تركيا و"العمال الكردستاني"... مرحلة "كسر العظم"

قصف تركي شمال غربي العراق وشمال شرقي سوريا

أ ف ب
أ ف ب
رجل على دراجة نارية قرب منشأة نفط في شمال شرقي سوريا، قصفتها مسيرة تركية الخميس 5 اكتوبر

تركيا و"العمال الكردستاني"... مرحلة "كسر العظم"

قصفت تركيا بطائرات مُسيرة، مجموعة من الأهداف العسكرية والمدنية في منطقة شمال شرق سوريا، المحكومة من قِبل قوات سوريا الديمقراطية "قسد". الضربات جاءت عقب ساعات من إعلان وزارة الدفاع التركية استهداف 20 موقعا لمقاتلي حزب العمال الكردستاني (PKK) في المناطق الحدودية بين تركيا وإقليم كردستان العراق، رداً على "الهجوم الانتحاري ضد مديرية الأمن العام" في العاصمة التركية أنقرة قبل عدة أيام والذي تبناه حزب العمال الكردستاني صراحة.

الضربات الجوية أنذرت بإمكانية توسع المواجهات العسكرية بين الطرفين، سواء داخل تركيا أو خارجها، التي قد تخلق مزيداً من الضغوط على الأوضاع الأمنية والسياسية في كُل من سوريا والعراق، إلى جانب تركيا نفسها.

في التفاصيل، ذكر شهود عيان اتصلت بهم "المجلة"، إن اطائرات تركية قصفت منشآت وحقولاً نفطية في قرية "كرداهول" في أقصى شمال شرق سوريا، ومحطة "آل قوس" الكهربائية بالقرب منها، وهي تزود أكثر من 20 بالمائة من سكان منطقة شمال شرق سوريا بالكهرباء. كذلك استهدفت مواقع مدنية/عسكرية في منطقتي المشيرفة والرحبة الصناعية بالقرب من مخيم للاجئين شمال مدينة الحسكة، وشملت عمليات القصف أيضاً نقاط تمركز عسكرية في بلدات عامودا والجوادية "جل آغا" ومحطة مياه "الحمة"، وسيارات عسكرية ودوريات راجلة لقوات سوريا الديمقراطية في بلدات تربسبية وتل تمر. ثم عادت الطائرات التركية ودمرت خمس محطات لإنتاج الطاقة الكهربائية ومراكز التغذية المحيطة بمدينة القامشلي.

طائرات تركية قصفت منشآت وحقولاً نفطية ومحطة كهربائية تزود أكثر من 20 بالمائة من سكان منطقة شمال شرق سوريا بالكهرباء

قبل القصف بساعات قليلة، أكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان نية بلاده استهداف جميع النقاط العسكرية ومرافق البنية التحتية لكل من حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب (YPG) في العراق وسوريا، النواة الرئيسية لقوات سوريا الديمقراطية. وإلى جانبها كل نقاط انتاج الطاقة والنفط، مصنفاً إيها كـ"أهداف عسكرية مشروعة". الوزير التركي قال إن ذلك سيحدث لأن منفذي هجوم أنقرة "تلقيا التدريب في شمال شرق سوريا، وانتقلا من هناك إلى تركيا".


نفي مطلق


رئيس "حزب الاتحاد الديمقراطي" السوري صالح مُسلم نفى تلك الاتهامات التركية جملة وتفصيلاً، وشرح مُسلم في حديث خاص مع "المجلة" ما يعتقد أنها الاستراتيجية المركزية والمستمرة من قِبل تركيا منذ سنوات، وتتقصد الإطاحة بمشروع الإدارة الذاتية في مناطق شمال سوريا. وقال "الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التركية تعرف تماماً عدم وجود أي رابط بيننا وبين العملية الأخيرة في أنقرة، التي هي جزء من الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، وليس من علاقة لنا بالعمال الكردستاني خلا بعض التفاصيل الإيديولوجية فحسب. وجميع الجهات الدولية والإقليمية الفاعلة في الملف السوري تعرف ذلك أيضا، ولم تقدم تركيا أية دلائل أو معطيات تثبت العكس". 

