توحيد البيشمركة... الطريق الطويل لتجاوز إرث حرب "الإخوة الأعداء"

خلافات سياسية تعترض عملية الإدماج

توحيد البيشمركة... الطريق الطويل لتجاوز إرث حرب "الإخوة الأعداء"

تضاعفت طوال الشهور الماضية الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية على إقليم كردستان العراق، من مختلف الجهات، الداخلية والخارجية. حتى وصل الأمر ببعض المراقبين وقادة الرأي العام في الإقليم إلى التحذير من إمكانية "تفكك الإقليم" وانتهاء تجربته الفيدرالية، وعودة السلطة العراقية إلى حُكمه مركزيا؛ ما لم تتوحد القوى السياسية في الإقليم، وتتوافق على استراتيجية سياسية وأمنية وعسكرية وإدارية واضحة لمواجهة هذه الضغوط، مبنية على تصفية مختلف أوجه الانفصام الداخلي.

يشكل ملف توحيد قوات البيشمركة الكردية، المُقسمة فعليا بين الحزبين الرئيسين الحاكمين للإقليم، الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، واحدا من أهم القضايا التي يتطلع الرأي العام في الإقليم إلى إنجازها في أقرب وقت، حسب الخطة المرسومة من قِبل قوى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، والتي قدمتها على شكل خطة تفصيلية منذ أواخر عام 2018، وتتوقع إتمام بنودها قبل نهاية عام 2026. لكن الخلافات السياسية بين الحزبين، وزيادة الاستقطاب بين القادة السياسيين، خصوصا خلال العامين الأخيرين، تُشير إلى إمكانية تأخر هذه الخطة المتوافق عليها بين قوى التحالف وحكومة الإقليم، أو حتى إمكانية توقفها تماما.

شغلت قوات البيشمركة طوال السنوات الماضية مكانة ودورا بارزين في تمتين علاقات إقليم كردستان مع الأطراف الرئيسة في المجتمع الدولي، خصوصا أثناء وبعد مرحلة "الحرب ضد الإرهاب"، حيث أدت البيشمركة أدوارا رئيسة فيها. كذلك كانت أداة لحماية الإقليم فعليا من أغلب تبعات الصراعات الداخلية في العراق، من الحرب الأهلية والصراع الطائفي، وصولا لانتشار العمليات الإرهابية وسيطرة تنظيم داعش على مناطق شاسعة من العراق. ولأجل ذلك يربط المراقبون بين "سلامة واستمرار الإقليم" ونجاح مشروع توحيد قوات البيشمركة.

اقرأ أيضا: سنجار... عقدة الحدود والنفوذ

الحزبان الرئيسيان، الاتحاد الوطني، والديمقراطي الكردستاني، دخلا في حرب أهلية/ حزبية، طوال الأعوام 1994-1996، تفككت بموجها قوات البيشمركة

إرث حرب الإخوة

راهنا، صحيح ثمة وزارة واحدة خاصة بقوات البيشمركة ضمن حكومة إقليم كردستان، لكن الهيئات الإدارية والهياكل القيادية ضمن الوزارة منقسمة عموديا إلى حيزين مستقلين عن بعضهما البعض فعليا؛ فالوزارة منقسمة فعليا إلى الوحدتين 70 و80، تتبع الأولى الاتحاد الوطني الكردستاني وخاضعة لنفوذه، ومنتشرة في محافظتي حلبجة والسليمانية، فيما تتبع الوحدة الثانية الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتنتشر في محافظتي أربيل ودهوك.

للوحدتين العسكريتين هياكل واستطالات تنفيذية مستقلة عن بعضها بشكل شبه تام، أجهزة أمنية ووحدات استخباراتية وأفواج خاصة بمكافحة الإرهاب وحراسات عامة محددة، ومعها إدارات للتموين والتقاعد، خاصة بكل واحدة منهما، وإلى جانبها أعراف ورموز عسكرية، شبكة علاقات وروابط سياسية مختلفة، وطبعا ولاءات وعقائد عسكرية وآيديولوجية متباينة إلى حد كبير.

