والتأصّل في اللغة الروائيّة مثلا يعني محاولة تجاوز، يعني محاولة بناء وسيلة جديدة للتعبير. وهذا ما لمسناه في "البحث عن وليد مسعود" حيث جمع بين الهيكل التاريخي للرواية والحركة المتجدّدة، والمتوغّلة في خرائط سياقيّة، ودلالات مختلفة.

بهذا المعنى نجد توازيا بين شعر جبرا وأعماله الروائية، وحتى القصصية، مقاربة الجديد أيّا كانت جدّته ضمن بنيته، أي ضمن إيقاعه المتوازن.

ولعل ذلك ما ساعده على لغته النقدية والبحثية. فتنظيم العالم داخل الرواية، وتنظيم الحالات داخل القصيدة، لا بدّ أن يؤدّيا إلى تنظيم "العقل" النقدي، وإلى صفائه وإلى ارتكازه (كما هي الحال في الشعر وفي الرواية) على أرضية صلبة، لا على موجات، أو مناهج نقديّة متعسّفة، أو متعصّبة، وكما أنه قدّم شعريته، وروائيّته في إطار مفتوح، وفي فضاء شاسع، هكذا تقدّم من النصوص الشعرية والروائية والفنّية، بحنان، وشفافيّة، هكذا قارب في دراساته ومقالاته الأعمال الإبداعية، فكأنما النقد عنده كان لقاء حرّية بين تهيّؤات الناقد ومعطيات النص. أي بين ذائقة الناقد ومتطلبات النص. فهو إن نبش النص، فلا لكي يقتل الكاتب، من خلال تسييد مدرسة نقديّة نسبية على حالة مطلقة، أو من خلال تسييد اتجاه مطلق على حالة نسبية. لذا فجبرا قلّما ارتهن إلى مدرسة أيديولوجيّة في النقد، على كثرتها في تلك المراحل: الواقعيّة الاشتراكيّة، الماركسيّة، الواقعيّة الطبيعيّة، الوجوديّة، ومن ثم البنيويّة، والألسنيّة... إلخ. فكأنه كان يقول إن النَّص أكبر من أن تستوعبه مدرسة، أو يقنّنه تقصير أحادي هو أصلا عابر. وهكذا كان. عبرت المدارس النقديّة الأيديولوجيّة والنفسيّة والتحليل نفسيّة والماديّة، وبقيت النصوص، وبقيَ الإبداع وهذا سرّ بقاء جبرا واقفا بين حطام هذه النظريات التي تأتي من خارج النَّص، ومن خارج التجربة.

جبرا انتصر على المراحل، لأنه كان من داخلها يتأملها ويصوغ إرهاصاتها، كي لا ينأسر بها، وعلى هذا الأساس قلنا إنه لم يقع في فخاخ "المدارس"، النقديّة الجاهزة لأنها تلغي وجوده


حتى عندما اختار الأعمال ليترجمها، برز هذا الانسجام العميق في ترجمة أكثر مسرحيات شكسبير التباسا، كـ"هاملت" و"الملك لير" و"عطيل"، و"مكبث"، والعاصفة"، و"كوريولانس"، وأكثرها اندفاعا إلى العواطف والنزعات والغرائز القويّة، العاصفة، المتأجّجة، لكن أكثرها أيضا بناء، وفنيّة ودراميّة، وعمقا.

 

انتصار الشاعر

إنّها لعبة الانسجام، أي لعبة انتصار الشاعر والكاتب على الحالة. وليس العكس كما حصل مع السورياليّين مثلا حيث الحالات اللاواعية والباطنيّة تحوّل الشاعر إلى مجرّد كائن سلبي، يتقبّل بلا حول ولا قوّة "ما يطلع من تحت" كما تقبّل الرومنطيقيون ما "يهبط من فوق". اللعبة واحدة وتؤدّي إلى الغاء الكاتب أو الشاعر كصانع لغة، وصانع أشكال، وصائغ بنى.

جبرا ابراهیم جبرا انحاز إلى الهاجس الثاني، لكن من دون أن يفضي، "تأمّله" و"حضوره" إلى تجفيف الحالة، وإيباسها، وإفراغها من مادّيتها.

على هذا الأساس، نعود ونقول إن جبرا إبراهيم جبرا انتصر على المراحل، لأنه كان من داخلها يتأملها ويصوغ إرهاصاتها، كي لا ينأسر بها، وعلى هذا الأساس قلنا إن جبرا لم يقع في فخاخ "المدارس"، النقديّة (السهلة. الموجودة في الكتب أصلا) الجاهزة، لأنها تلغي وجوده. وهذا ينطبق على علاقاته السياسيّة والفكريّة، التي أقامها على مبدأ الحرية، لا التبعيّة. أو الذوبان في القرار أو حتى في "الحالات" والموجات… كانت دائما مسافة ما بينه وبين المعطيات. كان له هامشه الخاص، الذي لا يعمّمه، ولا يتعمّم به، ولا يسقط في تعاميمه. أي لا يؤدلجه. ولا يمنهجه، ولا يخضع لا لأيديولوجيّته ولا لمنهجه. كأنه انتصار لحضور الكاتب – الناقد – الشاعر، في زمن ذاب فيه المبدع العربي في الحالات السائدة (قضايا كبيرة، أو صغيرة، أفكار معمّمة) التي جعلته ببّغاء الواقع أو في أفضل الأحوال زجّالا شعريّا يطبّل في "الأعراس" الوطنيّة والقوميّة، وفي المناسبات التاريخيّة، وفي المهرجانات… والقضايا.

font change

مقالات ذات صلة