AP
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان


مُسلم أردف في حديثه مع "المجلة" أن "الهجمات الأخيرة تستهدف البنية التحتية، وكامل دورة الحياة العامة والنظام الاقتصادي والبيئي في المنطقة. لأنها تحصل عقب فشل الكثير من الاستراتيجيات السابقة التي اتبعتها تركيا للقضاء على هذه التجربة، سواء محاولة الاجتياح البري في أوائل العام الجاري، أو عبر محاولة إثارة الفتنة القومية والمناطقية، أثناء أحداث محافظة دير الزور الأخيرة، ولأجل ذلك تحاول تصدير مشاكلها الداخلية إلى خارج الحدود، عبر تحطيم كل ما هو متاح في منطقة شمال شرق سوريا، لأنها تعتبر هذه المنطقة الأضعف والأقل قدرة على الرد". 
مُسلم وجه انتقادات للنظام السوري، معتبراً إياه صامتاً، على الأقل، عما يجري بحق السوريين في هذه المنطقة منذ ثمان سنوات، جراء عمليات القصف الجوي التركية، ومشاركا ومستفيدا فعليا منها. فالنظام السوري -حسب مُسلم- يستطيع تحويل هذه القضية إلى مجلس الأمن الدولي لو أراد، فالمستهدفون الفعليون هُم السكان المحليون السوريون، وليس قوات سوريا الديمقراطية فحسب، وإلى جانبهم العشرات من جنود النظام السوري نفسه، الذي سقطوا جراء الهجمات التركية أو الجماعات المسلحة المرتبطة بها على مناطق شمال شرق سوريا خلال الشهور الماضية.
تصريحات وزير الخارجية التركي لاقت "استنكاراً" واسعا من قِبل الرأي العام في منطقة شمال شرق سوريا، بالذات على وسائل التواصل الاجتماعي، التي طالبت بالحماية الدولية عبر فرض منطقة حظر جوي فوق المنطقة، مذكرين بالوضوح الذي عبر فيه وزير الخارجية عن استراتيجية بلاده في تدمير البنية الخدمية والاقتصادية للمنطقة، مصنفين إياها كـ"إبادة جماعية". 

"الهجمات الأخيرة تستهدف البنية التحتية، وكامل دورة الحياة العامة والنظام الاقتصادي والبيئي في المنطقة. لأنها تحصل عقب فشل الكثير من الاستراتيجيات السابقة التي اتبعتها تركيا للقضاء على هذه التجربة"

صالح مسلم رئيس "حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي

تزامنت عمليات القصف بهجوم على حفل أقيم في الكلية الحربية في محافظة حمص السورية، كان مخصصاً لتخريج دفعة جديدة من ضباط الجيش السوري، بحضور وزير الدفاع السوري. قال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن 19 عسكرياً ومدنياً راحوا ضحية التفجير، إلى جانب 112 جريحاً. وزارة الدفاع السورية اتهمت من اسمتهم "تنظيمات إرهابية مدعومة من أطراف دولية" بتنفيذ العملية، عبر "مُسيرات تحمل ذخائر متفجرة"، ما دفع بعض المراقبين إلى إمكانية الربط بينها وبين هجمات الطائرات المُسيرة التركية على مناطق شمال شرق سوريا. 
كذلك نقلت الوكالات وصفحات التواصل الاجتماعي المحلية صوراً ومقاطع مصورة لطائرة مُسيرة محترقة آيلة للسقوط، قالوا إنها لمُسيرة تركية اُسقطت من قِبل قوات التحالف الدولي المنتشرة في عدة معسكرات شمال شرق سوريا، فيما ظهرت صورٌ أخرى لحُطام الطائرة وقد تجمع الأهالي حولها. 


أربع محطات في الصراع


التصعيد العسكري الحالي يأتي بعد أربع تحولات رئيسية شهدها الصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني خلال الشهور الأخيرة، وصل التموضع فيما بينهما نتيجة تلك التحولات إلى أشد حالاتها استقطاباً. كما يشرح الباحث في مركز الفرات للدراسات الدكتور وليد جليلي في حديث مع "المجلة". 

Reuters


ففي أواخر العام الماضي، اتهمت تركيا "العمال الكردستاني" بالوقوف خلف التفجير الذي حدث في ساحة تقسيم وسط مدينة اسطنبول التركية، وهو الأمر الذي نفاه العمال الكردستاني بشكل مطلق. لكن تركيا بدأت سلسلة من الهجمات الجوية واشكال الاجتياح البري لمناطق من إقليم كردستان العراق، لاستهداف مقاتلي العمال الكردستاني المتمركزين هناك، وهددت بتنفيذ اجتياح بري لكامل مناطق شمال شرق سوريا. لكن حدوث الزلزال الكبير في تركيا في فبراير/ شباط من العام الجاري، أرجأ العملية البرية، ودفع العمال الكردستاني الى إعلان وقف لإطلاق النار من طرف واحد.
المحطة الثانية تمثلت في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية أواسط هذا العام. فالجهات السياسية الكردية كانت تعول على خسارة الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية فيها، ودعمت مرشح المعارضة كمال كليجدار أوغلو بوضوح. لكن النتائج كانت على عكس توقعاتهم، وأعاد أردوغان تكريس سلطته لسنوات قادمة، لكن هذه المرة من موقع مناهضة القوة السياسية الكردية، بالذات داخل تركيا. 
العمال الكردستاني عاد بعد الانتخابات بأسبوعين فحسب، وأعلن إنهاء وقف إطلاق النار الأحادي الذي كان قد أطلقه منذ عدة أشهر، متهما السلطات التركية بالامتناع عن إعادة النظر في سياستها واستراتيجيتها العسكرية تجاه المسألة الكردية، واستبعادها ونكرانها لأية حلول سياسية مفترضة. 

