إيران تُهدد "أكرادها" في العراق... لكنهم يُحذرونها من خيارات "القِط المُحاصر"

أكراد إيران في الشمال العراقي هدف دائم لطهران

AFP
AFP
مقاتلات من البيشمركة الكردية التابعة لحزب الحرية الكردستاني الانفصالي الإيراني، في قاعدة عسكرية بالقرب من أربيل.

إيران تُهدد "أكرادها" في العراق... لكنهم يُحذرونها من خيارات "القِط المُحاصر"

شكلت التحذيرات والتهديدات العلنية المباشرة، التي أطلقتها وزارة الخارجية الإيرانية ضد "المسلحين الأكراد الإيرانيين"، المقيمين في عدة مخيمات ومعسكرات في مناطق مختلفة من إقليم كردستان العراق، شكلت مؤشرا إلى إمكانية تصاعد الموقف الأمني/ العسكري على طرفي الحدود بين البلدين، وظهور بؤرة صراع عسكري مفتوحة في تلك المنطقة، المركبة سياسيا وديموغرافيا وجغرافيا وعرقيا وطائفيا.

المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، حدد في المؤتمر الصحافي الأسبوعي يوم 19 سبتمبر/أيلول المقبل كـ"موعد نهائي غير قابل للتمديد"، لتنفذ الحكومة المركزية العراقية كل التعهدات المُتضمنة في الاتفاقية الأمنية الموقعة بين إيران والعراق في شهر مارس/آذار الماضي؛ فالطرف الإيراني كان قد منح الحكومة العراقية وقتئذ مهلة "ستة أشهر"، حتى تتمكن من نزع سلاح "الأحزاب الكردية الإيرانية" المقيمة على أراضيها، وإبعاد معسكراتهم عن المناطق الحدودية مع إيران، ومنعهم من التدخل في الشؤون السياسية والأمنية الداخلية لإيران. وإلا فإن السلطات الإيرانية ستقوم بمسؤولياتها في إطار الحفاظ على أمن الأمة"، كما قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، والذي يعني عمليا شن هجمات جوية وضربات صاروخية على مخيمات ومعسكرات الأحزاب الكردية العراقية، إما عبر الطائرات المُسيرة وإما عبر الصواريخ الدقيقة الموجهة بالليزر، كما فعلت أكثر من مرة خلال الشهور والسنوات الماضية.

المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، حدد يوم 19 سبتمبر/أيلول المقبل كـ"موعد نهائي غير قابل للتمديد"، لتنفذ الحكومة المركزية العراقية كل التعهدات المُتضمنة في الاتفاقية الأمنية الموقعة بين إيران والعراق

المتحدث باسم الحكومة العراقية، باسم العوادي، أكد في منشور على صفحته الرسمية في وسائل التواصل الاجتماعي التزام وتنفيذ حكومته بما تعهدت به في الاتفاقية الأمنية الثنائية مع إيران، مؤكدا "نزع السلاح وإزالة المعسكرات على الحدود مع إيران"، مضيفا في نفس المنشور: "أهم مبادئ السياسة الخارجية بالنسبة لنا ألا يكون العراق طرفا في الإضرار بجيرانه، والسيادة العراقية تقتضي تفاهمات أمنية لحماية حدود العراق من أي اعتداء".

وقد اتصلت "المجلة" بعدد من القوى والشخصيات السياسية الكردية الإيرانية القاطنة في إقليم كردستان، للاستفسار عن الإجراءات العملية التي اتخذتها السلطات العراقية "ضدهم"! لكنهم أجمعوا على نفي خضوعهم لأي إجراء من ذلك القبيل، مؤكدين في الوقت نفسه عدم الحاجة لأية إجراءات في ذلك الاتجاه؛ فالأسلحة التي بحوزتهم "خفيفة وشخصية فحسب، وتتقصد حماية أمن المخيمات وسكانها فقط"، وأن لا يثيروا أية قلاقل داخل إيران، فهم ملتزمون أدبيا وسياسيا بما يحفظ أمن واستقرار إقليم كردستان، ويمنع صِدامه مع الدول الخارجية بسببهم. وهذه تعهدات أدبية وسياسية ألزمت هذه الأحزاب نفسها بها تجاه الإقليم.

