معرض يستحضر قرنين من فنون الزجاج والكريستال

تاريخ من الجمال النابع من الحرفة العالية

معرض يستحضر قرنين من فنون الزجاج والكريستال

أبوظبي: عند الحديث عن جماليات الزجاج يمكن ذكر شفافيته التي تسمح للضوء بالمرور بحرية والتمايل مع تشكيلاته المتنوّعة، في حين تتحوّل ألوان ظلاله إلى ألوان تشبه لون الزجاج الأصلي، وأكثر ما تظهر هذه الحالة في الزجاج المعشّق. ربما يكون الأهم من كل هذا، قدرة الزجاج على الاحتفاظ بشكله ونقائه على الرغم من مرور مئات السنين على صنعه.

كل هذه التفاصيل يمكن ملاحظتها بقوة عند زيارة "ماكما آرت غاليري" في أبوظبي، التي يعرض مجموعة من توقيع كبار حرفيّي فن الزجاج والكريستال في القرنين التاسع عشر والعشرين. حول هذا المعرض تقول عليا صفراوي، مؤسسة "ماكما آرت غاليري": "يمثل المعرض ثمرة سنوات من البحث والعمل الدؤوب، إذ كان هدفنا صياغة تجربة تعيد تصور جمالية فن الزجاج والكريستال من منظور معاصر. واستلهاما من بداية نشأتي في عائلة محبة للفن والفنون، أصبح الآن هذا المشروع الشغوف واقعا، يتجلى في مجموعة من القطع المختارة بدقة".

حكايات من زجاج

يمثّل العديد من القطع المعروضة تحولا تاريخيا في صناعة الزجاج، إذ شهدت صناعة فنون الزجاج والكريستال تحولات تبدو جذرية أحيانا عبر أزمان مختلفة، ويشهد فن الكريستال البوهيمي لهذا التاريخ الفني الغني.من وجهة نظر عليا صفراوي، فإن "البراعة اليدوية والتراث الدائمين للكريستال البوهيمي يجعلانه يحظى بتقدير كبير وأهمية في عالم فن الكريستال وتصميمه اليوم. وتظل القطع المعروضة التي تمثل فترات زمنية مختلفة بمثابة أعمال فنية قيمة يمكن اقتناؤها بشكل ملحوظ، وتحظى بالتقدير لجودتها وقيمتها الفنية". وتضيف: "هناك حفاظ على التقاليد في الصناعة، فيمكننا ملاحظة ظهور ورشات جديدة مخصصة لإحياء تقاليد صناعة الكريستال القديمة، في وقت تستمر فيه بيوت الكريستال الراسخة في الازدهار وإبداع قطع فنية رائعة يحتفى بها في جميع أنحاء العالم. وهذا يدل على أن الكريستال والزجاج لهما مستقبل واعد، مع مزيج متناسق بين التقاليد والابتكارات".

 استلهم فنانون من أمثال بروكار وجيه آند إل لوبمير أفكارهم من التقاليد الغنية للفنون الزخرفية الإسلامية، واحتوت أعمالهم الزجاجية على نقوش بالخط الكوفي، أو نقوش كوفية يشير بعضها إلى مقتطفات من القرآن الكريم


يتفرد المعرض بتقديمه قطعا قديمة تعود إلى القرن التاسع عشر لتعبر عن القفزة النوعية في صناعة الكريستال، فهناك مجموعة صممها حرفيون مبدعون من بينهم فيليب جوزيف بروكار، وجيه آند إل لوبمير. فقد استلهم هذان الفنانان أفكارهما من التقاليد الغنية للفنون الزخرفية الإسلامية. وتتميز أقدم القطع التي تستحوذ على إعجاب الشغوفين بالفن، بالجمال والإتقان إلى جانب أهميتها التاريخية، وهذا ما يجعلها قادرة على إحياء التصاميم المعقدة والغنية لمصابيح المساجد وغيرها من المصنوعات اليدوية التي تُذكر بعصر سلاطين المماليك، ويمكن العثور على قطع مماثلة من تلك الفترة في المتاحف الشهيرة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك متحف اللوفر باريس، ومتحف متروبوليتان، والمتحف البريطاني، وغيرها.

عليا صفراوي

تبقى وراء كل قطعة حكاية تلتصق بها، وتختلف الحكايات التي تسرد سيرة مجموعات الأعمال الزجاجية والكريستالية المستوحاة من الطراز الإسلامي، والتي اختيرت ونسقت بعناية. تقول عليا صفراوي: "تشتهر الخزفيات البوهيمية المصنوعة من الكريستال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين ببراعتها الحرفية المتميزة. إذ استخدم الحرفيون المهرة التقنيات التقليدية بما في ذلك القطع والنقش والتذهيب، لإبداع تصميمات معقدة ومفصلة.أما الألوان الغنية والنابضة بالحياة فهي إحدى السمات المميزة للكريستال البوهيمي، بما في ذلك الأحمر الياقوتي العميق والأخضر الزمردي والأزرق الكوبالت والجمشت. هذه الألوان المذهلة تستخلص عبر دمج أكاسيد معدنية مختلفة في خليط الزجاج، مما يؤدّي إلى نقاء الزجاج وتألقه".

أما التصاميم فتتميز، بحسب صفراوي، "بأنها منقوشة ومعقدة ومفصلة، بدءا من الأنماط الهندسية حتى الزخارف الزهرية الدقيقة، لتعمل معا على تعزيز الأناقة الشاملة لكل قطعة، مما يدعم الكريستال البوهيمي المتعدد الاستخدامات ويزيد قدرته على توفير مجموعة واسعة من العناصر الوظيفية والزخرفية، من الأواني الزجاجية حتى المزهريات والأواني والأوعية وأدوات الزينة".

