"أوسلو" والهزيمة الكاملة...

من حلم الدولة الى سلطة مساندة للاحتلال

Shutterstock
Shutterstock

"أوسلو" والهزيمة الكاملة...

بعد ثلاثين عاما على المفاوضات السرية في العاصمة النروجية أوسلو، بين وفد منظمة التحرير الفلسطينية والوفد الإسرائيلي، والتي أفضت إلى التوقيع على "اتفاق أوسلو"، من المفيد الإشارة بشكل تناقضي إلى أنه لا شيء في الوضع الفلسطيني أو الوضع الإسرائيلي- وما بينهما، يمكن فصله عن تداعيات الاتفاق التاريخي آنذاك. وفي الوقت نفسه يمكن التأكيد على أنه ليس كل شيء مرتبطا بذلك، بل إن عوامل داخلية ومحلية وعالمية وعربية وإسلامية، لعبت كذلك أدوارا في إيصالنا إلى هنا. لذلك فقد قررت أن أبدأ في تحليل هذا من هنا، من الوقت الحاضر، وأن أعود لربط ذلك بما حصل في بيت بعيد في ضواحي أوسلو قبل ثلاثين عاما ونيف.

نشرت المجلة الأميركية "فورن بوليسي" في عدد يوليو/تموز 2023 تقريرا عن حسين الشيخ، أمين سر اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير. وقد قام كاتبا التقرير بتقديم صورة تفصيلية لشخصية المرشح الأول لخلافة محمود عباس في قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، أي قيادة الشعب الفلسطيني رسميا. والتقرير يفيد أننا أمام شخصية تترقب ببرود وصولها إلى منصب القيادة، مستثمرة لمنصبها للقيام بأعمال مسيئة للفلسطينيين ومشوبة بالكثير من الفساد والتعامل مع الاحتلال، كشريك، لا كعدو يغتصب مقدرات الشعب الفلسطيني.

والشيخ كما هو معروف بدأ مناصبه القيادية في "الأمن الوقائي" تحت قيادة جبريل الرجوب، وبعده قاد الجهاز الأمني ومن ثم تنقل إلى مناصب متعددة ليصل إلى منصب وزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية، وهي الوزارة التي تنسق مع الإسرائيليين تفاصيل تنقلات وعمل وحتى العلاقات التجارية التي يقوم بها الفلسطينيون في الضفة وغزة رسميا، رغم أنها خارج نطاق قدرة سلطة رام الله، وتستغل من قبل الشيخ ورجالاته لتعظيم دورهم على حساب الفلسطيني العادي المجبر على العمل في إسرائيل أو التنقل للأردن، ومنه إلى العالم.

الأهم هو أن الشيخ صاحب شخصية رمادية، ليس لها لون واضح ولا مشروع ولا رؤية واضحة، وقد يكون مشابها بهذا ولو جزئيا لمحمود عباس، إلا أنه يحسب لعباس كونه عضوا في المجموعة التأسيسية لحركة "فتح"، وبعد ذلك قيادي في منظمة التحرير، وله رؤية تبدو مبلورة، تتركز في التفتيش عن دولة فلسطينية، وتقريبا بأي ثمن، وتجيير كل جهد لأجل ذلك، حتى عندما تبين نهائيا أن الدولة الفلسطينية لن تكون. وإن كانت السلطة كيانا يتمتع ببعض الصلاحيات في مناطق "أ"، إلا أنها لم (ولن) تتقدم أكثر من ذلك، وجوهريا هي تقوم بدور الوكيل الثانوي لإسرائيل في التحكم بالفلسطينيين في الضفة الغربية.