القوى الكردية أكدت لـ"المجلة" التزامها بالمواثيق والأعراف والقوانين الدولية، بكل الالتزامات والتفاصيل التي من المفترض أن تلتزم بها "الدولة المستضيفة للاجئين السياسيين"، وعلى رأسها تأمين الحماية القانونية والأمان العام والحد الأدنى من حاجات ومستلزمات العيش. مقابل ذلك، فإن هذه الأحزاب الكردية الإيرانية ملتزمة بكل الضوابط التي تمنع تحولهم إلى سبب لصِدام الدولة المستضيفة مع أي من جيرانها.

وليس من إحصاءات رسمية بشأن تعداد المقيمين المدنيين الأكراد الإيرانيين في إقليم كردستان، لكن بعض المؤشرات تقول إن أعدادهم تزيد على 100 ألف نسمة، من بينهم عدد قليل من المسلحين بأنواع من العتاد الخفيف والمتوسط، يُستخدم أغلبه في سبيل حماية أمن تلك المخيمات.

AFP
عضو في البيشمركة الكردية الإيرانية في الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني يتفقد الأضرار التي لحقت بمقر الحزب عقب هجوم إيراني في بلدة كويسنجق شرق قضاء أربيل، في 26 نوفمبر2022

سياسيا، ثمة ثلاثة تيارات سياسية رئيسة كردية إيرانية: التيار القومي الكردي "التقليدي"، الذي يمثله الحزب الديمقراطي الكردستاني- إيران، ويعود بأصوله الفكرية والعقائدية المحافظة إلى نُخب وقادة ومؤسسي "جمهورية كردستان"، التي تأسست في مدينة مهاباد غربي إيران عام 1946. وإلى جانبه التيار القومي/ اليساري التحديثي، ويمثله "حزب كوملى" الكردي، وهو تنظيم يمزج بين الأفكار اليسارية/ الشيوعية والنزعات القومية. ومعهما التيار اليساري العابر للحدود، ويمثله حزب "بيجاك"، المقرب من حزب العمال الكردستاني "التركي".

وممنوع على الأحزاب الكردية أي شكل من الحضور ضمن المجتمع الكردي الإيراني، ويواجه المُعتقلون داخل إيران، من أعضاء هذه الأحزاب، تهمة "نشر الفساد في الأرض"، وغالبا تكون عقوبتهم الإعدام.

القوى الكردية أكدت لـ"المجلة" التزامها بالمواثيق والأعراف والقوانين الدولية، بكل الالتزامات والتفاصيل التي من المفترض أن تلتزم بها "الدولة المستضيفة للاجئين السياسيين"، وعلى رأسها تأمين الحماية القانونية والأمان العام والحد الأدنى من حاجات ومستلزمات العيش

في حديث مع "المجلة"، أكد خليل نادري، المتحدث الرسمي باسم حزب "الحرية الكردستاني (الإيراني)"، رفض حزبه، ومعه مختلف الأحزاب الكردية الإيرانية، مجموع ما يعرض عليهم عمليا من قِبل عدة جهات وقنوات سياسية، بغية "سحب فتيل الأزمة" مع السلطات الإيرانية، والتي يُمكن تصنيفها إلى ثلاث مقترحات:

القوى السياسية الكردية ترفض تفكيك معسكراتها الحالية، المتوزعة على أكثر من عشر نقاط ومناطق من إقليم كردستان، ونقلها إلى المناطق الغربية من العراق، تحديدا محافظة الأنبار. فذلك الأمر لو حدث، سيكون بمثابة "إبادة سياسية وبشرية"، حسب نادري، لأنه فعليا سيضع الأحزاب الكردية الإيرانية وقيادتها تحت "رحمة" الحشد الشعبي، صاحب السلطة واليد العليا في مختلف مناطق العراق، خلا إقليم كردستان، والحشد مرتبط عضويا بإيران، تحديدا بأجهزته الأمنية والاستخباراتية.

كذلك لأن ذلك النقل سيعني عزل عشرات الآلاف من الأكراد الإيرانيين عن مجالهم الحيوي، الثقافي والإنساني والاقتصادي، سيقتلعهم من بين نظرائهم الأكراد العراقيين. خصوصا وأن غالبيتهم تقيم في هذه البيئات الاجتماعية والاقتصادية الحالية منذ قرابة أربعين عاما، ولم يعرفوا "وطنا" غير مكان العيش الراهن. واستبعادهم هو بمثابة نفي قسري ثان، ونوع من "الإبادة الثقافية والاجتماعية".

