التداعيات الاقتصادية للاحتراب السوداني

العملة هوت الى 830 جنيها لكل دولار... 66% من مصانع الأغذية أقفلت وخسائر متعاظمة بالمليارات

Reuters
Reuters

التداعيات الاقتصادية للاحتراب السوداني

أدى اندلاع القتال بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى دمار غير مسبوق في العاصمة السودانية الخرطوم وبقية أنحاء البلاد. بالإضافة إلى الكلفة البشرية التي شملت مئات القتلى من المدنيين وآلاف الجرحى وملايين المشردين من النازحين واللاجئين، بالإضافة إلى الناجيات والناجين من الانتهاكات والتي شملت الاغتصاب والاعتداءات الجسدية والتعذيب والاعتقال لمجرد الاشتباه وعلى أساس الهوية في ظروف قاسية ومهينة.

كما وقعت مذابح بسبب الانتماء الإثني الذي ارتكبته ميليشيا "قوات الدعم السريع" في دارفور، وبالأخص في ولاية غرب دارفور. في المحصلة أصبح السودان من أكبر دول العالم من حيث عدد اللاجئين والنازحين الذين تجاوزوا 7 ملايين سوداني، تشرد 5.4 مليون منهم بعد اندلاع الحرب في منتصف أبريل/نيسان الماضي.

Reuters
متطوعون يوزعون الغذاء في ام درمان في الثاني من سبتمبر

وقد تعرض سكان العاصمة الخرطوم التي أصبحت مدينة أشباح بعد أن نزح عنها أكثر من ثلثي سكانها، لعملية نهب واسعة النطاق على يد "الدعم السريع". واقتحم أفراد الميليشيا البيوت المغلقة التي غادرها أهلها ونهبوا ممتلكاتهم. وفي بعض الأحيان تم اقتحام البيوت في وجود أصحابها ونهبهم تحت تهديد السلاح أو إجبارهم على الرحيل. وأصبحت قصص احتلال البيوت بواسطة أفراد الميليشيا والإقامة فيها من الحكايات المعتادة عن مشاهد الحرب في الخرطوم، وهي مشاهد لم يستح أفراد الميليشيا من تصوير مقاطع الفيديو وبثها على وسائل التواصل الاجتماعي للمفاخرة بإقامتهم فيها، وتهديد ملاكها الأصليين بأنهم لن يروها مرة أخرى لأنهم لن يخرجوا منها.

وقد وجد البسطاء من جنود الميليشيا المأجورين، الذين لا يعرفون لماذا يقاتلون حقا، مبررات نهبهم لممتلكات الناس في تدليس المستشار السياسي للميليشيا يوسف عزت، عن إنهاء دولة 1956، وشعارات عضو مجلس السيادة السابق محمد حسن التعايشي عن إنهاء الاختلالات التاريخية في تكوين الدولة السودانية، وأوراق وزير العدل السابق نصر الدين عبد الباري عن نظم الحكم والإدارة التي يتم تداولها في مؤتمرات حشد الدعم السياسي للميليشيا، أو شعارات بناء الديمقراطية واستعادة الحكم المدني التي يتم رفعها في سعي الميليشيا لبناء سردية الواقع البديل، التي تهدف إلى إرغام الناس على إنكار ما تراه عيونهم ويعايشونه بأنفسهم، والعيش في الواقع المتخيل، الذي يمثل فيه حميدتي وجيشه الخاص أسطورة بطل الخير والعدل والسلام.

ومن أكبر الآثار السالبة التي تسببت فيها الحرب، والتي ستستمر تداعياتها لفترة طويلة، الضرر الاقتصادي الذي وقع على البلاد؛ فبالإضافة إلى الخسائر المادية المباشرة، نتيجة دمار البنية التحتية، ودمار المباني والمنشآت التجارية والصناعية والسكنية، هناك أيضا الضرر الذي وقع على الاقتصاد الوطني الذي كان من المأمول أن يمضي في رحلة تعافٍ صعبة قطعها انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، ثم دمرها بالكامل اندلاع الحرب في 2023.