تزامنت عمليات القصف بهجوم على حفل أقيم في الكلية الحربية في محافظة حمص السورية، كان مخصصاً لتخريج دفعة جديدة من ضباط الجيش، بحضور وزير الدفاع السوري

الهجوم الأخير على "مديرية الأمن العام" التركية كان بمثابة المؤشر الأخير على دخول المواجهة بين الطرفين مرحلة "كسر العظم". فأغلب التعليقات الصادرة عن جهات مُقربة من العمال الكردستاني، ومثلها تحليلات المراقبين السياسيين، قالت إن استهداف تلك المنطقة العسكرية والأمنية الحساسية، وفي مركز العاصمة التركية، وقُبيل دقائق من وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مبنى البرلمان القريب من موقع التفجير، كان بمثابة إشارة من قِبل العمال الكردستاني، تُفيد بامتلاكه للكثير من الأدوات واشكال القوة، في أكثر الدواخل التركية تحصيناً، قادر على استعمالها في حال الحاجة إليها، وأن المعركة والمواجهة الحقيقية ليست في الخارج والمناطق الحدودية، بل داخل تركيا نفسها. 


استعصاء وتعقيد إقليمي ودولي


عقب الهجمات التركية على مواق حزب العمال الكردستاني، ندد الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد بها، معتبراً إياها تجاوزاً لسيادة بلاده، ومؤكداً أن الاتفاق الأمني الأخير الذي أقرته بلاده مع إيران، يُمكن له أن يتكرر مع تركيا، عبر اتفاقية أمنية واضحة، تضمن لتركيا عدم تجاوز أي عنصر مسلح من داخل العراق إليها، مقابل إنهاءها لعمليات القصف الجوي والمراكز العسكرية داخل الأراضي العراقية. 

AP


لكن المراقبين أشاروا إلى شبه استحالة حدوث ذلك، فالأحزاب الكردية الإيرانية تتمتع بحق اللجوء السياسي داخل العراق منذ أربعة عقود، وكانت موجودة على شكل مخيمات مدنية للاجئين، ولأجل ذلك مرت عملية إبعادهم عن الحدود الإيرانية بيُسر. بينما مُقاتلو العمال الكردستاني منتشرون على شكل وحدات عسكرية متنقلة في المناطق الجبلية الوعرة، على طول الحدود بين البلدين، ولهم نفوذ سياسي وشعبي وأمني في منطقتي سنجار ومخمور في العمق العراقي. 
كذلك لأن تُركيا لا تستأمن بقاء تنظيمات حزب العمال الكردستاني، حتى لو في مناطق بعيدة عن حدودها مع العراق، ولو على شكل مخيمات مدنية/سياسية. فتركيا تلاحق الحزب سياسيا ومالياً في أي مكان كان، حتى لو كان بعيداً تماماً عن تركيا، كما يحدث راهناً ويتسبب بتشنج علاقاتها السياسية والدبلوماسية والأمنية مع مملكة السويد، بسبب اتهامها للسويد بغض النظر عن النشاطات المدنية والسياسية والاقتصادية لتنظيمات مقربة من العمال الكردستاني. 
الأمر نفسه ينطبق على المواجهة التي تخوضها تركيا ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد" داخل سوريا، والتي تتهمها بالقرب والتداخل العضوي مع حزب العمال الكردستاني، وهي تنفي ذلك تماما. فجميع اشكال الضمانات التي قدمتها الولايات المتحدة لتركيا طوال السنوات الماضية، والتي تضمنت تعهدات بمنع أية اعتداءات على الأراضي التركية قد تنطلق من تلك المنطقة، إلا أن تركيا بقيت مصرة على تصفية كل مشروع "الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا". 
تسعى تركيا على الدوام لاجتياح منطقة شمال شرق سوريا، لكن ذلك كان يصطدم بممانعة دولية واضحة. فالتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب برئاسة الولايات المتحدة يعتبر قوات سوريا الديمقراطية ركناً أساسياً في ملف مناهضة الإرهاب، بالذات في مواجهة تنظيم داعش، وتدعم هذه القوات بمختلف أنواع التدريب والعتاد العسكري، بالإضافة إلى التغطية السياسية والعسكرية الاستراتيجية.  

font change


مقالات ذات صلة