"باربي"... حمّى الموجة الوردية في الرياض

"المجلة" ترصد النقاش الشعبي والنقدي حول الفيلم

سينما فوكس في "بارك مول" في الرياض

"باربي"... حمّى الموجة الوردية في الرياض

الرياض: حين يمرّ الزائر قبالة مبنى "مول الرياض بارك" الفخم (شمال العاصمة) بعد التاسعة ليلا هذه الأيام، لن يفاجأ بطابور السيارات الذي يصطفّ أمامه، لا سيما إذا كان يدرك وصول حمّى الموجة الوردية إلى السعودية، حيث ينتظر الجمهور الدخول إلى صالات سينما "فوكس" في مبنى المركز التجاري لمشاهدة فيلم "باربي" من بطولة مارغو روبي ورايان غوزلينغ. تقدّم سينما "فوكس"، إلى جانب صالات عرض أخرى، أكثر من عرض في الليلة، بعدما أصبح الفيلم على رأس قائمة الترند العالمي، إثر عروضه الأولى في صالات السينما العالمية.

شغف القادمين لمشاهدة عروض الفيلم داخل مبنى المركز التجاري الذي تصطفّ بين ردهاته مقاهٍ ومعارض محال تجارية عالمية، لا يوازيه ربما إلا الجدال خارج المملكة حول منع الفيلم. وإذ لا يبدو حافز التفاعل مع حدث فني بارز أكثر جاذبيةً سوى عبر ردود فعل سجالية حادّة ومتناقضة لاتجاهات الرأي حول الحدث كمركز للجدال في وسائط الإعلام وسجالات وسائل التواصل الإعلامي، فإن ذلك المؤشر وإن بدا في ظاهره سببا فضوليا للتفاعل، يظلّ عنصر جذب لخيارات قد تضع البعض أمام طرق جديدة لاكتشاف المتعة والمعرفة، أو لاكتشاف المتعة من خلال المعرفة.

"بعدما حضرت فيلم باربي، حمدت الله على وعي الجهات المسؤولة في السعودية والسماح بعرضه، لأنه ممل جدا، ونعست بنص الفيلم"، هكذا علقت صحافية سعودية في حسابها على منصة "إكس" (تويتر سابقا)، في حين عرض حساب آخر عبر المنصة نفسها، مقطعا مصورا تظهر فيه فتيات سعوديات في طريقهن إلى مشاهدة الفيلم بعباءات وردية اللون، وغيرها من مظاهر احتفالية، نرى في أحدها، فتاة تلوح بالتحية من داخل سيارتها، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة. وهي في طريقها إلى السينما.

ما وفرته وزارة الثقافة لخدمة القطاع السينمائي كشف عن احتفاء حقيقي بهذا الفن تأثيرا وتأثرا، لذلك ربما سنجد سؤال المنع والحظر للأفلام فائضا على حاجة المجتمع السعودي المتفاعل بانتظامه المدني مع مستجدات إبداعات السينما العالمية

ربما عكس هذان التعبيران من مظاهر استقبال فيلم "باربي" في السعودية أكثر من رسالة، مع إشارة ضمنية إلى الجدال الذي صاحب عرض الفيلم في بعض البلدان العربية. بل نجد في تعليق الصحافية السعودية ما يشبه امتنانا للجهات المختصّة للسماح بعرض الفيلم، بوصفه فيلما، أولا وأخيرا، ولا يستدعي ذلك الجدال متى ما عرفنا الذرائع النسبية والتأويلية التي تذرّعت بها جهات أخرى لمنع الفيلم في أكثر من بلد عربي.

ففي السعودية اليوم، ربما كان يصعب تصوّر وقائع المجال العام بمعزل عن تفاعل السعوديين مع موجة التحديث وأشكال الترفيه والإبداع التي تأتي في مقدّمها صناعة السينما كفن أصبح يجد مكانته اللائقة. ذلك أن في ما وفّرته وزارة الثقافة لخدمة القطاع السينمائي كشفا عن احتفاء حقيقي بهذا الفن تأثيرا وتأثرا، لذلك ربما سنجد سؤال المنع والحظر للأفلام فائضا على حاجة المجتمع السعودي المتفاعل بانتظامه المدني مع مستجدات إبداعات السينما العالمية.

REUTERS
سينما فوكس في الرياض

هكذا، فيما لم يمض على عرض فيلم "باربي" للمخرجة غريتا غيرويغ 3 أسابيع من عرضه في الولايات المتحدة يوم 21 يوليو/تموز الماضي، حتى كان موعد عرضه في دور السينما السعودية في العاشر من أغسطس/آب الجاري. من يشاهد الفيلم في المملكة ربما يتعجّب من تهويلٍ صاحَبَ الضجة حول عرض الفيلم من عدمه في بلدان عربية عرفت بانفتاحها، كلبنان والكويت.

