الصور التي تأتي من غزة

الصور التي تأتي من غزة

"نعرف ونرى أن هناك مدنيين يقتلون في غزة"، يقول البيت الأبيض، تعقيبا على تعليقه المتشكّك بصدقية أرقام القتلى في الجانب الفلسطيني. المعرفة، هنا، معرفة بداهة (فالمدنيون أضرار جانبية لا بدّ منها في أية حرب) لا معرفة بحث وتقصّ. الطرف نفسه الذي جزم بأن مجزرة المستشفى المعمداني، تمّت بفعل صاروخ فلسطيني، بعد يوم من وقوعها، وذلك بناء على إفادة "الاستخبارات الأميركية" بذلك، يحتاج وقتا للتأكّد من صدقيّة أرقام القتلى الذين تنقل شاشات العالم صور مقتلتهم. الكلمات تكذب، لكنّ الصور لا تكذب. يفترض بذلك أن يكون بداهة أخرى، لكنّها في رواية ما يحدث في غزة، لا تعود جوهرية. الصور أيضا موضع تشكيك. وفي المواجهة المستعرة حول "الحقيقة" و"الحق"، لم يتوان إسرائيليون وأميركيون عن الزعم بأن الفلسطينيين يفبركون الصور والفيديوهات لخداع العالم واستجرار التعاطف الدوليّ.

لا يستطيع القتلى أن ينهضوا ويقدّموا شهادة عن مقتلهم. أجسادهم الممزقة هي شهادتهم الوحيدة. أرى صحافيا يتحسّس وجه ابنه المراهق الذي تبدّلت ملامحه في الموت. الدم يملأ الوجه. لكنّ الرجل يتحسّس الوجه، لا نعرف إن كان وداعا، أم محاولة لإيقاظ الميت. الكاميرا لا تستطيع أن تنقل ما تحمله هذه اللحظة من دلالات. الموت صدمة، حتى إن وقع لكبار السنّ، بسبب الشيخوخة أم المرض. وحين يحدث بفعل القتل، فإنه يصبح صدمة تتجاوز المعاني والصور كافة. الجسد المقتول لا يحتاج إلى قول المزيد. كل ما يجب قوله قيل. الجسد القتيل ليس شهادة إضافية على شيء. يد الأب على الوجه الميت، شهادة لا يمكن دحضها. إنها التجسيد الكامل للجريمة. وعلى عكس الجسد الميت، فإنها تظلّ تروي قصتها طويلا بعد مواراة الجسد التراب.

أرى شابا يحتضن كتلة بيضاء ضخمة. لن تحتاج وقتا طويلا لتدرك أنه كفن يضم عائلة كاملة. يعرف الشاب أنه وداع أخير، فيحاول أن يطيل أمده قدر الإمكان. يبسط جسده فوق الكتلة البيضاء في احتضان لا تستطيع مخيلة بشرية ابتكاره

أرى شابا يحتضن كتلة بيضاء ضخمة. لن تحتاج وقتا طويلا لتدرك أنه كفن يضم عائلة كاملة. يعرف الشاب أنه وداع أخير، فيحاول أن يطيل أمده قدر الإمكان. يبسط جسده فوق الكتلة البيضاء في احتضان لا تستطيع مخيلة بشرية ابتكاره. القتلى الذين ما عادوا يتألمون، ولا يفزعون، سيوارون الثرى في النهاية، ربما في مقبرة جماعية أخرى، لكنّ الجسد المحتضِن سيظلّ معلقا في الهواء.

أرى وجه طفل دام. يبدو أن الطفل يحدّق في المطلق. لا جثّة هنا. الجريمة ترتسم في خطوط الدم وفي الندوب التي تملأ الوجه. رواية الوجه لا تحتاج إلى أدلّة. النظرات دليل نفسها بقدر ما هي حجّة لا تردّ على بؤس العالم. كما الجسد الذي سيبقى معلقا في الهواء، بعد غياب الكفن، فتلك النظرات ستظلّ معلقة في الهواء بعد انتهاء كلّ شيء. ما يرويه هذا الوجه، ومثله مئات الوجوه، ليس فظاعة الحرب، ولا صدمة القتل، بل إنه يروي شيئا عن العالم نفسه في لحظته القاتمة هذه: لا كرامة للإنسان على هذه الأرض. لا تعود القضية من فعل ماذا بمن، ولا من كان البادئ، السردية التاريخية برمتها، تصبح بلا قيمة. الوجه يروي فشلا أعمق بكثير، ومفارقة النظرات أنها تمضي مباشرة صوب المستقبل، ولا تعبأ كثيرا بالتواريخ.

أرى طفلا يمسك يد أخته الصغيرة. لم يبق لهما سوى واحدهما الآخر، بعد مقتل جميع أفراد العائلة. اليتم ليس كلّ شيء ترويه الصورة. الصورة تروي العراء أولا وأخيرا. هذا العراء أيضا شهادة لا تردّ، وبعد أن ينتهي كلّ  شيء، بعد أن تنتهي الحرب، سواء تضاعفت أعداد الجثث أم لم تتضاعف، فإن هذا العراء سيبقى أيضا معلقا في الهواء. هذا عراء لا يموت. إنه عراء ما بعد الموت، ما بعد الخراب. قل إنها فلسطين العارية منذ عقود وعقود. قل إنه الإنسان الفلسطيني المتروك في العراء. قل إنها الطفولة المنتهكة القتيلة. قل ما تريد. لكن الصورة تقول أكثر من ذلك. إنها شهادة على عراء العالم. وهذان الطفلان العاريان وسط خرائب غزة، هما شهادة لا تدحض على خواء مطلق يظلّ عالقا كرائحة قذرة على جسد العالم وضميره.

ربما تكون الصورة شهادة على عبثية العالم، لكنها على سكونها الكامل، أكثر من ذلك، إنها صرخة مدوية ضدّ ظلم العالم. هذه الصرخة أيضا ستبقى بعد أن ينتهي كلّ شيء

أرى رجلا يحمل طفله الرضيع القتيل. كتلة الجسد واحدة. وكان لهذا المشهد أن يكون في أيّ يوم أو مساء. لكنّ الطفل لا يبكي، ولا يضحك. الطفل كتلة ميتة. وإذ يحتضنه الأب بهذه الطريقة الاعتيادية، كأننا في أيّ  يوم عادي آخر، فكأنه ينكر موته، كأنه يستعدّ لوضعه في السرير. هذا الجسد الصغير أيضا سيوارى الثرى. لكنّ اليدين اللتين تحتضنانه، ستظلان تحتضنان جسدا معلقا في الهواء. الطفل رحل. ومثله آلاف الأطفال. لكنّ مطرحه في موضع الحضن، لن يرحل. ربما تكون الصورة شهادة على عبثية العالم، لكنها على سكونها الكامل، أكثر من ذلك، إنها صرخة مدوية ضدّ ظلم العالم. هذه الصرخة أيضا ستبقى بعد أن ينتهي كلّ شيء.

font change