ممرات "الموت الآمن" للنازحين في غزة

رحلة العذاب في شارع صلاح الدين

AP
AP
فلسطينيون يفرون إلى جنوب قطاع غزة في شارع صلاح الدين في البريج بقطاع غزة، 10 نوفمبر 2023

ممرات "الموت الآمن" للنازحين في غزة

منذ السابع من أكتوبر على غزة، أظهر جيش الاحتلال الإسرائيلي وحشية تجاوزت كلّ الحدود في التعامل مع المدنيين الفلسطينيين، فدمّرت المنازل على رؤوسهم، ومسحت أحياء سكنية بأكملها عن وجه الأرض. ولم يكن هذا القصف الوحشي يهدف فقط إلى ترويع السكان، بل إلى إجبارهم على الخروج من منازلهم، بهدف تفريغ شمال قطاع غزة، ومدينة غزة، من أهلها، ودفعهم – كخطوة أولى، إلى الفرار نحو جنوب قطاع غزة، ما بعد نقطة وادي غزة، من جهة الجنوب.

لم تلق الدعوات التهديدية التي أطلقها الاحتلال آذانا صاغية من السكان، على الرغم من عنف القصف على الأحياء السكنية في منطقة الشمال، وبقي معظم العائلات متشبثا بالبقاء، مجاهدا لإبعاد تكرار كابوس نكبة 1948، هم الذي سمعوا قصص أجدادهم، حول التهجير وترك الأرض للعدو، الأرض التي ظنوا يومها أنها قريبة، لكنها لا تزال محرّمة عليهم إلى يومنا هذا.

وبعد مرور أكثر من شهر على انطلاق الحرب، ازدادت قساوة الاحتلال، فاشتد التدمير والقصف العشوائي على منازل أهل شمال غزة ووسطها، مع حصار مستمر يحظر دخول البضائع لمنطقة شمال وادي غزة، مع دخول مساعدات قليلة من معبر رفح، لأهل جنوب قطاع غزة ومن نزح من شماله.

 تجسد المشاهد المشينة لقوافل الناس الراجلة على طول الطريق، وصمة عار في تاريخ الإنسانية، فلم يكن أحد يتخيّل أن يحدث هذا في 2023، ولا أن يقرر أحد مهما بلغت قوّته تهجير مئات الآلاف وتخييرهم بين الموت في العراء أو الموت تحت القصف

فوق العالم وقوانينه

تجسد المشاهد المشينة لقوافل الناس الراجلة على طول الطريق، وصمة عار في تاريخ الإنسانية، فلم يكن أحد يتخيّل أن يحدث هذا في 2023، ولا أن يقرر أحد مهما بلغت قوّته تهجير مئات الآلاف وتخييرهم بين الموت في العراء أو الموت تحت القصف. هذا التهجير الممنهج يجسّد بحد ذاته تخطيا لكافة الضوابط الإنسانية، لكن ما يخضع له الناس في غزة خلال رحلة النزوح المميتة، يعبر عن خواء أخلاقي وضياع لكافة المعايير الإنسانية والحقوقية التي يتغنى بها العالم المتحضر. فما بالكم أن يستمر المعتدي في سلوكه الإجرامي، ويزيد في وحشيته، منكلا بالنازحين وكأنهم قطيع أغنام على طريق النزوح.

 AP
شارع صلاح الدين في البريج بقطاع غزة، الخميس 9 نوفمبر 2023.

وبالنسبة إليّ، وإلى كلّ  من أعرفهم ممن ينزحون من مكان إلى مكان في غزة، فإن استمرار المنظمات الأهلية والحكومات العالمية، في التكيف والقبول أو الاعتراض الناعم عما يحدث في غزة، والعجز المطبق عن وضع حدّ لهذه الحرب، ووقف التهجير القسري للسكان، إنما يعبران باختصار عن أن ما يسمى "المجتمع الدولي" ليس إلا فقاعة وهم، لا تحرك ساكنا لتنصف الضعيف، وبأن من يمتلك القوة، يسمح لنفسه بتانتهاك كافة القوانين والأعراف والأخلاقيات، فعن أي حضارة نتحدّث، وعن أيّ مجتمع دولي؟

ممرات غير آمنة

خلال الأيام الماضية، يعمد الاحتلال إلى تحديد أوقات للناس الباقين في شمال غزة وسطها، الذين إما يرفضون الخروج من منازلهم، أو لا يجدون لهم مأوى عند صديق أو قريب في الجنوب، ومن الناس من صار خائفا من فكرة النزوح تحت القصف، في ظل تواجد الجنود الإسرائيليين والدبابات، وتضارب الأخبار حول ما يتعرض له الناس خلال رحلة النزوح من ويلات رهيبة.

من يخرج من منزله تحت إرهاب القصف الجنوني، وتحت وطأة مختلف أشكال التجويع والتهديد، عليه المضي في شارع صلاح الدين، الذي يصفه الاحتلال بأنه "ممر آمن"، لكنّ الوقائع أكدت أن هذا ليس سوى محض خداع وتضليل.

AP
مستشفى خان يونس، السبت 11 نوفمبر 2023.

