البرهان جنرال نسي الحرب قبل أن يتقن السياسة

AFP
AFP

البرهان جنرال نسي الحرب قبل أن يتقن السياسة

عندما صعد الفريق أول عبدالفتاح البرهان إلى منصة الأمم المتحدة ممثلا للسودانيين، وتاليا خطابهم نيابة عنهم أمام القمة الثامنة والسبعين، تأكد أن ركنا ركينا من بناء الثورة قد انهار فعليا، وأن حلم السودانيين بالديمقراطية والحكم المدني قد تبدد إلى أجل غير معلوم، وأن كل نضالاتهم وتضحياتهم للإطاحة بالجنرال المخلوع عمر البشير ورهطه من "الإخوان المسلمين" لم تحقق النجاح المطلوب منها بعد، ففي هذا التوقيت كان الترتيب أن يمثلهم مدني صرف.

وقطعا في تلك اللحظة، نظر كثير من السودانيين إلى أن جنرالات الجيش كانوا ضمن من تسببوا في تعطيل الوصول إلى الحكم المدني، وأن الثورة عاشت نكبات كبيرة تحت سيطرة الجنرالات ومن بينهم القائد البرهان، بدأت بمجزرة فض اعتصام الثوار في 3 يونيو/حزيران أمام مقر القيادة العامة للجيش والذي قتل فيه مئات الثوار وانتهكت فيه كرامتهم باغتصاب الفتيات وإغراق الثوار أحياء في النيل عمدا، وفق تقارير موثقة.

ثم كانت ثاني النكبات عندما أعلن البرهان وبمشاركة قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو تعطيل الوثيقة الدستورية واعتقال الحكومة المدنية- حكومة الثورة- بمن فيها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك والإعلان عن "حركة تصحيح مسار الثورة" يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 التي خرج عليها الثوار باعتبارها انقلابا عسكريا، مطالبين بعودة الجيش للثكنات. وقد قتل منهم أكثر من مئة شاب في شوارع الخرطوم.

وبسبب عزم الثوار ومضيهم في الاحتجاج اجتهد البرهان وقادة الدعم السريع بإنجاز اتفاق 25 نوفمبر/تشرين الثاني الذي وصف بالهش وقتها، ليعود عبدالله حمدوك رئيسا للوزراء. وماطل العسكريون في تنفيذ بنوده الهشة ليجد عبدالله حمدوك نفسه في وضع حرج لا خيار معه سوى تقديم استقالته. وبعد عام ونيف اقتنع البرهان بالجلوس والتفاوض مع المدنيين مرة أخرى، مؤكدا في خطاب شهير يوم 4 يونيو/حزيران 2022 أن الجيش سيخرج من الشأن السياسي.

ودخلت البلاد في عملية سياسية طويلة، وعندما بلغت محطتها الأخيرة بعد مماطلة جبارة من الفريق أول عبدالفتاح البرهان ومستشاريه الذين يتقنون لعبة شراء الوقت، نفضوا أيديهم منها وغابت قيادات الجيش عن ليلة التوقيع لتدخل البلاد في أسوأ حرب داخلية قتلت السودانيين وشردتهم نازحين ولاجئين عن ديارهم وتبدد حلمهم في الحكم المدني. لذا فرض الواقع أن يمثلهم بعد أربع سنوات في الأمم المتحدة وللمرة الثالثة الفريق أول عبدالفتاح البرهان.

مهمة البرهان: السفينة إلى بر الأمان... ولكن

لم يكن أحد يعلم من هو الفريق أول عبدالفتاح البرهان يوم أعلن عن اسمه بديلا للفريق أول عوض ابن عوف الذي تلا بيان الإطاحة بالرئيس السابق عمر حسن البشير في 11 أبريل/نيسان 2019 غير أن المعتصمين أمام القيادة العامة للجيش وقتها هتفوا برفض ابن عوف على خلفية أنه قائد عام نصبه البشير نفسه وأنه من جماعة "الإخوان المسلمين". ولم يجد الجيش مناصا سوى أن يتلو ابن عوف بيانا جديدا يعلن فيه تنحيه عن قيادة المجلس العسكري الانتقالي ولكن قبل أن يغادر عيّن خلفا له وكان هو الفريق عبدالفتاح البرهان. وقال ابن عوف في خطاب بثّه التلفزيون الرسمي: "أُعلن أنا رئيس المجلس العسكري الانتقالي التنازل عن هذا المنصب واختيار من أثق في خبرته وجدارته بأن يصل بالسفينة إلى بر الأمان وبعد التفيكر والتشاور أعلنُ عنِ اختيار الفريق أول عبدالفتاح البرهان عبدالرحمن ليخلفني في رئاسة المجلس العسكري الانتقالي".