يرفض المتحدث الرسمي باسم "حزب الحرية الكردستاني" (الإيراني) كذلك ما يسميه بـ"الحل الألباني"، في إشارة إلى ما تم الاتفاق عليه بين إيران والحكومة العراقية بشأن تنظيم "مجاهدي خلق" الإيراني المعارض قبل عدة سنوات.

وهذا التنظيم السياسي/ العسكري الإيراني المعارض، كان أعضاؤه وقياديوه يقيمون في عدد من المعسكرات ضمن العراق. لكن، وبعد عام 2003، مارست إيران مجموعة من الضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية على الحكومة المركزية العراقية، لدفعها نحو تفكيك معسكرات مجاهدي خلق؛ حيث- وبعد سنوات من التفاوض على مستوى العالم- تمكنت الحكومة العراقية في عام 2013 من إجلاء آلاف المقيمين الإيرانيين، من أعضاء ومؤيدي حركة "مجاهدي خلق" الإيرانية المعارضة إلى دولة ألبانيا، عبر وساطة وإشراف من الولايات المتحدة، ويقيمون حاليا في معسكرات في غرب العاصمة الألبانية تيرانا، لكنهم يتسببون في حدوث قلاقل وخلافات سياسية وأمنية بين إيران وألبانيا، حتى صارت السلطات الألبانية تفرض مجموعة من الشروط الحازمة عليهم، وعلى رأسها منعهم من القيام بأي نشاط قد يُصنف في إيران باعتباره "مسا بالأمن القومي".

يرى نادري أن "الحل الألباني" قد يكون بمثابة تصفية للمسألة الكردية في إيران، لأنه سيحول آلاف السياسيين و"المناضلين" والنشطاء والمساهمين والمشاركين في القضية الكردية في إيران إلى مجرد مغتربين ومهاجرين في المنافي الأوروبية والأميركية، وهو خيار كان متاحا على الدوام أمامهم، لكنه بقي مرفوضا، لأن القضية الأساسية التي بسببها تأسس هذا اللجوء والمنفى، أي القضية الكردية في إيران، ما تزال حيوية وحاضرة في الوجدان العام والخيارات السياسية للأكراد في إيران.

الحال والطرح الثالث متمثل في تفكيك المعسكرات وإزالة "السيادة المحلية" للأحزاب الكردية القائمين عليها، وبعثرتهم على شكل شبكة مؤلفة من مئات من الجُزر السكنية المتناثرة في مُدن وبلدات إقليم كردستان، مقابل الحصول على بعض الحقوق الأولية، مثل بطاقة العمل وبعض المساعدات الطبية والغذائية من المنظمات الدولية، وهو أيضا حل غير مقبول بالنسبة للأحزاب الكردية الإيرانية.

لأنه، حسب نادري، إنما يعني تفكيك القضية الكردية في إيران بالتقادم، والتخلي عن الحقوق السياسية والقانونية لآلاف الأكراد الإيرانية، وذويهم، الذين فروا من أشكال الإبادة السياسية والأمنية والعرقية والطائفية التي مارستها السلطات الإيرانية على المناطق الكردية منذ أوائل الثمانينات، بعد الخلاف الشهير بين آية الله الخميني والحركة القومية الكردية وقتئذ، بسبب موقف هذه الأخيرة من مشروعي "الجمهورية الإسلامية" و"الولي الفقيه"، وتصويتهم بـ"لا" للاستفتاء الذي عُرض لتشريع وتكريس هذين الأمرين وقتئذ، بالإضافة لمطالبة الكرد باللامركزية/ الفيدرالية السياسية والقومية في إيران.

