محمد البريكي: القصيدة تتخيّر أساطيرها

بيوت الشعر تعيد تشكيل الحركة الشعرية

محمد البريكي: القصيدة تتخيّر أساطيرها

يتولى الشاعر الإماراتي محمد البريكي إدارة "بيت الشعر" في الشارقة- بدولة الإمارات، الذي يقيم العديد من الأنشطة الأسبوعية والموسمية التي تضيء على تجربة الشعراء الإماراتيين والعرب. يقول: "حين يعمل الشاعر في حاضنة شعرية مثل بيت الشعر وهو المكان الذي تخلق فيه الكلمات، تصبح المسؤولية أكبر، ولم أزل في صباحات هذا المكان ألوذ بنفسي كشاعر وأعرف أكثر عن عالم الشعراء، فأدرك بمحبة الشاعر أن الجمهور الذي يمنح الشعراء الفرح هو من يمنحهم أبعادا أخرى".

وما قُدّمَ في "بيت الشعر" كان سببا وراء تتويجه بجائزة الأمير عبد الله الفيصل في دورتها الرابعة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 عن "أفضل مشروع لخدمة الشعر". يذكر البريكي: "هي جائزة جاءت عن استحقاق، لأن راعي الشعر الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة فتح لنا آفاقا لا تحد، فتتابعت المواسم وهي مزدهرة بالكلمة محفوفة بالخيال، فأشرقت قصائد الشعراء لتصنع أبجدية أخرى، وهذه الجائزة التي حملت صفة العالمية هي قنديل أخضر في جبين بيت الشعر وتتويج حقيقي لتجربة مهمة في منطقة شعرية لها خصوصيتها في الشارقة، فالزمن الشعري هنا وقود لنهضة إبداعية لها ثوابتها في صفحة القصيدة العربية بمبادرات وفعاليات تستقطب الشعراء الموهوبين من كل الأجناس ومن مختلف الثقافات".

ملامح

"بدأت مع البحر" و"الليل سيترك باب المقهى" و"بيت آيل للسقوط" و"عكاز الريح"، هذه عناوين بعض إصدارات محمد البريكي التي عرّفت الجمهور بتجربته. يقول: "أن أكون شاعرا فهذا ما تجسد في قلبي منذ أن عرفت خطاي مواعيد هطول المطر، ومتى تزهر وردة في حديقة، ويصدح طائر بالغناء، أن أكون شاعرا فهذا خارج إرادتي، لأن القصيدة تتخيّر أساطيرها في الزمان، وعندما أرتاد فضاءات الكلام يصبح للحياة طعم آخر، وللأوراق رائحة لا توصف، وللحبر لون قاتم في مسامات الصفحات، وتصبح الفواصل أزمنة خارج المواقيت المطروقة".

 نولد في الخليج العربي على حب الشعر النبطي ونعيش تفاصيل الحياة من خلاله، فهو نخلة الشعراء وأصوات الريح في الصحراء، وهو العشب والظلال

ما تجسّد في أعماق البريكي يتجلى في شعره الفصيح، وهي مرحلة جاءت بعد مرحلة البدايات وفيها كتب الشعر النبطي الذي حافظ على مكانته في دول الخليج. يفسر: "نولد في الخليج العربي على حب الشعر النبطي ونعيش تفاصيل الحياة من خلاله، فهو نخلة الشعراء وأصوات الريح في الصحراء، وهو العشب والظلال.. معه نتساجل شعريا، ونرتجل في المجالس، فهو الحاضر والماضي ولا بديل منه، وحين كتبت الشعر الفصيح اكتملت لديّ  رؤية أخرى، خضت زمنا آخر مع الشعر، ولا يمكن حصر موضوعات النبطي أو الفصيح في كلمات، فالشعر هو الشعر حين يحضر بحلة الشعبي العامي أو بحلة الخيال المدجج باللغة العربية، فالقصيدة هي القصيدة بروائحها العطرة وأجنحتها البراقة، وسطوعها مثل الشمس في كل صباح".

الشعر يبدو أحيانا مثل كائن حي يستطيع أن يهب الشاعر الكثير. يقول البريكي: "كل شيء حولي يجعلني أتقدّم في اتجاه الشعر، فنحن كعرب مسكونون بجمالية الكلام ومفتونون ببهاء الحروف، وأزمنتنا كلها تدعو للشعر، وطبيعة بلادنا تأسّست على الشعر، فكل شيء من طبيعة وجمال يقود إلى الشعر، فالقصيدة العربية هي خيمة واحدة، والشعر هو الذي يمنح المجد، ومع كل نص جديد أكتبه أجد الرغبة تتملكني في أن أبدل أقوالي الشعرية وأجدني أسير في بناء آخر لعلّي أعثر في ذاتي على قصيدة جديدة تحمل ملامح مختلفة وتهدي القارئ إلى موسيقى أخرى".