يومها اجتهد الصحافيون في العثور على سيرة البرهان رئيس المجلس العسكري الجديد. وفي الحقيقة عثروا على سيرة ضابط جيش ملتزم بالعسكرية ترقى في الرتب والمناصب بحسب الأقدمية إلا أن اللافت ترقية وحيدة حدثت قبل 45 يوما من الإطاحة بالرئيس البشير وتعيينه رئيسا للمجلس العسكري، وهي ترقيته إلى منصب المفتش العام الذي يضعه في موقع الرجل الثاني في الجيش ويخول له خلافة القائد العام في هكذا حالة. الأمر الذي جعل كثيرين لا ينظرون إلى هذه الترقية على أنها صدفة بل عن قصد وترتيب للمشهد بعد أن تأكد داخل وخارج السودان أن المشير البشير المترنح ساقط لا محالة وأن البرهان فعليا كان الخطة (ب) بعد رفض القائد العام الفريق أول عوض ابن عوف والرفض ذاته ينظر إليه على أنه لا ينفصل عن خطة تنصيب البرهان.

بسبب عزم الثوار ومضيهم في الاحتجاج اجتهد البرهان وقادة الدعم السريع بإنجاز اتفاق 25 نوفمبر/تشرين الثاني الذي وصف بالهش وقتها

المفارقة اللافتة أيضا وقتها علاقة الرجل الوطيدة بقوات الدعم السريع وقائدها الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي). وتقول السيرة إنه هو من أشرف عليها في دارفور وقادها في معارك مع الحركات المسلحة، وأشرف على نقل جنودها إلى الخرطوم. وأول ظهور له في عام 2017 كان بجوار حميدتي عقب معركة انتصر فيها على قوات حركة العدل والمساواة.

هل البرهان إسلامي؟ الفخ الأكبر 


لم يكن بمقدور البرهان ورفاقه العسكريين الادعاء بأن تغيير نظام البشير والإطاحة به جهد خالص لهم، لذلك تواضعوا في أول الأمر وقالوا إنهم انحازوا إلى ثورة الشعب السوداني. وأول الوعود التي بذلوها للثوار والقوى السياسية المشاركة في الثورة والناس أنهم سيحافظون على الثورة وأنهم مع التغيير. ومن هنا بدأت تتجلى شخصية البرهان الذي يجيد ما تعلمه من فنون الحرب من تمويه وقدرة على إظهار خلاف ما يريد لتحقيق النصر على عدوه. وبعد أيام قليلة من توليه المجلس العسكري الانتقالي بدأ يتعامل على أنه الأكثر حرصا على الثورة وأنه ورفاقه العسكريين صمام أمان لها. وطلب من القوى السياسية أن تتوافق وتتفق على برنامج سياسي حتى يستطيع تشكيل حكومة تنفيذية بينما ينفرد هو بدور الرئيس عبر مجلس سيادي عسكري انتقالي.
ومن هنا بدأ الخلاف، إذ كان رأي القوى السياسية ضرورة أن يكون مجلس السيادة مختلطا بين عسكريين ومدنيين على الأقل. ثم عمل العسكريون على إغراق المشهد السياسي بقوى سياسية كانت تعمل مع النظام الذي أطاحت به الثورة وأخرى تشكلت حديثا لا علاقة لها بالثورة أصلا، وعاد إلى طريقة البشير نفسه المعهودة في استثمار خلافات القوى السياسية والمدنية، ولم يكن يعلم أحد لمصلحة من كل هذه المماطلة وشراء الوقت، والثوار معتصمون وقتها أمام القيادة العامة، فهل كان شراء الوقت لصالح الإسلاميين؟ 