 

المقارنات التي يدرجها البعض كمفارقة ما بين أحوال الأمس واليوم لمناسبة عرض السعودية الفيلم ومنعه في لبنان، ليست سوى مقارنات لا تنتبه إلى أن ثمة مياها كثيرة جرت تحت جسر الأزمنة

خالد ربيع

إثارة الترقّب

الناقد السينمائي طارق الخواجي يرى أن "الحجب والمنع وتأخير العرض، كلها أمور زادت في إثارة الترقّب، ودفعت البعض إلى الحرص بصورة إضافية على حضور هذا الفيلم المثير للجدل، لكنها تجربة ذات تيار واحد، حماسة تصطدم مباشرة في فيلم بسيط في اعتماده على الشكل السائل اليوم في النظر إلى العالم، إنه فيلم ذو بعد واحد، مما يجعلني أدرك السبب وراء السماح بعرضه على الرغم من السمعة التي سبقته ورأى فيه بعضهم خطرا على الوعي الباطن لجيل الشباب الذي يشكّل أغلبية ساحقة في المجتمعات العربية".

خالد ربيع

أما الناقد الفني خالد ربيع فيقلّل من جدوى المنع: "ستبدو سياسة المنع في واقع التحوّل الذي تشهده المملكة العربية السعودية، أمرا غير ذي بال، فانخراط شرائح من المجتمع السعودي في استخدام وسائط الترفيه العالمية ومنصاتها مثل 'نتفليكس' وغيرها لمتابعة أفلام الترند العالمية بتفاعل ربما تتجاوز وتيرته حتى متابعة نظرائهم في بلدان عربية أخرى، أصبح واقعا من الصعب تخطيه، فضلا عن أن تلك المقارنات التي يدرجها البعض كمفارقة ما بين أحوال الأمس واليوم لمناسبة عرض المملكة العربية السعودية للفيلم ومنعه في لبنان، ليست في تقديري سوى مقارنات لا تنتبه إلى أن ثمة مياها كثيرة جرت تحت جسر الأزمنة، فما نشهده في المملكة هو نماء مزدهر في كافة أوجه الحياة".

قرار هيئة المرئي والمسموع السعودية السماح بعرض الفيلم والمراهنة على وعي الشعب والتصرف بمسؤولية، أمر يحسب لها فعلا

أحمد العياد

أما الناقد أحمد العياد فيقول: "بداية يجب أن نشيد بهيئة المرئي والمسموع في السعودية لأنه على الرغم من ضغوط بعض من لم يشاهد الفيلم لمنع عرض الفيلم والسير خلف بعض الآراء التي شاهدناها في بعض الدول من منعه، إلا أن قرارها السماح بعرض الفيلم والمراهنة على وعي الشعب والتصرف بمسؤولية أمر يحسب لها فعلا ويستحق الشكر، ولأنه أمر لا يخلو من دلالة تكترث لمعنى وأهمية تجنب سياسة المنع العشوائي المزاجي".

أحمد العياد

ويضيف العياد: "يمكننا أن نتفهّم ملاحظات بعض المشاهدين، لكن يجب أن يعي المشاهد أنَّ السينما تختلف كليّا عمّا يُعرض في التلفزيون، وأن الوصاية الأبوية على شاشات التلفزيون تختلف عنها في السينما، بخاصة مع وجود التصنيفات العمرية حتى سن الثامنة عشرة التي تضمن حماية القاصرين. لقد انتهى في تقديري ذلك الزمن وأصبحنا أمام زمن مفتوح على كل شيء، في ظلّ وجود المنصات الرقمية، الأمر الذي يصبح معه ذلك المنع نوعا من العبث".

 

المشترك الإنساني

وعن طبيعة الفيلم وهويته التي جعلته في صدارة الأفلام العالمية لهذه السنة، يقول خالد ربيع: "وراء فيلم 'باربي' المفعم بحسّه الكوميدي والرومانسي، أسئلة تمسّ المشترك الإنساني لحياة البشر في الهوية والمعنى والمصير والعبور، هو فسحة للتأمل تنطلق من تحويل حياة دمية في اتجاه حياة حقيقية للبشر، تكفّ فيها عن كونها دمية، فالفيلم (الذي انتقل فيه تمثيل الدمى، لمرة أولى، من إطار الرسوم المتحرّكة إلى حيز تقوم بدور التمثيل فيه شخصيات من لحم ودم) مرّر رسائل مختلفة الوجهة والمكان، لكن في رسائله تلك ربما لم يعكس اتجاها نسويا بالمعنى المتعارف عليه لمفهوم النسوية، وإنما بدت الفنتازيا فيه متضمنة لحمولات إنسانية مشتركة، كاكتشاف الذات، والتغيير، والتحول، وبالجملة معنى النقص في الحياة الإنسانية".

