ليلى بعلبكي: أوّل روائيّة عربيّة تصرخ بحرّية المرأة

اختارت الصمت بعد حملات عنيفة ضدّها

ليلى بعلبكي

ليلى بعلبكي: أوّل روائيّة عربيّة تصرخ بحرّية المرأة

وصف الشاعر الفرنسي بول كلوديل الشاعر الكبير رامبو الذي أنهى في العشرينات تجربته الشعريّة الرائدة، بعدما عاش حياة بوهيميّة، تمرّد فيها على التقاليد السائدة بـ"الزائر المرموق". ويمكن القول إنّ التسمية تجوز على الروائيّة الراحلة ليلى بعلبكي، التي، بعد روايتين ومجموعة قصصيّة، توقّفت عن الكتابة، ثمّ وعند اندلاع الحرب في لبنان 1975، هاجرت إلى لندن، بعد زواجها، وبقيت هناك.

لم يخلف رامبو بعد ترحله إلى البلاد الواسعة، ضوضاء، أو ثورة اجتماعيّة، لكن ليلى بعلبكي، فجّرت ثورتها "النسويّة" (وهي الأولى في العالم العربي)، في أعمال ثلاثة "أنا أحيا"، و"الآلهة الممسوخة"، و"سفينة حنان إلى القمر". أقلعت سفينتها الرياديّة إلى الصمت، الصمت بعد العاصفة.

ما بين 1950 و1960 اندلعت ثورات أدبيّة، وشعريّة عربيّة، وبرزت في دواوين شعريّة أو مجلات ثقافيّة مثل "شعر" و"الآداب"، حاولت تفجير الشكل الشعري والأدبي، جسّدها عدد من الشعراء، ولكن غلب على هذه الصرخات التمرّد الشكلي والبنيوي من إيحاءات السورياليّة وسواها.

وحدها ليلى بعلبكي، خاضت في أول تفتحاتها معركة التمرّد على الذكوريّة، والعادات البالية والتقاليد، إنّما بلغة بسيطة، حيّة، سرديّتها بلا إشكالات، ومناخها مواجهة المضمون الركيك، ومواجهة المجتمع

لكن الرواية في تلك المرحلة لم تعرف مثل هذه القفزات، بل كان يمكن أن نجدها عند بعض المفكرين والمناضلات اللواتي يطالبن بحقوق المرأة، ضمن الحدود "التجريديّة".

 

معركة التمرّد

في هذه المحاولات التغييريّة وحدها ليلى بعلبكي، خاضت في أول تفتحاتها معركة التمرّد على الذكوريّة، والعادات البالية والتقاليد، إنّما بلغة بسيطة، حيّة، سرديّتها بلا إشكالات، ومناخها مواجهة المضمون الركيك، ومواجهة المجتمع من خلال بطولات نسائيّة، سواء في "أنا أحيا" أو في "سفينة حنان إلى القمر"، فالأدب الذي مارسه الشعراء المجدّدون اقتصر عموما على محاولة تفجير اللغة، أو الخروج على التراث. وهي خاضت التجربة بحواسها (أو رواياتها) منبثقة من الحاسة المشهديّة والمعيشة التي تبني عليها معماريّتها. لا لعب على اللغة، ولا تسجيل أهداف حداثية، بل الحدث المرئي، وما وراءه، هو الذي أرادت نقله، بلغته اليوميّة، وبمفارقاتها، من العائلة التي يسيطر عليها الذكر، إلى مجمل الواقع؛ من دون إعمال جماليّة ما في التركيب السردي، بل بواقعيّة الكلام المباشر، من دون التفريق بين ألفاظ "نابية" ومن دون لياقات في السلوك ضمن الشخصيات العائليّة فيه أو الاجتماعية. إنها ثورة "فجة"، تلقائيّة غاضبة على العفن في الحياة العامة أو الخاصة. إنها الشراسة الأنثويّة التي ملّت الركون في "المحرّمات" اللغويّة، والجسديّة، والسلوكيّة.