القوى السياسية الكردية ترفض تفكيك معسكراتها الحالية، المتوزعة على أكثر من عشر نقاط ومناطق من إقليم كردستان، ونقلها إلى المناطق الغربية من العراق، تحديدا محافظة الأنبار. فذلك الأمر لو حدث، سيكون بمثابة "إبادة سياسية وبشرية"

شنت إيران خلال السنوات الماضية عدة هجمات صاروخية وجوية على المؤسسات المدنية ومقار الأحزاب الكردية داخل المخيمات والمعسكرات الكردية الإيرانية في إقليم كردستان؛ لكن الأحزاب الكردية فضلت "امتصاص الصدمة"، وعدم الرد أو التصعيد العسكري ضد إيران، مفضلين عدم خلق موقف حرج لإقليم كردستان، في ظلال غياب التوازن العسكري والسياسي بينه وبين إيران، وترك الأمر لمجموع الضغوط الأوروبية والأميركية، ومعها تلك الصادرة عن المؤسسات الدولية.

AFP
يسعى مقاتلو الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني إلى الحصول على حكم ذاتي للمناطق الكردية في ايران

لكن المتابعين لملف الأكراد الإيرانيين يعتقدون أن القوى السياسية الكردية الإيرانية تعتمد على ثلاث ركائز لـ"القوة" غير المباشرة، وغير المُعلنة، تستطيع استخدامها في مواجهة السلطات الإيرانية، في حال أصرت على الحلول العسكرية الجذرية في مواجهتها؛ فالقوى السياسية الكردية الإيرانية على درجة عالية من التنظيم، وذات تأثير أساسي على الداخل الكردي/ الإيراني، وتستطيع بكل سهولة تحريك الشارع وخلق حالة "غليان شعبي" داخل إيران، شبيهة بما حصل قبل عام مع الفتاة الكردية مهسا أميني. وقد يصل الأمر إلى حدود الانتقام الأقصى، بما في ذلك الخيار الأمني داخل إيران، في إصرار السلطات الإيرانية على محق الحركة الكردية الإيرانية داخل إقليم كردستان.

وعلى مستوى نظير، فإن القوى الكردية متأكدة من عدم قدرة إيران على اجتراح حل عسكري، جذري ومُجرد، لمسألة عشرات الآلاف من المقيمين بصفة لاجئين مدنيين محميين من الدولة العراقية حسب القانون الدولي؛ فالهجمات الجوية والضربات الصاروخية قد تخلق الكثير من الضحايا، لكنها ستجر ردود فعل سياسية وإنسانية على مستوى العالم، بما في ذلك الحكومة العراقية، خصوصا وأن اتهامات ورواية إيران، بشأن ما تسميه "هجمات عسكرية من خارج الحدود على أراضيها"، تبدو ضعيفة للغاية، دون أي مستمسك أو دلالة على ما تذهب إليه؛ فحدوث الهجمات قد يدفع السكان إلى إخلائها لفترة ما، لكن الهجمات غير قادرة على الاستمرار بشكل مفتوح، والأدوات الإيرانية داخل العراق غير قادرة ولا مخولة بالتمدد إلى إقليم كردستان لمواجهة الأكراد في مواقعهم؛ فوقوع هذه الحرب المباشرة، قد يستدعي تدخلا دوليا/ أمميا، وتحويل الأحزاب الكردية الإيرانية إلى طرف سياسي، مثلما حدث مع أكراد العراق في أوائل العام 1991، وهو ما لا تريد السلطات الإيرانية حدوثه مرة أخرى بأي ثمن.

كذلك قد يفتح هذا الحدث الباب واسعا أمام حدوث تصدع عرقي عابر للحدود بين الأكراد والإيرانيين، المتوزعين أساسا في المناطق الحدودية والحساسية القومية المتنامية داخل إيران، بسبب مطالبة الأكراد والعرب والأذر والبلوش بمزيد من الحقوق القومية واللامركزية وعدالة توزيع الخيرات على سكان البلاد.

يبقى السؤال الأكثر أهمية متعلقا بالموقف الذي ستتخذه الولايات المتحدة الأميركية بشأن أي تحرك إيراني في ذلك الاتجاه؛ فالسيادة والاستقرار في إقليم كردستان مُصانان بتعهدات وضمانات سياسية وأمنية أميركية، منذ عام 1991. فإقليم كردستان واحد من الحلفاء الموثوقين من قِبل الولايات المتحدة، على العكس تماما من إيران؛ وبذا، فإن هذا التوجه الإيراني هو بمثابة لعب في مساحة أميركية خالصة ضمن العراق.

font change

مقالات ذات صلة