AFP
البرهان يلقي كلمته امام الجمعية العامة للامم المتحدة في 21 سبتمبر


توجهنا بالسؤال إلى ضابط كان ضمن الدفعة (31) أي دفعة البرهان، ويعرفه عن كثب، وطلب عدم ذكر اسمه، فقال: "أولا البرهان ليس من ضمن الإسلاميين في الجيش وهذا هو الفخ الأكبر الذي وقع فيه الثوار". ومضى قائلا: "البرهان معتد بعسكريته وتجربته، وتقديراته السياسية ضعيفة وخاطئة في كثير من الأحوال، لذلك لم يخدم الإسلاميين ولا الثورة، وفي ظنه أنه يخدم مؤسسة الجيش، ويرى أنها يجب أن تستمر في السلطة". وأكد كثير ممن تحدثنا إليهم أن شخصية البرهان تنحصر في أنه شخص لا يتحسب كثيرا للعواقب ولا يتمسك بالوفاء بالتعهدات حال تعارضت مع ما يؤمن به.
وقال المصدر العسكري الذي تحدث إلينا سابقا: "أصبحت لدى البرهان بعد وقت قليل مصلحة شخصية في الاستمرار في السلطة". ربما تؤكد شواهد كثيرة ما ذهبت إليه المصادر وأهمها تعهده بعدم فض اعتصام الثوار أمام القيادة العامة بالقوة ليتفاجأ السودانيون بمذبحة بشعة للثوار في ليلة عيد الفطر وكانت بمثابة انقلاب دموي على الثورة. وبدلا من إدانتها من جانب البرهان خرج على الناس ببيان أعلن فيه رفع التفاوض مع القوى السياسية وأن العسكريين سيعلنون عن انتخابات مبكرة. وقد تراجع حتى عن هذا التعهد بعد أيام قليلة بسبب الضغط الجماهيري. 
ثم نكص عن التعهد الذي ظل يكرره إلى اليوم، ومنذ توقيع الوثيقة الدستورية التي أطرت للشراكة في الحكم بين المدنيين والعسكريين في أغسطس/آب 2019 المتعلق بحماية الفترة الانتقالية إلا أن الشواهد تؤكد أن العسكريين كانت لهم رؤية مختلفة لحماية الثورة مرتبطة بوجودهم في قيادتها، لذلك ينظر إليهم على أنهم عملوا على عرقلة الانتقال ورفض التعاون مع الحكومة المدنية وانتهى بهم الحال بإلغاء الوثيقة الدستورية واعتقال الوزراء المدنيين وأعلن أنه سيشكل حكومة خلال أسبوعين وهذا ما لم يحدث حتى اليوم.
وبعد أن أبدى المجتمع الدولي رفضه لما جرى في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عاد البرهان مرة أخرى إلى المسار السياسي والجلوس مع القوى السياسية، وبذل تعهدا جديدا وهو خروج المؤسسة العسكرية من السياسة، وفي يوم توقيع الوثيقة الأخيرة المتعلقة بالإصلاح الأمني والعسكري غاب البرهان ومستشاروه عن الجلسة ليحصد الناس حربا مدمرة لا تزال نيرانها مستعرة، وهناك تعهد أخير ومهم سنرجئه إلى فقرة لاحقة.
 
الأمم المتحدة: هل عدت مرة ثالثة أيها الجنرال؟

 
عندما وقف البرهان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذه المرة كانت مصداقيته جريحة ومضعضعة، وكأن لسان الجمعية العامة يقول له: هل عدت مرة ثالثة جنرال البرهان، رغم تعهداتك في المرة السابقة بأنك تعمل على تسليم مقاليد السلطة للمدنيين؟". 

حصل البرهان على ترقية قبل 45 يوما من الإطاحة بالرئيس البشير وتعيينه رئيسا للمجلس العسكري، وهي ترقيته إلى منصب المفتش العام الذي يضعه في موقع الرجل الثاني في الجيش ويخول له خلافة القائد العام

كانت زيارة البرهان الأولى لمقر الأمم المتحدة في 2020 بعد نجاح الثورة وتشكيل الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك. ونشب صراع وقتها بشأن من يخاطب الجمعية العامة، غير أن البرهان والعسكريين تمسكوا بذلك، وفي تلك الجلسة كانت الثورة السودانية نقطة مشرقة ينظر إليها العالم بفخر وتجربة الشراكة بين المدنيين والعسكرين تجربة ملهمة وفريدة، وكان الأمل والفرص أكبر بكثير من المخاوف.