 

مغامرة شعرية

بعد أكثر من عشرة دواوين جاء الإصدار الأخير بعنوان "مدن في مرايا الغمام"، ومن خلال قصائده استحضر محمد البريكي المدن العربية ليكشف عن الروابط الخفية التي تجمعه مع تلك المدن، وينفض الغبار عن ماضيها، ويظهرها بألقها الساطع بعيدا من الأحداث الآنية. يقول: "كل مدينة عربية كتبت عنها هي مغامرة أخرى في رصيدي الشعري، لأن المدن العربية تتجلى في قلبي كالشموس، وتهدر في روحي كاللحن الشجي، وعندما أكتب عنها فأنا في حقيقة الأمر أكتب عن الحرية والأرض والهوية، وعن جدرانها المطلية بماء الذهب، وعن تاريخها المسكون في ذاتي، فقد أزلت الحواجز عن كل حب وذهبت خلف الرمل والمراكب والغابات لكي أعثر على ذاتي العربية، فجاء الديوان الأخير ليمنحني كثافة أخرى في محبة كل ما هو مأثور في أوطاني العربية التي تضيء كالبرق في وجهي".

وفي كل مرة ينشر البريكي إصدارا شعريا جديدا يختار له العنوان بدقة ودراية: "عناوين دواويني هي قصائد أخرى أكتبها بعمق الشعر لأنها تمثل في النهاية كلماتي المخبوءة بين الصفحات، لذا أتخيّرها بكل حواسي وألتمس عبقها وأبحث عن دلالاتها كي تكون ملاذا لتأمّل القارئ، وهي مهمة صعبة أن أجعل ذوقي وذوق القارئ في خانة واحدة".

 

على حافة النقد

لم يكتفِ البريكي بكتابة الشعر بل أصدر كتبا في النقد ناقش من خلالها العديد من القضايا، من بينها "تراسل الشعر العربي مع الفنون" و"بيوت الشعر شهادات وإضاءات". يقول: "كل شاعر لديه حساسية جمالية تتملكه، وحين يطالع أعمالا شعرية مكتملة المعنى وتحمل شيئا مختلفا فإنه يطير إليها ليتناولها نقديا، وكتاباتي انطباعية تأتي من وحي الفكرة وأشكال الخيال، وكل قراءة أدوّنها عن شاعر هي حصيلة وعي بما يكتبه هذا الشاعر أو ذاك، وليس إقحاما مني في هذا المجال، فالمصادفات الشعرية هي التي تدعوني إلى أن أقول شهادة في شاعر ما، أقولها من منطلق مهاراته الإبداعية". يرى البريكي أنه "من المهم أن يتبادل الشعراء الآراء النقدية وانطباعاتهم بعضهم حول بعض من أجل أن تزداد مساحة النقد جمالا وثراء بعيدا عن الشكل الأكاديمي في اكتشاف الشاعر وتحديد هويته وفقا للمنهج، فقد يكون النقد الانطباعي أكثر جمالا وإبداعا في الحياة الثقافية".

من المهم أن يتبادل الشعراء الآراء النقدية وانطباعاتهم بعضهم حول بعض من أجل أن تزداد مساحة النقد جمالا وثراء 

ما بين إصدار شعري ونقدي قدم البريكي عددا من البرامج التلفزيونية المتخصصة بالشعر، من بينها "ديوان العرب" على تلفزيون الشارقة: "البرامج التلفزيونية فضاء آخر أسعى إلى أن أقدم فيه إضافة مختلفة عن السائد، ولذلك اقتربت كثيرا من ذوات الشعراء الذين حاورتهم، فوجدت كنوزا مخبوءة في حياتهم، تشي بمعنى ما يبوحون به، وتلفزيون الشارقة فتح لي نافذة تنفست من خلالها الحياة الشعرية من مناخ مختلف".

أخيرا يتحدث محمد البريكي عن الدعم الذي يجده الشعراء من خلال بيوت الشعر والبرامج والمسابقات الشعرية التي تقدم في أماكن مختلفة من العالم العربي. ويؤكد أن "مبادرة بيوت الشعر من أهم الدعائم في المسيرة الشعرية العربية الحالية وبها تحققت تجارب لا توصف في واقعنا الثقافي، وقد عشنا مع هذه المبادرة وتعلمنا منها الكثير، فقد استقطبت هذه المبادرات بما فيها ما يقدمه بيت الشعر في الشارقة الشعراء وأضاءت على مسيرتهم وساهمت في شهرة البعض ونشرت الإبداعات، إلى جانب إقامة مهرجانات وفعاليات وأنشطة من شأنها أن تعيد تشكيل الحركة الشعرية في العالم العربي".

font change

مقالات ذات صلة