تأسس الوضع الراهن واستمر منذ أواسط التسعينات من القرن الماضي. فبعدما كانت مختلف الأحزاب الكردية/ العراقية قد وحدت قواها المسلحة عقب حصولها على منطقة للحُكم الذاتي عام 1991، فإن الحزبين الرئيسين، الاتحاد الوطني، والديمقراطي الكردستاني، دخلا في حرب أهلية/ حزبية طوال الأعوام 1994-1996، تفككت بموجها قوات البيشمركة إلى تشكيلين منفصمين عن بعضهما البعض تماما، وتقاسم الحزبان الرئيسان مناطق النفوذ ضمن الإقليم، واستمر الوضع كذلك فعليا منذ ذلك الوقت.

عادت حكومة الإقليم الواحدة إلى إدارة كامل الإقليم اعتبارا من عام 2003، خصوصا بعد أن تأسس كردستان بوصفه إقليما فيدراليا ضمن العراق بعد عام 2005، ونجحت خلال سنوات طويلة في توحيد كثير من الوزارات والإدارات التي كانت منقسمة، وعلى رأسها التربية والمالية والقضاء والجامعات. لكن إدماج وحدتي البيشمركة، وكل ما يلحق بهما من أجهزة أمنية ووحدات إدارية ومؤسسات إنتاجية، كانت الأكثر صعوبة بالنسبة لحكومة الإقليم، على الرغم من كل الحوافز والضغوط التي مارستها دول كثيرة، ومعها دعوات مستمرة من المجتمع المحلي الكردي في الإقليم.

AFP
قوات البشمركة الكردية العراقية يحضرون تجمعا للاحتفال بالعام الجديد في مخمور، على بعد حوالي 280 كيلومترا شمال العاصمة بغداد، في 31 ديسمبر 2017

في أواخر عام 2018، وعقب انتهاء العمليات العسكرية الرئيسة في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي، تقدمت كل من الولايات المتحدة الأميركية، والمملكة المتحدة، وألمانيا، بمشروع برنامج لتوحيد مؤسسات وقوات البيشمركة في إقليم كردستان العراق.

المشروع المُقدم كان يتألف من 35 بندا، وحصل على موافقة حكومة إقليم كردستان، وجرى الاتفاق على أن تكون مُدة تنفيذه 6 سنوات، لكنه مُدد ليكون ثماني سنوات فيما بعد، ينتهي قبل أواخر عام 2026، ويحقق في المحصلة "إعادة هيكلة قوات البيشمركة، وإصلاحه بصورة شاملة، جعلها بقيادة واحدة، مع إضفاء طابع مؤسساتي على مختلف وحداتها ومجالات فعلها".

يعترف الدستور العراقي بقوات البيشمركة، بوصفها "جزءا من منظومة الدفاع الوطني الخاصة بإقليم كردستان". لكنها فعليا لا تتلقى أي تمويل أو تسليح أو تدريب من الحكومة المركزية العراقية، كما تفعل وتستخدم بند "المصاريف السيادية" من الميزانية، لصالح الجيش والأجهزة الأمنية العراقية، وحتى فصائل الحشد الشعبي؛ فقوات البيشمركة لا تملك إلا أسلحة خفيفة ومتوسطة، وليس لديها أية منظومة للحماية الجوية أو الردع الاستراتيجي، ولأجل ذلك يتعرض إقليم كردستان طوال السنوات الماضية لأنواع من الضغوط الأمنية والعسكرية، بما في ذلك عمليات قصف من قِبل وحدات وجهات متمركزة في مناطق سيطرة فصائل الحشد الشعبي.

لا توجد إحصاءات رسمية لأعداد قوات البيشمركة في إقليم كردستان، لكن المؤشرات وبعض تصريحات مسؤولي الإقليم تقول إن أعدادها تتراوح بين 150-200 ألف مقاتل، بعضهم أعضاء في الوحدات المشتركة مع الجيش العراقي، مثل أفواج حراسة الحدود، والألوية المشتركة في المناطق المتنازع عليها في محافظتي نينوى (الموصل)، وكركوك. وثمة عدة آلاف من قوات البيشمركة متمركزة في العاصمة بغداد، في لواء "الحرس الرئاسي".