AFP
سودانيون يستعدون للاحتفال بذكرى المولد النبوي في مدينة القضارف في 23 سبتمبر


استقبل البرهان بحفاوة وصفق له الحاضرون طويلا. في المرة الثانية عاد البرهان مرة ثانية للمنصة وكان قد عطّل الوثيقة الدستورية، وقام بـ"الحركة التصحيحية" التي عدها العالم انقلابا على حكومة الثورة وعلق كل المساعدات والتدفقات المالية على السودان. يومها خاطب البرهان قاعة فارغة ومعظم المشاركين في الجلسة الذين غادروا ينظرون إليه على أنه عسكري منقلب على سلطة، غير أنه لم ينس أن يتعهد يومها بخروج الجيش من السياسية وتمكين المدنيين من السلطة وإجراء انتخابات حرة ونزيهة والتعاون مع بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال وبذلك كان من المأمول أن يستقبل المشاركون في قمة الأمم المتحدة الأخيرة ممثلا مدنيا للسودان وفقا لخروج الجيش من السياسة. وفي الحقيقة عاد البرهان ولم تتشكل حكومة أصلا لا مدنية ولا عسكرية يعترف بها العالم. 
أما عن تعهده بالتعاون مع بعثة الأمم المتحدة، فها هو يعود وقد استقال رئيسها الألماني فولكر بيرتس قبل أيام بعد أن رفضت السلطات منحه تأشيرة دخول. أما الانتخابات التي استدر بها عاطفة العالم الديمقراطي فسيقف في المنصة وبلاده تبحث عن مخرج من الحرب ووقف القتال بدلا من الانتخابات الحرة والنزيهة التي وعد شعبه والعالم بها.

البرهان: الحرب والسياسة 


التعهد الأكبر من الفريق أول عبدالفتاح البرهان والعسكريين في السلطة الذي أرجأناه إلى هذه الفقرة، وهو تعهد يتعلق بالحرب، وظلوا يكررونه مرارا وبثقة مطلقة: "لن نقاتل قوات الدعم السريع. فهذه القوات من رحم القوات المسلحة.. وهي قوات لها أدوار وطنية مشهودة قبل الثورة وبعدها".
في صبيحة السبت 15 أبريل/نيسان 2023 استيقظت الخرطوم على قعقعة السلاح والانفجارات وأزيز المدافع وانتشر الموت والرماد في شوارعها. وتبعتها مدن السودان الأخرى متنافسة في الموت والدمار، ولم ينس البرهان أن يتعهد بأن هذه الحرب "ستنتهي في أيام قليلة وتعود البلاد إلى الأمن والأمان"، وكذلك: "قواتكم المسلحة قادرة على سحق التمرد بالكامل واقتربنا من تحقيق ذلك". إلا أن الحرب تطاولت وقوات الدعم السريع تسيطر على المدن والبلدات وتخرج الناس من بيوتهم في العاصمة الخرطوم وفي دارفور وكردفان.
البرهان تلكأ في الوفاء بتعهداته السياسية أمام الشعب السوداني والعالم، وأفضى به الأمر إلى السيطرة على سلطة غير معترف بها وحكومة تدار عبر وكلاء الوزارات بعد الفشل في تشكيلها، وتجاذب سياسي حاد، وتردٍ اقتصادي غير مسبوق، بعد أن امتنع العالم عن تقديم أي مساعادات لسلطة يصفها بالانقلابية والانسداد السياسي قبل انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول وبعده، انتهى إلى حرب مع شريكه "حميدتي" قائد الدعم السريع الذي قال البرهان إنه تحت سيطرته تدريبا وتسليحا، ووعد بأن القضاء عليه سيستغرق أياما فحسب. غير أن البلاد في شهرها السادس من الحرب والدمار، وليس هناك نصر يلوح في الأفق. وعليه يقول واقع الحال إن البرهان جنرال نسي الحرب والقتال قبل أن يتقن السياسة.
 

font change

مقالات ذات صلة