حسين الشيخ بدأ مناصبه القيادية في "الأمن الوقائي" تحت قيادة جبريل الرجوب، وبعده قاد الجهاز الأمني، ومن ثم تنقل إلى مناصب متعددة ليصل إلى منصب وزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية، وهي الوزارة التي تنسق مع الإسرائيليين

وقد كتب الكثير عن محمود عباس وتمسكه بالسلطة، ومنع إجراء انتخابات، وفساد السلطة تحته، واعتدائها على القضاء، وشل عمل المجلس التشريعي، وتبرير اعتداءات إسرائيل على غزة، وتنازله عن حق العودة، ومساهمته الجدية في الانقسام الفلسطيني ومنع إعادة اللحمة بين غزة والضفة، وعشرات التجاوزات الأخرى، وحتى تمحوره في لقاءاته مع رسميين إسرائيليين وأميركيين وأوروبيين، وحتى صينيين، في التفتيش عن مشاريع اقتصادية وتمويلية تفيد مقربيه ومن حولهم، وصولا الى التنازل جوهريا عن المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني. 

وفي المقابل، فإن وصول الشيخ إلى نفس مناصب عباس، وهو في طريقه إلى هناك، ينذر بالانهيار والهزيمة الكاملة للحركة الوطنية الفلسطينية، وانتقالها نهائيا إلى كونها أداة إسرائيلية، وخصوصا أن الشيخ الذي لا يملك أي ميزة جدية عن أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ولا عن المئات من خارجها، عدا عن كونه متعاونا بشكل كامل مع إسرائيل وأجندتها، ومن المرجح أن ذلك خدمه جديا في قضية تعيينه من قبل محمود عباس كأمين سر اللجنة التنفيذية، ومن ثم ترشيحه لمنصب رأس الهرم في قيادة الشعب الفلسطيني. باختصار نحن نقترب رويدا رويدا من لحظة يكون فيها قائد الشعب الفلسطيني متعاونا بشكل كامل مع إسرائيل لتنفيذ أجندتها في السيطرة على فلسطين التاريخية وترويض الفلسطينيين حتى القبول بذلك. 

وبهذا، فإن فكرة الكيان الفلسطيني كما بدا في اتفاقيات أوسلو، انتقل تدريجيا ليكون مساعدا لإسرائيل وبشكل يمهد ربما لإنتاج نظام وكيل يشابه نظام لحد جنوبي لبنان في الثمانينات، فكيف وصلنا من "أوسلو" وأمل الدولة المستقلة إلى هنا؟

قد تكون هناك تفسيرات عدة ومركبة، وقد كتب عنها الكثير، إلا أنه بمناسبة السنة الثلاثين لاتفاق أوسلو، من المفيد النظر في "أوسلو" وكيفية إنجازها ومن ثم تطبيقاتها العملية لتفسير انهيار الحركة الوطنية الفلسطينية تدريجيا، وانتقالها من قيادة ياسر عرفات إلى قيادة حسين الشيخ، مرورا بمحمود عباس وقيادة السلطة في رام الله. 

لقد تم التفاوض في أوسلو بين وفد منظمة التحرير ووفد يمثل الجانب الإسرائيلي بسرية، بقيادة حصرية لياسر عرفات، وبالموازاة سبقتها المفاوضات الرسمية التي جرت في واشنطن، والتي عمليا تمت بموافقة ياسر عرفات، إلا أن الدور الأهم كان للقيادة في الداخل والتي نتجت عن القيادة الموحدة للانتفاضة الفلسطينية (1987-1992)، وعمليا تمركزت هذه القيادة في بيت الشرق في القدس وبرز منها حيدر عبد الشافي وفيصل الحسيني وحنان عشراوي وغيرهم. وأهم شيء في سياق أوسلو هو أن مفاوضات وتفاهمات أوسلو تمت بسرية، وفي ظل تخوف جدي من قيادة منظمة التحرير التي وجدت آنذاك في تونس، من إمكانية سحب القيادة منها على يد ما سمي "قيادة الداخل"، في ظل تراجع دور قيادة منظمة التحرير بعد انهيار المعسكر الشرقي ونتائج احتلال الكويت من قبل عراق صدام حسين، وتداعيات ذلك من حيث دعم النظام السياسي العربي الرسمي لقيادة منظمة التحرير، التي كانت مستعدة أن تقوم بأي شيء يعيد لها مكانتها ودورها، وقد تم ذلك من خلال "اتفاق أوسلو".