اقرأ أيضا: "المجلة" في الموصل... ترصد بصمات "داعش" وتأهيل المدينة

هناك خلاف حاد بينهما بشأن طريقة التعامل والرد على فصائل الحشد الشعبي والجيش العراقي عقب إعادة سيطرتها على محافظة كركوك أواخر عام 2017

وحسب المعلومات التي تصدرها دائرة الإعلام والمعلومات في حكومة إقليم كردستان، فقد جرى حتى الآن توحيد ودمج 28 لواء من قوات البيشمركة، وصارت تابعة وتأخذ أوامرها مباشرة من وزير البيشمركة والقادة الميدانيين المباشرين المشتركين لقوات البشمركة. وحصل ذلك بعدما أعلن رئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني أواسط شهر أغسطس/آب الماضي ضم ثلاثة ألوية أخرى من الوحدة 70 من قوات البيشمركة إلى التشكيلات والألوية الموحدة في الوزارة.

وحسب عملية حسابية تفصيلية، وبناء على التعداد الوسطي لأعداد كل لواء من وحدات البيشمركة، البالغ قرابة 2000 جندي في كل لواء، فإن التعداد الكلي للوحدات المشتركة تبلغ راهنا قرابة 60 ألف عنصر، يشكلون قُرابة ثُلث الأعداد الكلية لقوات البيشمركة. وتاليا فإن عملية الإدماج حققت حتى الآن أقل من نصف مهامها، على الرغم من مرور خمس سنوات من أصل ثماني سنوات من برنامجها المرحلي التفصيلي.

خلافات سياسية تعترض عملية الإدماج

لا تسير عملية "إعادة هيكلة قوات البيشمركة" بوتيرة واحدة، فغالبا ما تخضع وتيرتها، وحتى إمكانية سيرها، لطبيعة العلاقات بين الحزبين الرئيسين، التي تدهورت بدورها بشكل كثيف خلال العامين الماضيين.

فبعد اتفاق استراتيجي بين الطرفين، استمر طوال الأعوام 2005-2017، جاء الخلاف الحاد بينهما بشأن طريقة التعامل والرد على فصائل الحشد الشعبي والجيش العراقي عقب إعادة سيطرتها على محافظة كركوك أواخر عام 2017.

وقد تفاءل المراقبون، حينما لم تصل الخلافات السياسية بين الحزبين وقتئذ إلى مستوى الصِدام العسكري أواخر عام 2017. لكن الطرفين عادا ودخلا مواجهة سياسية عقب انتخابات عام 2018، حينما لم يتوافقا على مرشح واحد لمنصب رئاسة الجمهورية، فرشح الاتحاد الوطني الكردستاني الدكتور برهم صالح، فيما كان وزير الخارجية الحالي فؤاد حسين مرشح الديمقراطي الكردستاني.

لقد تضاعفت الخلافات الداخلية بين الطرفين منذ أوائل عام 2022، وأثرت على وتيرة العمل المشترك بينهما، بما في ذلك عمليات إدماج قوات البيشمركة؛ فمع صعود الجيل الجديد لقيادة الاتحاد الوطني الكردستاني، ودخول الاتحاد في تحالفات سياسية مخالفة تماما لما للحزب الديمقراطي الكردستاني في الداخل العراقي، ورفع قيادة الاتحاد الوطني من خطاباتها الرافضة لما سمته "تفاوت التنمية وتوزيع الموارد بين مختلف مناطق الإقليم"، وصولا للتباين بشأن قانون الانتخابات وتوزيع مقاعد "الأقليات القومية" في برلمان إقليم كردستان، ما أوصل المواجهة بين الطرفين إلى ذروتها.

AFP
نساء في قوات البيشمركة العراقية الكردية يشاركون في حفل تخرج في أربيل، في 15 يناير 2023

إن تصاعد الخلاف بين الحزبين دفع نائب رئيس وزراء الإقليم، والقيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، قوباد طالباني، لأن يطلب من وزير البيشمركة، والقيادي الآخر في الاتحاد الوطني شورش إسماعيل، "عدم مباشرة عمله كوزير"، وأوقف معه وكيل وزارة الداخلية في الإقليم، جتو صالح. في ذلك الوقت نفسه، كانت أخبار متقاطعة تشير إلى تحذيرات واضحة من الولايات المتحدة لقيادة الحزبين، وتنبيهها من أن توقف عمليات توحيد قوات البيشمركة، وتصاعد الخلافات السياسية إلى حدود القطيعة وانقسام الإقليم أمنيا وعسكريا إلى منطقتين منفصلتين قد يعيق عمليات الدعم والرعاية التي تقدمها قوى التحالف الدولي لقوات البيشمركة، ويُمكن أن تؤثر على استقرار الإقليم وهويته السياسية.

