غزة وتراجيديا الأرقام

غزة وتراجيديا الأرقام

أرقام... هكذا هي غزة في عيون كل من يراها "مرضا عضالا" لا علاج له، سوى ربما بـ"قنبلة نووية" على مقاس المدينة وأهلها، كما اقترح وزير "التراث" الاسرائيلي عميحاي إلياهو الذي ستبقى دعوته تلك بمثابة جزء من "أدبيات" الحوار النووي في الشرق الأوسط والعالم ومبرراته.

عبّر إلياهو صراحة عما يتمناه اسرائيليون، ومن ورائهم أطراف غربية، من حتمية إبادة شعب غزة جلهم من المدنيين.

لا يتوقف عدّاد الأطفال الذين قُتلوا منذ بدء الغارات الإسرائيلية والقصف على غزة، فحتى كتابة هذه الكلمات تقول وزارة الصحة الفلسطينية إن 70 في المئة من قتلى الحرب في غزة، الذين تخطى عددهم أحد عشر ألف قتيل، هم من الأطفال والنساء والمسنين (أي 7700 طفل وامرأة)، ويشكل الأطفال وحدهم 40 في المئة (أي 4400 طفل)، من هؤلاء القتلى بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، أي 2 من كل 5 قتلى يسقطون جراء المجازر الاسرائيلية، وفقا لجيسون لي، مدير منظمة إنقاذ الطفولة في الأراضي الفلسطينية. لا يشمل هذا العدد أكثر من 1000 طفل لا يزالون في عداد المفقودين تحت أنقاض المباني والبيوت المدمرة.

70 في المئة من قتلى الحرب في غزة، الذين تخطى عددهم 11 ألف قتيل، هم من الأطفال والنساء والمسنين (أي 7700 طفل وامرأة)، ويشكل الأطفال وحدهم 40 في المئة (أي 4400 طفل) 

ويؤكد المفوض العام لـ"الأونروا" فيليب لازاريني أن هذا العدد من الأطفال القتلى هو أكثر من عدد الأطفال الذين قتلوا في كل نزاعات العالم وحروبه، في أي عام، منذ 2019. فيما يعيش "أكثر من 700 ألف شخص في 150 مبنى تابعا لـ"الأونروا" في قطاع غزة"، و"قتل 99 من زملائي" ودمِّر 50 من مباني الوكالة، كما قال لازاريني. 

في المحصلة، يقول جيسون، "نحن الآن في وضع يُقتَل فيه طفل كل 10 دقائق"، وأكثر من ضعف هذا العدد من الفلسطينيين عموما يُقتَلون في الساعة بحسب المرصد الأورومتوسطي. بالنسبة إلى اسرائيل، كل طفل فلسطيني هو "مشروع مقاوم"، لذا يندرج قتل الأطفال ضمن خطط إسرائيل الاستباقية للدفاع، فما بالك إذا كان نحو 43 في المئة من سكان غزة هم دون الـ14 عاما و22 في المئة منهم دون الـ25 عاما؟

التوحش في أبشع صوره

لا تقتصر حرب التهجير القسري والإبادة في غزة على استخدام الصواريخ والقذائف الفوسفورية وغيرها من الأسلحة المحرمة دوليا على مرأى ومسمع من حرّمها، بل يواكبها حرمان القطاع من المياه النظيفة والكهرباء والانترنت وغيرها من الخدمات الأساسية التي تزيد الحياة صعوبة، وتحكم الخناق والعزلة على قطاع تبلغ فيه الكثافة السكانية 6,019 فردا في الكيلومتر الواحد، مقارنة بنحو 570 فردا في الضفة الغربية، علما أن 66 في المئة من سكان القطاع هم من اللاجئين أصلا.

فالطلب على الكهرباء لا يُلَبّى بنسبة تصل الى 60 في المئة، والطاقة الإنتاجية الحالية للمياه انخفضت بنسبة 95 في المئة فقط من الإنتاج اليومي المعتاد، يعوَّض جزء منها باستخدام مياه البحر والمياه الملوثة من الآبار، مما يزيد خطر انتقال الأمراض. فمتوسط استهلاك المياه في غزة قبل الحرب وما تلاها من قطع في الإمدادات، كان يبلغ نحو 84 ليترا، وهو معدل لا يصل حتى إلى الحد الأدنى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية عند 100 ليتر يوميا للاحتياجات الأساسية للفرد الواحد، مقارنة بـ240-300 ليتر يوميا للفرد الإسرائيلي.

وكان هذا الواقع يتحكم بسكان غزة منذ ما قبل الحرب، حيث لجأوا إلى المياه الجوفية الساحلية و96 في المئة منها غير صالح للاستهلاك البشري. وعلى الرغم من وجود ثلاث محطات لتحلية المياه في القطاع تنتج مياها للشرب، إلا أنها تحتاج إلى الكهرباء أو الوقود لتشغيلها.