إن "اتفاق أوسلو الأول"، وما تبعه من سلسلة اتفاقيات، بما في ذلك الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، هو من أسوأ الاتفاقيات في سياق إنهاء الاحتلالات والاستعمار وخصوصا فيما يخص نهاية الاحتلال أو الاستعمار وإنجاز الدولة كهدف واضح يمكن إنجازه. وكان ذلك نتيجة الخلل المركزي في الموقف الفلسطيني والذي أراد إنجاز أي شيء وبسرعة أولا، كما اتسم الأداء الفلسطيني خلال المفاوضات بالضعف وسوء المعرفة والارتهان للموقف الإسرائيلي ثانيا، وقد كتب عن ذلك الكثير ولا أجد حاجة للعودة لذلك.

Reuters
الرئيس الفلسطيني محمود عباس اثناء زيارته الى مدينة جنين في 12 يوليو

ومن نافلة القول، إن وعود اتفاقيات أوسلو في الأساس بالتحرر والدولة والاستقلال لم تنجز، ونحن اليوم أبعد بكثير عن الدولة الفلسطينية، منها عام 1993، ومن الواضح أن إسرائيل القوية والماسكة بزمام المبادرة استطاعت مراجعة تجربة أوسلو وإنهاءها منذ عقدين أو أكثر، على مستوى السياسة الداخلية من خلال إقصاء أقطاب اتفاقية أوسلو من جهتها، وفي علاقتها مع الفلسطينيين من خلال التوضيح جليا بأن السلطة الفلسطينية هي آخر المطاف من ناحيتها، وأن هدفها بالسيطرة على فلسطين التاريخية نهائيا هو في تطور التقدم الجدي. إلا أن الفلسطينيين لا زالوا يرزحون تحت حكم أقطاب أوسلو وخصوصا أحد مهندسي الاتفاقيات محمود عباس، والذي يقف ضد أي جهد فلسطيني جدي لتجاوز ذلك، وأتى بحسين الشيخ، ليستمر في نفس النهج ويقود إلى تعميقه.

"اتفاق أوسلو الأول"، وما تبعه من سلسلة اتفاقيات، بما في ذلك الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، هو من أسوأ الاتفاقيات في سياق إنهاء الاحتلالات والاستعمار

وفي المقابل فإن الحركة الوطنية الفلسطينية داخليا والتي انطلقت مجددا بعد النكبة عام 1948 أصبحت الآن في أسوأ مراحلها، والدلالات على ذلك كثيرة: منها سيطرة مجموعات غير مخولة ديمقراطيا ولا شعبيا بإدارة الشأن الفلسطيني، بدءا بفصائل منظمة التحرير، ومنها إلى حماس في غزة، وتراجع مكانة منظمة التحرير دوليا وعربيا وفلسطينيا، وطبعا الانقسام وتفشي الفساد وسوء الإدارة وتشظي العمل الفلسطيني في الوطن والشتات، وصولا إلى تشظي ومحللة الهوية والأجندات الفلسطينية، وطبعا الخلاف والاقتتال الداخلي الذي وصل إلى ذروة من الانحطاط في التعاون الأخير لسلطة رام الله مع إسرائيل ضد المناضلين في جنين، كما في تفجر الخلافات المسلحة داخل المخيمات في لبنان في مناسبات عدة، وسبقه قبل ذلك في خلافات بين "الجهاد" و"حماس" فيما يتعلق بالموقف من إسرائيل، أو التعامل معها على الأقل.

ليس كل ما ذكر وغيره مرتبط باتفاق أوسلو ونصوصه، لكن الوضع الفلسطيني عموما تأثر، وسوف يتأثر مستقبلا، بتداعيات اتفاق أوسلو وأهمها انتقال القيادة الفلسطينية إلى داخل فلسطين، وأعني رام الله وغزة، وتحولها إلى عامل مساعد للاحتلال الإسرائيلي، في رام الله "عالمكشوف"– كما يقال- وفي غزة بضغط ظروف الحصار والاحتياجات الأساسية للناس. كما ترك اللاجئون الفلسطينيون وحدهم في مجابهة التحديات مما قلص وجودهم، وأدى إلى تراجع مكانتهم في الحركة الوطنية، وحتى ضمور وجودهم كلاجئين في الخليج والعراق والأردن وسوريا ولبنان. 