ليلى بعلبكي

تحدّت المثقّفين أولّا الذين لم يتجاوزوا مجازات الدورة الشكلانيّة (وإن أحيانا لفظية محدودة). ثورة أصابت اللغة النخبويّة، وكذلك التراكيب النحويّة: اللغة هي ما يصدر عن الحواس، ومن الجسد، ومن الغضب العاري، والاحتقار الحاد. إنّها الثورة التي تواجه الواقع بتعابيره، اليومية، التي تمسخ أحيانا الشخصيات سواء الرجل أو المرأة الخاضعة لتقاليد الأقربين والأبعدين.

 

خروج على البلاغة

هذا بالذات صفع بعض الرؤوس النسويّة والذكوريّة، التي اتّهمتها بضعف القيمة الروائيّة، باعتبارها خرجت على البلاغة المعهودة، وكذلك بضعف الكتابة السرديّة، فهم يريدون بلاغة فارغة أو إنجازات شعريّة شكلانيّة. هي رمت كل ذلك، واخترقت عمق المجازات الاجتماعيّة والعائليّة، المتمثلة بأخلاقيات قائمة على تهتيك المرأة، وإخضاعها، وعنوان "أنا أحيا" ملائم. فالحياة بالنسبة إليها هي الحرّية والخروج من السجن التاريخي، إلى فضاء الكتابة الحيّة. فهي تحيا بقدر ما توسع أفق الحياة، والجسد، والعلاقات السويّة، والمساواة بين الرجل والمرأة. الحياة ليست مصنوعة لتكون وراء أقفاص العادات الموروثة، كأنّما تعيش في الماضي. الحياة هي رصيد الواقع المفتوح على العالم بلا عوائق تفتعلها المجتمعات المغلقة، بلغاتها المصبّرة، وبسلوكيّاتها المأسورة.

لذلك، أخبرتنا ليلى بعلبكي، كما أخبرتنا سيمون بوفوار، أن الرجل عندما يهيمن مسلحا بالطوباويّات الغيبيّة والماديّة، يعني ذلك إلغاء للمرأة، وتحويلها مجرّد إناء يصبّ فيه الرجل كلّ جبروته.

هنا ثورتها في عمق الجرح اليومي والتاريخي وليس في ترتيبات الكلمات فحسب. وهذا بالذات ما جعل بعضهم، وخصوصا بعض النسوة "الحريم" أو "الحرائر"، يرفضن هذا التطاول المزدوج على العائلة السعيدة برأسها الأبوي، وعلى اللغة المعبّرة التي كتبتها كالنار على صفيح، ضاربة فيها الوجوه والعقول بأبشع الصفات، والبذاءة في مثل هذه الحالات تصبح ضربا من ضروب الاحتقار والرفض، لا للعلاقات الاجتماعيّة، بل للغاتها الميّتة، المصبّرة، و"المهذّبة".

وهذا ما ارتكبته صحافيّة يوما هاجمت مجموعتها، متّهمة إيّاها بالإباحيّة وهي تعيد بعض هذه الألفاظ الواردة في الكتاب، معلّقةً: "ملعون هذا الأدب يا شيخة".

 

اغتراب الإنسان

روايتها "أنا أحيا" في العمق وجوديّة المضمون تصوّر اغتراب الإنسان عن ذاته وعن محيطه وتمرّد المرأة على الرجل. والحرّية الجسديّة تكمن بالنسبة إلى بعضهم في إمكان المرأة تحرير جسدها بالمتعة، وألاعيب العشق وبذل الجسم، في حين أن بهاء بطل الرواية يحمل على الرغم من أنه شيوعي، أي مدني وعلماني وتقدّمي، يحمل أفكارا بالية عن المرأة، وتنتهي الرواية بفشلهما. إنها بطلة تتناقض، تعاني الوحدة، والقمع العائلي، تكره والدها وتسخر منه رجلا ذكوريّا وزوجا تاجرا ينتمي إلى طبقة الأثرياء. أمّا الأم فلم توفّرها بدورها من بغضائها. إنها نموذج المرأة التقليديّة التي لا تعرف من الحياة إلا إعداد الطعام وتربية الأبناء ومشاركة الزوج فراشه عندما يقرّر هو، هي امرأة خاضعة للذكر، تشفق عليها وتشمئز منها: "منظر لحم والدتي يثير قرفي منها".