وفي 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، تآمر الجنرالان، قبل أن يحتربا فيما بينهما على غنيمة مؤامرتهما، لإنهاء المرحلة الانتقالية والانقلاب على حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك. قطع هذا الانقلاب حينها مسار البلاد للتخلص من الديون التي كانت قد أثقلت كاهلها لعقود طويلة، عبر برنامج إعفاء ديون البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (Heavily Indebted Poor Countries-HIPC). وكانت الحكومة المدنية الانتقالية قد شرعت في تنفيذ برنامج إصلاحي جريء وقاس، استهدف الاستقرار الاقتصادي من خلال توحيد سعر الصرف، وخفض عجز الموازنة من خلال إلغاء الدعم السلعي لخفض التضخم مع تنفيذ برنامج دعم اجتماعي للأسر الفقيرة المتضررة من الإصلاحات، وزيادة الجهود لدعم المواسم الزراعية لزيادة الإنتاج.

ولاقت الحكومة حينها الكثير من السخط الاجتماعي العام بسبب إجراءات التقشف التي تطلبها تنفيذ هذا البرنامج. ولكن ثماره بدأت في الظهور مع استقرار سعر الصرف بشكل كبير، على ارتفاعه. وكانت زيادة مرتبات القطاع العام بشكل كبير قد ساهمت في الحد من آثار إجراءات التقشف على المواطنين وإن كانت لم تنهها بشكل كامل.

أصبح السودان من أكبر دول العالم من حيث عدد اللاجئين والنازحين الذين تجاوزوا 7 ملايين سوداني، تشرد 5,4 ملايين منهم بعد اندلاع الحرب في منتصف أبريل/نيسان الماضي

وقد بدأت الإصلاحات الاقتصادية والعمل المشترك مع المجتمع الدولي تؤتي ثمارها في يونيو/حزيران 2021، وقرر المجلسان التنفيذيان للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي أن السودان قد اتخذ الخطوات اللازمة لبدء تلقي مساعدات تخفيف عبء الديون في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون. وكان السودان هو الدولة الثامنة والثلاثون التي تصل إلى هذه المرحلة منذ إطلاق المبادرة، وهي المرحلة المعروفة باسم نقطة القرار الخاصة بالبلدان الفقيرة المثقلة بالديون. وتمت تسوية متأخرات فوائد ديون السودان المستحقة للبنك الدولي البالغة 1.2 مليار دولار أميركي في 26 مارس/آذار 2021 من خلال التمويل المرحلي الذي قدمته الولايات المتحدة مسبقا. ثم تمت تسوية متأخرات ديون السودان البالغة 413 مليون دولار أميركي المستحقة لبنك التنمية الأفريقي في 12 مايو/أيار 2021 من خلال التمويل المرحلي الذي قدمته حكومة المملكة المتحدة ومساهمات من السويد وأيرلندا.

وتمت تسوية متأخرات ديون السودان البالغة 1,4 مليار دولار أميركي لصندوق النقد الدولي في 29 يونيو/حزيران 2021 بمساعدة تمويل مرحلي من الحكومة الفرنسية. وألغى دائنو نادي باريس 14,1 مليار دولار من ديونهم للسودان من مجمل 23 مليار دولار (نحو 60 في المئة). وبدأت مفاوضات الحكومة الانتقالية، بدعم من المجتمع الدولي، في أغسطس/آب 2021 لتسوية 20 مليار دولار من الديون المستحقة للدائنين من خارج نادي باريس. ولكن للأسف، تعطل مسار الإعفاء من الديون- إلى جانب بقية الإصلاحات الاقتصادية- نتيجة انقلاب الجنرالين في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. 