اللواء بختيار محمد صديق، الأمين العام لوزارة البيشمركة في إقليم كردستان العراق، شرح في حديث مع "المجلة" التفاصيل والأجواء الداخلية في عملية توحيد قوات البيشمركة، قائلا: "الأساس الذي تسير عليه الأمور راهنا هو التوافق على هوية المشروع والسير حسب الخطة المرسومة والمسندة بمذكرة تفاهم بين وزارة البيشمركة ووزارة الدفاع الأميركية. لكن آليات التنفيذ تختلف عما هو مرسوم ورقيا، فالخطوات المتخذة والمنفذة أقل مما كان يجب تنفيذه حسب البرنامج الزمني، وذلك بسبب الخلافات السياسية الداخلية الحادة، ومسألة الميزانية؛ فحكومة إقليم كردستاني تعاني من غياب السيولة، وثمة خلاف مالي شديد مع العاصمة بغداد".

يتابع اللواء بختيار محمد صديق حديثه "غياب وزير البيشمركة عن أداء وظائفه الاعتيادية عامل آخر أثر على سير العملية. فقد كان طوال السنوات الأولى الراعي والمراقب لاستراتيجية التوحيد وإرادته. وبغيابه تم اتخاذ كثير من الخطوات والقرارات التي قد لا تتطابق وليست في صالح إيجابية الأجواء. بدليل الملاحظات والإرشادات التي نتلقاها من أعضاء التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، بعد كل صدور لتقارير التقييم الفصلية والسنوية؛ فقوى التحالف الدولي لا تزال في مرحلة التشجيع والتحذير من العواقب، ولم تتخذ أية (عقوبات) بسبب التعثر في تنفيذ المخطط الكلي. كل ذلك يُضاف إلى تأثيرات التدخلات الإقليمية في هذا الملف. فمثل باقي القضايا السياسية والاقتصادية، ثمة دول إقليمية لا ترغب بوضوح أن ترى (البيت الكردي) موحدا، بالذات أمنيا وعسكريا".  

ثمة أبعاد شخصية وحساسيات بين القيادات المناطقية لقوات البيشمركة نفسها

المعلومات التفصيلية بشأن نوعية الخلافات الراهنة بين الطرفين، تقول إنها معقدة للغاية ومستعصية على أي حل مباشر وسريع؛ فإلى جانب التنازع بشأن الملفات الاقتصادية والعلاقات السياسية الاستراتيجية مع باقي القوى السياسية العراقية والدول الإقليمية، ثمة أبعاد شخصية وحساسيات بين القيادات المناطقية لقوات البيشمركة نفسها. هذه الخلافات التي دفعت الولايات المتحدة لأن تتدخل عن طريق القادة الميدانيين للتحالف الدولي في كل من سوريا والعراق، بغية تخفيف التوتر بين الطرفين.

وعلى الرغم من توفر الإرادة السياسية المشتركة للحزبين الحاكمين لتوحيد قوات البيشمركة، إلا أن التفاصيل تعوق ذلك. فمثلا، وفي وقت يطالب فيه الاتحاد الوطني الكردستاني بأن تكون المناصب القيادية والميدانية لقوات البيشمركة المشتركة/ الموحدة مناصفة بين الحزبين، فإن الحزب الديمقراطي الكردستاني يعرض لأن تكون نسبة 57 في المئة من تلك المناصب من حصته، والباقي من حصة الاتحاد الوطني. وذلك حسب النسبة السكانية لكل من مناطق نفوذ الطرفين، وتبعا لتفاوت الشعبية والتمثيل بينهما، حسبما تُظهر نتائج الانتخابات البرلمانية والمحلية في الإقليم.

كذلك ثمة خلاف واستعصاء في إمكانية توحيد الأجهزة الأمنية، الأكثر حساسية وفاعلية في الحياة العامة الداخلية في الإقليم، ومعها الألوية الخاصة التابعة والمرتبطة بزعامة الحزبين؛ فغياب الثقة وتراكم الخلافات وإرث الذاكرة المشتركة وعدم كفاية رعاية وضغوط الدول المشرفة على المشروع، كلها عوامل مؤثرة على تباطؤ عمليات التوحيد، وربما توقفها وانعكاسها في أية لحظة.

font change

مقالات ذات صلة