الحملة التي تعرضت لها ليلى بعلبكي، في كتابها الثالث، "سفينة حنان إلى القمر" (1964)، فاقمت الوضع، فقد تعرّضت إلى الهجوم من جهات لبنانيّة وعربيّة، لأفكارها الثوريّة من أجل حرّية المرأة، وكذلك لاحتوائها على مقطع أو جملة موصوفين بالإباحيّة، حُوكمت وأُوقفت وخضعت للتحقيق أمام القضاء اللبناني، وهذه المحاكمة كانت الأولى من نوعها التي يحاكم فيها كاتب لبناني على مضمون كتابه كما قال النائب ومحامي المتّهمة، محسن سليم (والد شهيد الحرّية في لبنان لقمان سليم)، وهذه المسالة أثيرت بسبب تعليق ورد في مجلة "صباح الخير" المصريّة بإمضاء معلّقة اسمها ناديا.

هنا ثورتها في عمق الجرح اليومي والتاريخي وليس في ترتيبات الكلمات فحسب. وهذا بالذات ما جعل بعضهم، وخصوصا بعض النسوة يرفضن هذا التطاول المزدوج على العائلة السعيدة برأسها الأبوي، وعلى اللغة المعبّرة التي كتبتها كالنار على صفيح

لن أعتذر

لكن أثناء المحاكمة صرخت ليلى "لن أعتذر أمام القاضي، أمام هيئة المحكمة، عن الأشياء التي كتبتها والتي أحاكم من أجلها؛ أنا جدّ فخورة بما كتبته. وإنّني اسأل هل العطاء جريمة؟ ذنب؟ خجل؟ إنّني أؤكد وأشعر أن هذه القضية تطاول جميع الأدباء والفنانين. عيب أن أقف أمام المحكمة وأشرح لماذا كتبت: أنا أكتب بحرّيّة للنخبة والمثقفين ذوي الأفكار السامية". بعد هذه المحاكمة أُطلق سراحها، مُحققة أوّل انتصار ثقافي لبناني في حرّية التعبير، وفي فتح الحداثة على واقع المرأة. فلا حداثة من دون حرية المرأة.

لكن الإنجاز الآخر جاء من قِبَل المثقفين، الذين دعموا الكاتبة وأدانوا المحاكمة، ونشرت مجلة "حوار" (كان يرأسها الشاعر توفيق صايغ)، تفاصيل المحاكمة، وشبّهت الصحف قضيّة ليلى بعلبكي بقضيّة مدام بوفاري للروائي الفرنسي فلوبير، و"أزهار الشر" لبودلير و"لوليتا" لنابوكوف.

لكن رأى كثيرون، وعلى الرغم من تبرئتها، أنّ المحاكمة أنهت المرحلة في مسار بعلبكي الأدبي، لأنها عانت كثيرا من ردود الفعل السلبيّة عليها، وكذلك طريقة الاستجواب، وعندما اندلعت الحرب في لبنان عام 1975، هاجرت إلى لندن واعتزلت الكتابة، ورفضت إجراء أيّ حوار صحافي، أي أنها اختارت الصمت بعد الضوضاء، والعائلة بعد التمرّد.

رحلت ليلى بعلبكي بعدما حفّرت عميقا في مسألة حرّية المرأة وخضوعها صرخة للمناخ الذكوري. وكانت أوّل صرخة مدوّية لروائيّة عربيّة تطالب بحرّية المرأة، والثورة على التقاليد.

إنها الزائرة المرموقة، الشهاب الذي لمَعَ لحظة، وانطفأ.

font change

مقالات ذات صلة