ولم تكن هذه هي الخسارة الاقتصادية الوحيدة التي تحملها السودان جراء الانقلاب. ولكن أيضا، علقت الولايات المتحدة المنحة التي أجازها الكونغرس للسودان بقيمة 700 مليون دولار نهاية عام 2020. وبالإضافة إلى ذلك، أوقفوا توريدهم السنوي البالغ 350 ألف طن متري من القمح للسودان والذي كانت تبلغ قيمته حوالي 125 مليون دولار أخرى. كذلك خسر السودان منحة لدعم الموازنة مقدرة بمبلغ 500 مليون دولار مقدمة من البنك الدولي، وكان السودان في انتظار الموافقة على منحة إضافية قدرها 500 مليون دولار للمشاريع في مجالات الطاقة والأمن الغذائي وإدارة الموارد الطبيعية بحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول 2021. كما تم أيضا تجميد جميع المدفوعات المستحقة لمشاريع البنك الدولي القائمة حينها في السودان والتي كانت تبلغ 760 مليون دولار أخرى. 

AFP
مريضان في مستشفى الجزيرة في واد مدني في 23 سبتمبر

علاوة على ذلك، خسر السودان منحة قدرها مليارا دولار مقدمة من المؤسسة الدولية للتنمية (IDA) في خطتها الإجرائية كجزء من جولة التمويل لعام 2019 التي كان من المفترض أن يتم تحويلها للحكومة السودانية في فبراير/شباط 2022، وتمت إعادة تخصيص هذا المبلغ إلى بلدان أخرى في قائمة انتظار المؤسسة الدولية للتنمية بحلول يونيو/حزيران 2022. 

في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، تآمر الجنرالان، قبل أن يحتربا فيما بينهما على غنيمة مؤامرتهما، لإنهاء المرحلة الانتقالية والانقلاب على حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك

بالإضافة إلى ما سبق، فمنذ قرار الحكومة السودانية توحيد سعر صرف العملة في فبراير/شباط 2021، بدأت التدفقات المالية للعملات الأجنبية عبر النظام المصرفي الرسمي. وشمل ذلك التحويلات المالية من المغتربين السودانيين الذين كانوا حريصين على دعم الحكومة الانتقالية حينها. وفي الفترة بين فبراير/شباط 2021 وأكتوبر/تشرين الأول 2021، تلقى السودان حوالي 1,2 مليار دولار من صافي التدفقات الأجنبية من تحويلات المغتربين. وبافتراض أن هذا الاتجاه كان سيستمر لولا وقوع الانقلاب، لكانت التدفقات السنوية للعملة الصعبة قد وصلت إلى ملياري دولار في ظل التقديرات الأكثر تحفظا. باختصار، كلفة حماقة الانقلاب الذي نفذه الجنرالان قبل احترابهما على غنيمته- السودان والسودانيين- قرابة التسعة مليارات دولار.

وقد امتد تأثير هذه الحماقة وتضاعف حين اشتعلت الحرب بين الجنرالين. بعد أن كان السودانيون ينتظرون ويختلفون حول إجراءات الإصلاح الاقتصادي، شردتهم الحرب داخل بلادهم وفي دول الجوار. وقدرت وكالات الإغاثة العالمية اللوازم الضرورية لإغاثة السودانيين في خضم هذه الكارثة الإنسانية منذ اندلاع الحرب وحتى الآن بحوالي 2.6 مليار دولار، ولكن لم يتوفر منها حتى الآن سوى 841 مليون دولار. اختفى ذلك الشغف والتدافع الدولي لدعم السودان والسودانيين بعد انتصار ثورتهم السلمية الباسلة في أبريل/نيسان 2019، ولم يتوفر لإغاثة المدنيين السودانيين في خضم هذه الحرب اللعينة سوى ثلث المطلوب. 

انهيار الجنيه السوداني

انهارت قيمة الجنيه السوداني بشكل حاد منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان، لتبلغ قيمته السوقية الحقيقية اليوم ما يزيد على 830 جنيها مقابل الدولار الأميركي الواحد، والتي تساوي تقريبا ضعف سعره قبل انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. وكما انكمش حجم التعامل الاقتصادي إلى نصف حجمه بالمقارنة مع فترة ما قبل الحرب. وانخفض متوسط دخل الأسر في المناطق الحضرية والريفية إلى 40 في المئة مقارنة بما قبل الحرب. بينما تأخر دفع مرتبات العاملين بالدولة لأكثر من 4 أشهر. كما أدى شح السلع والخدمات إلى نمو اقتصاد الحرب والأسواق الموازية وغير الرسمية بشكل مريع ومتزايد وتصعب السيطرة عليه في أي وقت قريب، حتى في حالة استقرار الأمور. 