طارق الخواجي

فيما يرى الناقد طارق الخواجي أن نجاح الفيلم "تقف وراءه حملة إعلانية ضخمة، تعكس الاتساع الهائل الذي تستطيعه آلة الدعاية والإعلان في عالم الإنترنت اليوم، لفيلم حمل منذ إعداده الأول فكرة مركزية أساسية في تركيزه على نقد المجتمع الأبوي واستثماره منجزات الحركة النسوية في الغرب وما يتبعها، لكن الفيلم في نهجه الابتدائي لا يختلف عن كثير من الأفلام ذات الضجيج الكبير في شباك التذاكر اليوم، وهو الاتكاء على قاعدة جماهيرية واسعة وبالتحديد في طبقة صغار السن والمراهقين، وهو ما نشاهده في سلاسل 'مارفل' و'دي سي'، والأفلام والمسلسلات المقتبسة من أعمال 'أنيمي' الشهيرة، أو السلاسل المعتمدة على أفلام نجحت وذاع صيتها في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، من 'بلايد رانر' إلى عائلة آدامز".

ذلك اللون الوردي في تفاصيل ديكور الفيلم والملابس والخلفيات، هو ما أكد فكرة أن الفيلم مصمم لجمهور الصغار الذي لن ينتبه إلا إلى تلك التفاصيل الجميلة دون أي اهتمام حقيقي بفكرة الفيلم

طارق الخواجي

من جانبه يلاحظ خالد ربيع أن الفيلم "تميّز بلمسة إنسانية، إذ يمكننا القول إنه ليس هناك من عائق حقيقي يمنع تمرير رسالة الفيلم في المجتمعات المختلفة، لأن في جانب أصيل من الفيلم، ثمة ما يتقاطع مع حيواتنا، ورسالته تعكس الطبيعة المزدوجة للتناقض الذي وسم حياة البشر الناقصة. إنه بصورة من الصور يذكرنا بجدال المثال والواقع في تعبيرات الحياة، لكن من دون أي تعقيدات فلسفية، فاللغة البسيطة والأثر الملموس للمعاني يفهمه المشاهد من مجمل البنية المشهدية والنصية للفيلم". 

 

صناعة التأثير

في إشارة إلى ركيزة الفيلم لصناعة التأثير الشعبي الذي حصد به منذ عروضه الأولى سقفا تجاوز مليار دولار خلال 3 أسابيع، يقول طارق الخواجي: "فيلم باربي يحمل في طياته قنبلته الموقوتة، وهو التماسه النجاح في عناصر ثقافة البوب الشعبية التي تقوم على بروز الأيقونات لا على بروز الوسيط الذي تتشكل عبره، وهو في هذه الحال فيلم سينمائي، سيذوي سريعا بعد مغادرته شباك التذاكر، وهو رهان أدرك نجاحه بالاعتماد على النماذج التي سبقته ولم تعد تذكر إلا في التصنيفات العامة لأفلام العام، أو ضمن سردية طاقم العمل في التعريف بهم". ويستطرد الخواجي في تبيان الثيمة الأساسية لـ"باربي" بكونه فيلما "له وضعيته الخاصة بالنظر إلى الجدال الذي دار حول فكرته الأساسية وهي سقوط المجتمع الأبوي – الذكوري في السردية العامة- والانتصار للمرأة أو بالأصح الانتصار للسردية النسوية المعاصرة وفي حالتها المتطرفة في أوروبا وأميركا، لكن الفيلم يعتمد على مسألتين رئيستين في هاتين السرديتين، الأولى قائمة على التكرار، وهو ما جعل الفيلم متخما بعد رسالتين أو ثلاث تحاول تأكيد السردية، لينحدر بسهولة نحو السطحية والفجاجة، بينما تقوم الفكرة الثانية على التصميم المطلق لشخصية الرجل والمرأة في الفيلم بين لونين لا ثالث لهما، أبيض وأسود، طيب وشرير. التساؤل الوحيد الذي خامرني وقت مغادرة قاعة السينما هو عمّا شعر به بعض الأولاد حيال أنفسهم، وهم يمدّون ألسنتهم في فجاجة لأخواتهم اللائي يرتدين اللون الوردي في رسالة تضامنية مع الفيلم الذي تربطهن به دمية عشقنها في صغرهن، لم تكن تعرف شيئا عن صراعات العالم الحديث وسياقاته الثقافية والاجتماعية. لكن ذلك اللون الوردي في تفاصيل ديكور الفيلم والملابس والخلفيات، هو ما أكد فكرة أن الفيلم مصمم لجمهور الصغار الذي لن ينتبه إلا إلى تلك التفاصيل الجميلة دون أي اهتمام حقيقي بفكرة الفيلم".

  

font change

مقالات ذات صلة