Shutterstock
الجدار الفاصل يحيط بمستوطنة بسيغات زئيف

في لبنان مثلا، تقلص عدد اللاجئين الفلسطينيين عمليا من نحو نصف مليون إلى 150 ألفا، كذلك تراجع الفلسطينيون داخل إسرائيل عن علاقة جدية مع هويتهم الفلسطينية ومعناها، وحتى انخراط بعض أحزابهم في حكومة إسرائيلية معادية للشعب الفلسطيني، وأعني حكومة بينيت- لابيد، وانغماس جزء آخر في ارتباطات مع أموال اليسار الاسرائيلي وأجندته، مما أدى إلى تراجع التضامن والتماسك الداخلي لديهم، وغرقهم في عنف اجتماعي يتعمق يوميا ويهدد وجودهم كجماعة وطنية، وكل ذلك يترافق مع ضعف قيادي غير مسبوق. 

كل ذلك يتم في ظل غياب أي مشروع جدي وفاعل لإعادة الاعتبار للفلسطينيين ولحركتهم الوطنية، وحتى مساهمة فاعلة من عدد كبير من مثقفيهم ونخبهم في تعميق الوضع القائم، أو على الأقل عدم مجابهته جديا. مما ساهم ويساهم في تعزيز فرص وإمكانيات نخب وقيادات مرهونة بدعم عدو الشعب الفلسطيني المركزي– إسرائيل، واتساع وتعمق سيطرتها على فلسطين التاريخية، بغير مجابهة جدية، وحتى من خلال تعاون فلسطيني نشط، تقوده بالأساس سلطة رام الله وقيادات لا تقوم بدورها في التصدي للوضع الفاشي في إسرائيل، والذي يقود إلى تعميق الابرتهايد والاستعمار الكولنيالي في فلسطين، رغم أن إسرائيل وحكومتها وقيادتها الحالية، ومن خلال نهجها العنصري والفاشي، تعطي الفلسطينيين فرصة تاريخية لمجابهتها دوليا وعربيا وفلسطينيا، وحتى إسرائيليا، لكن مع قيادة يمثلها محمود عباس ومرشحه للخلافة، حسين الشيخ، فإننا نكون قد وصلنا إلى الهزيمة الكاملة فلسطينيا.

الحركة الوطنية الفلسطينية داخليا والتي انطلقت مجددا بعد النكبة عام 1948 أصبحت الآن في أسوأ مراحلها

تأتي هذه الهزيمة على ضوء توضيح استحالة إقامة دولتين في فلسطين التاريخية، وأن أي مشروع تحرري يجب أن يعتمد على تجربة إنهاء الحالة الاستعمارية والتفوق العرقي، والدروس في جنوب أفريقيا والجزائر وأيرلندا وعشرات الحالات الأخرى ماثلة أمامنا، هنالك ضرورة لانتقال فلسطيني جدي من مشروع الدولة، إلى مشروع الوطن الواحد الحر المستقل والديمقراطي والذي يستقبل ويحترم كل الوافدين، دون تفرقة مع الأصليين، تماما كما حصل خلال عدة قرون مضت، فيها استقبلت فلسطين الملايين من القادمين من البحر والراحلين إليها من الصحراء، وطنا لهم كما هي لمن سبقهم. 

باختصار، هنالك ضرورة جدية لانطلاقة مختلفة وجدية، لها إرهاصات في فلسطين التاريخية وفي بلدان اللجوء والشتات الفلسطينيين، لكنها لم تنضج بعد، وأخشى أن لا تصل لتفاعل جدي، قبل الإطباق الكامل إسرائيليا على الوضع الفلسطيني، وخصوصا في ظل قيادة فلسطينية يتحكم فيها شخص مثل حسين الشيخ.

font change

مقالات ذات صلة