وقد توقف أكثر من 66 في المئة من شركات ومصانع الأغذية في البلاد عن العمل بينما تعمل 20 في المئة أخرى بأحجام مخفضة. وأعلنت بعض المؤسسات الاقتصادية الخاصة الضخمة عن إغلاق أعمالها بالبلاد مثل "دال"، و"حجار"، و"صالح عبدالرحمن يعقوب". وهو الأمر الذي صاحبه انتشار مفاجئ بين ليلة وضحاها للبطالة؛ حيث خسر 50.3 في المئة من العاملين السودانيين وظائفهم. وخسر 20.4 في المئة من العاملين في مجال الزراعة وظائفهم. وخسر 81.3 في المئة من العاملين في مجال الصناعة مورد رزقهم. وخسر 47.9 في المئة من العاملين في مجال الخدمات وظائفهم.

Reuters
طفلة سودانية تنتظر العلاج

وتشير التقديرات إلى أن الكلفة الاقتصادية للحرب على السودان منذ اندلاعها وحتى الآن بلغت 10 مليارات دولار. ويشمل هذا تقديرات الخسائر الاقتصادية العامة وفقدان الإنتاجية، بالإضافة إلى الدمار في البنية التحتية، ولا يشمل هذا التقدير كلفة الخسائر الشخصية للمواطنين ولا الضرر الذي حاق بالنظام المصرفي. ومن المتوقع أن ترتفع هذه القيمة إلى 15 مليون دولار في حالة استمرار الحرب حتى نهاية العام. 
كما سيسجل الناتج المحلي الإجمالي (Gross Domestic Product) انخفاضا بنسبة 48 في المئة بحسب أكثر التقديرات تحفظا. وستكون الخسائر 21 في المئة في قطاع الزراعة و70 في المئة في قطاع الصناعة و49 في المئة في قطاع الخدمات. وسيكون الأثر في قطاع تعدين الذهب واضحا، الذي يساهم بنسبة 15 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي، والذي يتوقع أن يسجل خسارة قدرها مليارا دولار هذه السنة. ولكن مع استشراء حالات الفساد وغياب أو ضعف وجود الدولة في أنحاء كثيرة من البلاد، فإن هذا الأمر سيفتح شهية مغامري الذهب وتجار الأزمات (وخصوصا الشركات الروسية التي أشرنا إليها في مقال سابق) لمزيد من نهب الموارد السودانية، إما بالأصالة عن أنفسهم وإما تحت حماية أو مظلة أحد الطرفين المتقاتلين.

واستمرار التبحر في أرقام وإحصائيات كلفة الاحتراب الأحمق الذي يدور الآن في السودان، لن يزيد المشهد إلا فجيعة. ولكن لتبسيط حجم المأساة يكفي أن نذكر أن عددا من الخبراء يقدر كلفة خسائر الحرب السودانية الحالية المباشرة وغير المباشرة بحوالي 100 مليون دولار في اليوم.

إن استمرار المغامرات السياسية التي يقوم بها البعض مستقوين بحملهم للبندقية، ومدفوعين بشهوات السلطة، لن تزيد مشهد الحرب في البلاد إلا اشتعالا. والشيء الوحيد الجيد الذي يمكن أن يحدث للسودانيين هو أن تتوقف هذه الحرب الآن. فاستمرار هذه الحرب والمزايدات السياسية التي تغذي نيرانها سعيا وراء تحقيق طموحات سيادة سياسية، لن تنجح، وإن نجحت فلن تكون تلك السيادة، إلا سيادة فوق الرماد. 

font change

مقالات ذات صلة