فالعائلات الغزية التي تسارع إلى الهروب من منازلها، تقيم في مناطق منفصلة عن بعضها، بعد أن تقطعت أوصال الطرق بفعل القصف، فتجد نفسها مضطرة إلى سير مسافات طويلة في منتصف النهار، وهو الوقت المحدد من قبل الاحتلال. تمضي العائلة رجالا، ونساء، وأطفالا، ويقوم الأبناء بالتناوب على حمل كبار السنّ والأطفال، أو نقلهم على عربات صغيرة. وعلى العائلة أن تمضي في طرقات ممتلئة بردم المباني المهدمة، وعليهم رؤية مشاهد مفجعة للقتلى، على طول الطريق داخل المدن، قبل الوصول إلى شارع صلاح الدين المنشود.

على شارع صلاح الدين الطويل، نقل نازحون مشاهداتهم حول أطفال يصرخون وقد تمدّدت جثث ذويهم على جانبي الطريق، وأطفال فقدوا عائلاتهم بالكامل خلال رحلة النزوح الجماعي. وتحدثوا عن جثث أطفال ملقاة وسط الطريق

رايات بيضاء

يمضي الناس أفواجا وجماعات، رافعين رايات بيضاء، على طول الطريق الممتلئ بالدبابات والجنود والقناصة الذين يعتلون المباني، راصدين النازحين بعدسات دقيقة تتفقد ملامح النازحين بشكل عشوائي لرصد وجوه الأشخاص المطلوبين لدى الاحتلال، وإن وجد أحدهم وقد تطابقت ملامحه مع صورة ما، فإنه يقتل ومن حوله على الفور، في عملية أشبه بالإعدام الجماعي الذي لم يتوقف الاحتلال عن ممارسته طيلة أوقات الحرب. إنهم يتعاملون مع الناس هنا، بوصفهم أرقاما لا يملكون أحلاما وآمالا وقصصا ممتلئة بالتفاصيل والتشابكات مع الحياة. كما يقوم الجنود المتمترسين على بعد أمتار من الطريق، وبشكل عشوائي، بإيقاف الناس للتفتيش، طالبين منهم إظهار بطاقات الهوية، بالإضافة إلى تجريد النازحين من مقتنياتهم القليلة، التي حملوها من بيوتهم الراقدة تحت القصف. هذه رحلة القتل الجماعي الطويلة التي تمتد إلى أكثر من 30 كيلومترا من الرعب والعذاب، وحتى الآن خاضها ما يقارب مليون فلسطيني حسب تقديرات منظمة الأونروا في غزة.

AFP
صورة للمرضى والنازحين في مستشفى الشفاء في مدينة غزة في 10 نوفمبر 2023.

في غزة، تحتفظ المرأة بقطع من الذهب، تشتريه بعد الزواج، وبعض النازحين على شارع صلاح الدين الممتد من شمال غزة إلى جنوبها، شاهدوا الجثث، على جانبي الطريق، وبجانبها قطع من الذهب متناثرة، وكذلك النقود القليلة التي تمكنوا من نقلها من بيوتهم تحت القصف، لتعينهم في أماكن هجرتهم. هذه المقتنيات تبقى على الطريق إلى جانب أصحابها الراحلين، لا يستطيع أحد مسها، لأن من يقوم بأي حركة أو يتلفت يمينا أو يسارا، فإنه يعرض نفسه للقتل الفوري.

جثث متنفخة

أشكال الجثث تبدو مثل مشاهد من أفلام الرعب، فعلى طول شارع صلاح الدين تتناثر الجثث، منها ما بدأ بالانتفاخ والتحلل، يملأ الدود سطحها، وقد أتم بالفعل التهام عيونها. ومن الجثث هناك من يرقد مبتور اليد أو الذراع، ومنهم من ينبطح عاريا، فقد أمر جنود الاحتلال بعض الناس بالتعري، قبل قتلهم. وعلى جانبي الشارع شاهد الناس جثثا ملقاة، وقد بدأت الغربان بالانقضاض عليها.

وعلى شارع صلاح الدين الطويل، نقل نازحون مشاهداتهم حول أطفال يصرخون وقد تمدّدت جثث ذويهم على جانبي الطريق، وأطفال فقدوا عائلاتهم بالكامل خلال رحلة النزوح الجماعي. وتحدثوا عن جثث أطفال ملقاة وسط الطريق، وعندما حاول أحد المارين إزاحتها إلى جانب الطريق، أطلق الجنود النار عليه، وأردوه قتيلا.

 EPA
فلسطينيون يغادرون إلى جنوب قطاع غزة عبر نقطة تفتيش للجيش الإسرائيلي، على طول شارع صلاح الدين في البريج، 10 نوفمبر 2023.

آخر النكبات التي فرضها الاحتلال على أهل غزة، عندما اقتربت دباباته بالأمس، من مشفى الشفاء وسط مدينة غزة. كثفت طائراته الحربية قصف مدخل المشفى ومحيطه، وهو ما دفع أكثر من خمسين ألف شخص لاذوا بالمكان منذ بداية الحرب، إلى الهرب العشوائي تحت خطر القصف الشديد.

مشهد أشبه بنهاية العالم، وقد قتل أشخاص بفعل التدافع، وقضوا تحت الأقدام، فيما بقى أطفال دون عائلاتهم، يصارعون رحلة تيه وخوف، وشكل جديد من الفقد، يعيشه الفلسطينيون كل لحظة بفعل دفع الاحتلال المستمر إلى تهجيرهم، تحت دوي القذائف والصواريخ.

font change

مقالات ذات صلة