لا تقتصر حرب التهجير القسري والإبادة في غزة على استخدام الصواريخ وغيرها من الأسلحة المحرمة دوليا على مرأى ومسمع من حرّمها، بل يواكبها حرمان القطاع من المياه النظيفة والكهرباء والانترنت والوقود والخبز، والاستشفاء والدواء ونقص الأوكسجين، وتاليا قتل حديثي الولادة في حاضناتهم

للوقود قصة أخرى أشد مأسوية. فقد بات معروفا استغلال إسرائيل حاجة القطاع الماسة إلى إمدادات الوقود، وتعمّدها قطع هذه الإمدادات ومنعها من دخول القطاع، خصوصا نظرا إلى حاجة المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية إلى الأدوية وإبر البنج، والوقود لتشغيل خدماتها ورعاية الحالات الحرجة من ذوي الاصابات الخطيرة جراء القصف على سبيل المثل، ونحو 1000 مريض ممن يحتاجون إلى غسيل الكلى وأكثر من 130 طفلا ورضيعا في الحاضنات، بدأوا يلتحقون بقتلى الحرب الواحد تلو الآخر بسبب قطع الكهرباء ونقص الأوكسجين.

بالأرقام الجافة، خرج أكثر من 16 مستشفى عن الخدمة بسبب الأضرار ونقص الوقود والإمدادات الطبية، أي أكثر من ثلث المستشفيات في غزة، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية. كذلك أغلق 21 من أصل 23 مخبزا من شركاء برنامج الأغذية العالمي أبوابه بسبب نقص الوقود، فيما ينتظر سكان غزة في طوابير لأكثر من ست ساعات للحصول على نصف حصتهم اليومية من الخبز.

لا حاجة إلى مطالعات اقتصادية وتحليلات تتوقع خسائر القطاع ومستقبله، فبعد 16 عاما من الحصار، يرزح القطاع تحت فقر مدقع طال أكثر من نصف سكانه، ومعدلات بطالة مرتفعة تجاوزت الـ 80 في المئة في أوساط الشباب، وهل كان يوجد ما يسمى اقتصاد في غزة أصلا؟

تقدر الـ"يونيسيف" أن العاملين في المجال الإنساني يحتاجون هذه السنة إلى أكثر من نصف مليار دولار لتوفير الغذاء والمياه والصرف الصحي والخدمات الصحية لنحو 1,6 مليون شخص في القطاع. ولكن حتى المساعدات الإنسانية تشق طريقها بصعوبة إلى القطاع، حيث لم يسمح منذ بدء الحرب حتى اليوم إلا بدخول نحو 800 شاحنة محملة مواد غذائية وطبية، وهي كمية لا تغطي إلا حاجة يومين فقط، مقارنة بحجم المساعدات التي كانت تصل إلى القطاع بما معدله 500 شاحنة يوميا، قبل اندلاع الحرب.

التهجير للغاز والاستيطان 

وصل عدد النازحين في غزة إلى مليون شخص وفقا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية. هؤلاء شرِّدوا من بيوتهم التي سُوِّيت بالأرض في الغالب ولم تعد موجودة أصلا للعودة إليها (للمقارنة، التهجير في نكبة 1948 طاول 750 ألف شخص). فلا يمكن لأي عاقل إلا أن يرى في دك المدنيين ودفعهم إلى هجرة مساكنهم، خصوصا في شمال القطاع، الذي "كان" يقطنه أكثر من مليون نسمة، والذي أمرت إسرائيل بإخلائه تمهيدا لقصفه وتحويله إلى أرض محروقة، مخططا للسيطرة على ذلك الجزء من الأرض وضمه الى النفوذ الاسرائيلي لغايات لا تغيب عنها مصالح الغرب الاقتصادية في الدرجة الأولى، وفي مقدمها الغاز قبالة شاطئ غزة.

أرقام تُحدَّث كل يوم بدم العالم البارد، ووسائل إعلامه الحر، فيما هناك أطفال ونساء ورجال دفنوا في الحطام... أرقام جردت أهالي غزة من انسانيتهم

أمام هذا الواقع، لم يعد مهماً حقاً إحصاء الخسائر الاقتصادية، وتدمير آلاف المباني والوحدات السكنية والحكومية والمدارس والمنشآت الصناعية والمقار الإعلامية التي قُتل من عناصرها نحو 50 صحافيا حتى الساعة، وعشرات المنشآت التابعة لهيئات الأمم المتحدة، ومثلها من المساجد والكنائس، ومنها الأثرية، ناهيك بالمستشفيات وطواقمها.

أرقام تُحدَّث كل يوم بدم عالم بارد، فيما هناك أطفال ونساء ورجال دفنوا في الحطام. أرقام جردت أهالي غزة من انسانيتهم، على كل الشاشات ووسائل التواصل، تحت نظر العالم وقوانينه المرعية لحقوق الانسان... والحيوان.

font change