إرث الكريستال

لم يقتصر الإبداع في صناعة الزجاج على منطقة واحدة، وإن كانت بعض الدول قد تقدّمت على غيرها في هذه الصناعة اليدوية، التي ينتمي بعض قطعها إلى أوروبا، إلا أن التركيز الخاص على قطع منطقة بوهيميا، موطن رواد صناعة الزجاج والكريستال، هو ما تطلب العديد من الرحلات التي استهدفت تجميع هذه القطع النادرة في "ماكما آرت غاليري" وسفرا وجهدا كبيرا للعثور على الأدوات التي استخدمت في التصنيع منذ أكثر من قرن مضى واختيارها بدقة كونها لم تعد مستخدمة في عصرنا هذا.

اقرأ أيضا: نجاة مكي: الذكاء الاصطناعي قد يدمّر الفن

تتمتع منطقة بوهيميا، المعروفة اليوم بجمهورية التشيك، بتقاليد غنية وقيمة في صناعة الزجاج والكريستال يعود تاريخها إلى قرون مضت. واكتسبت هذه المنطقة صيتا واسعا في الصناعة، إذ تؤدّي دورا مهما في تاريخ إنتاج الكريستال الأوروبي. كما يتجلّى إرث صناعة الزجاج والكريستال البوهيمي في الأدوات التي استخدمت خلال تلك الفترة، إذ يحمل العديد من القطع بصمة واضحة للحرفية البوهيمية.

وفي أركان "ماكما آرت غاليري"، تتجاور القطع التي تعكس الإبداع البوهيمي مع قطع مستوحاة من الطراز الإسلامي التي زين بعضها بالخط العربي. وهي قطع تعود لأعمال فنانين مثل بروكار ولوبمير ويُعرف تفسيرهما الحيوي لفن الزجاج الفارسي والعثماني القديم باسم "النهضة المملوكية". فاحتوت قطعهما على نقوش بالخط الكوفي، أو في بعض الأحيان، على نقوش كوفية صورية، وتشير هذه النقوش أحيانا إلى مقتطفات من القرآن الكريم أو كلمات تكريمية لأمير مملوكي مشهور. مع ذلك أعطى الفنانان في كثير من الأحيان الأولوية للتصاميم فظهرت الفخامة والحرفية عند اختيار الكلمات المناسبة للنقوش. هذه الازدواجية هي بالتحديد ما جعل هذه القطع استثنائية تشهد على حرفية صناعة الزجاج والكريستال خلال فترة مميزة في تاريخ الفن. وجاءت كما ترى صفراوي "بمثابة الجسر الثقافي الممتد بين الشرق والغرب".

اقرأ أيضا: نيكولا أزنمان: تطهير الواقع من زيف السياسي

تمثّل هذه المجموعات في النهاية أعمالا فنية قائمة بذاتها، خاصة أنها ولدت نتيجة حرفية عالية تشبّعت بالتفاصيل، وساعد في هذه الدقة استخدام الحرفيين مواد عالية الجودة، وهذا ما أكسبها النقاء والتوهج الاستثنائيين. 

تشارك "ماكما آرت غاليري" بمعرض "حكايات قصر الحمراء" في رحلة إلى القرن التاسع عشر الذي يحتوي على مزهريات قصر الحمراء في غرناطة التي صنعها خبراء الزجاج والكريستال البوهيمي، مستوحاة من المزهريات النصرية

أخيرا، لن تقتصر عروض "ماكما آرت غاليري" على أبوظبي، بل هناك مشاركة في معرض "داون تاون ديزاين" المقام من 8 إلى 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 في تراس الواجهة البحرية في حي دبي للتصميم. وهو معرض متخصص في جودة التصاميم في منطقة الشرق الأوسط يجمع المجتمع الفني من كل أنحاء المنطقة في مكان واحد. بعده، معرضان ضمن جدول أعمال الغاليري، الأول "إحياء الياقوت الأحمر" يجمع روائع الزجاج والكريستال التي أبدعها الفنانون البوهيميون. ومن بين جميع الألوان الغنية في عالم فن الكريستال، يبرز اللون الأحمر الياقوتي باعتباره واحدا من أكثر الألوان لفتا وجاذبية. كما تسمح صفاته النابضة بالحياة والغنية والنقية، لأشعة الضوء بالمرور بطريقة تعزّز رونقه وتخلق العمق الحسي والتعقيد. تذكر صفراوي: "يعد الحصول على هذا اللون الأحمر الزاهي عملية معقدة، تتضمن استخدام كميات صغيرة من كلوريد الذهب، وهي تقنية استخدمت لقرون عدة. وتزيّن هذه القطع بعد ذلك بمناظر الحياة البرية الساحرة وأوراق الشجر الرقيقة، وهي ممارسة تاريخية لا تزال تبهر عشاق الفن إلى يومنا هذا".

أما "حكايات قصر الحمراء" في رحلة إلى القرن التاسع عشر، فهو معرض سيحتوي على مزهريات قصر الحمراء التي صنعها خبراء الزجاج والكريستال البوهيمي، مستوحاة من المزهريات النصرية التي صُمّمت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر لقصر الحمراء في غرناطة، إسبانيا. وتشتهر هذه المزهريات بحضورها الفخم وزخارفها المعقدة ومقابضها المميزة الكبيرة المسطحة التي تشبه الأجنحة، وهي تكريم للتاريخ والفنون.

font change

مقالات ذات صلة