النازحون من جنوب لبنان... عالقون على تخوم "قواعد اشتباك" رمادية

عزلة اجتماعيّة وتخلٍّ حكومي

REUTERS
REUTERS
امرأة تقف بين أنقاض منزلها الذي دمر جراء القصف الإسرائيلي في بلدة ياطر الجنوبية بلبنان.

النازحون من جنوب لبنان... عالقون على تخوم "قواعد اشتباك" رمادية

بيروت: هذا ليس أوّل نزوح يعيشه أبناء القرى الحدودية في جنوب لبنان، بسبب اعتداءات اسرائيلية، لكنهم يتشاطرون الشعور بأنهم متروكون لأقدارهم "كأنّنا مشطوبون من الخريطة"، على قول سيدة نازحة في ضواحي بيروت.

إلى جانب الأزمة الاقتصادية، ينتج هذا الشعور من عاملين أساسيّين، أوّلهما غموض "خطّة الطوارئ الوطنية" التي وضعتها حكومة تصريف الأعمال، وثانيهما اختلال "قواعد الاشتباك" بين الطرفين اللبناني والإسرائيلي. ويعتمل هذا النزوح بشكل شبه محايد في المزاج الشعبي، الذي تستحوذ على اهتمامه الأكبر الحرب في غزّة، ويعتبرها العامل المقرّر لحرب شاملة ومتمدّدة في لبنان.

خريطة النزوح

يتحدّر النازحون من قرى تقع في معظمها في جنوب لبنان وبعضها في محافظة البقاع. أول منابع النزوح هي قرى علما الشعب، مروحين، عيتا الشعب، رميش، يارون، عيترون، بليدا، ميس الجبل، حولا، مركبا، العديسة، كفركلا، الضهيرة، البستان، كفرشوبا، وشبعا.

يبيّن تقرير "المنظمة الدولية للهجرة" الأممية الصادر نهاية أكتوبر/تشرين الأول أنّ عدد النازحين بلغ أكثر من 29 ألفا، يتوزّعون في مناطق جنوبية غير حدوديّة، واختار آخرون النزوح إلى بيروت وضواحيها أو مناطق صوب الشمال وجبل لبنان

يبيّن  تقرير "المنظمة الدولية للهجرة" الأممية الصادر نهاية أكتوبر/تشرين الأول، أنّ عدد النازحين بلغ أكثر من 29 ألفا، يتوزّعون في مناطق جنوبية غير حدوديّة، واختار آخرون النزوح إلى بيروت وضواحيها أو مناطق صوب الشمال وجبل لبنان. لجأ هؤلاء إلى عائلاتهم أو استأجروا الشقق بأسعار باهظة، مما دفع عائلات إلى تقاسم بيت واحد مع غيرها.

وفقا لبعض البيانات بلغ إيجار الشقق المفروشة ضعفَي السعر الأصلي. فقفز إيجار الشقق المكوّنة من غرفتين في مناطق بيروت الحيوية من 500 إلى ألف دولار، وفي محيط قضاء عاليه من 200 إلى 400 دولار للشقة غير المفروشة ومن 400 إلى 800 دولار للشقة المفروشة.

أمّا اللاجئون إلى مراكز الإيواء في مدينة صور فهم الأكثر هشاشة في السلّم الاجتماعي، لا سقف لأقرباء يحتمون به، ولا مال يخوّلهم استئجار البيوت، فاحتضنتهم مدارس وأحياء سكنية، من خلال خطّة استجابة يتابعها اتحاد بلديات قضاء صور.

يفيد رئيس وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات قضاء صور مرتضى مهنّا لـ"المجلة"، أنّ عدد النازحين إلى قضاء صور بلغ 12,910 نازحا في 13 نوفمبر/تشرين الثاني، ويزدادون بمعدّل 400 نازح يوميّا. ويعجز الاتحاد عن تأمين اللوازم الأساسية لهم، وأهمّها الفرش والأغطية والمواد الغذائية وحليب للأطفال والحفاضات ولوازم صحية نسائية، وتقدّمها منظمات دوليّة بكمّيات قليلة، معلّقا: "تحيط بنزوح أهالي الجنوب اليوم ظروف أصعب من حرب يوليو/تموز 2006، لأنّ لا اعتراف رسميّا بحرب في لبنان، الأمر الذي لم يدفع المنظمات الدولية إلى فتح مستودعات الاغاثة، كما أنّ النازحين والمضيفين على حد سواء يرزحون تحت ظروف اقتصادية خانقة".

لدى السؤال عن التنسيق بين بلديات صور وخطة الطوارئ الحكوميّة، ينفي مهنّا علمه بأي خطوات مقبلة أو مساندة من الحكومة.

EPA
نازحون من جنوب لبنان يجلسون عند مدخل مدرسة محلية تستخدم مأوى للنازحين في مدينة صور الساحلية الجنوبية، لبنان، 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

صعوبة التأقلم الاجتماعي

يسعى المتضامنون إلى أنسنة الضحايا في غزة، فيمنحون هؤلاء وجوها وأسماء وقصصا."هم ليسوا أرقاما، لكلّ منهم قصّة": عبارة مهرت منشورات تضامن مع الغزّيين. كلّ هذا أدّى إلى استثارة مشاعر التعاطف والقرب، على قاعدة أنّ المتابع يتعرّف الى نفسه مع هذه المَشاهد ويتماهى مع ضحاياها، الأمر الذي لا يشمل النازحين من جنوب لبنان، الذين دُفعوا إلى النزوح في هوامش الحرب الفلسطينية، ففاقم احتجاب قصصهم معاناتهم النفسيّة.  

لنستمع إلى أحمد من قضاء بنت جبيل، وهو الأب لطفلين، أحدهما رضيعة ولدت خلال الاشتباكات.  نزح أحمد مع عائلته الصغيرة إلى بيت أقارب في ضواحي مدينة صيدا "لكن زوجتي تخوض فترة نفسية وصحية حسّاسة بعد الولادة، ولم تستطع أن تتعايش معها خارج منزلنا"، يروي لنا. عادت الأسرة إلى القرية، فوجدوا أنّها هُجّرت. لم يعد أهاليهم وأقرباؤهم يعيشون في بيوتهم، التي عمدوا إلى تشييدها في الحي نفسه. ومع موجة النزوح الأخير، حُرم أحمد وعائلات قليلة لزمت بيوتها آليّة عضوية من التكافل الاجتماعي في قراهم.

تستدعي معاناة أهالي الجنوب إعادة التذكير في ما يفترض أنّه بديهي "لا تنسوا أنّ الجنوب جزء من لبنان" وهو لسان حال نشطاء يدعون في فيديوهات ومدوّنات إلى التعاطف مع الجنوبيين

أمّا أبو جواد، فدفعه ضيق ذات اليد إلى الاستسلام للقدر "قل لن يصيبنا إلّا ما كتب الله لنا". لم يستطع أن ينزح مع عائلته الصغيرة وأمه إلى مكان آمن، ولازم بيته على الرغم من أصوات القصف التي تخترق المسامع في كلّ حين. يحدّثنا ربّ الأسرة الذي يعمل مياوما في ورش البناء من مكتب غير مُجهّز بالفرش لجأ إليه أخيرا مع عائلته: "قدّمه صاحب إحدى الورش، ولكن في هذه الظروف الصعبة، لا يستطيع الناس أن يقدّموا أكثر من سقف يؤويك".

في هامش محدود، يلاحظ لبنانيّون أنّ معاناة أهالي الجنوب مكتومة وتستحقّ المؤازرة. واللافت أنّها تستدعي إعادة التذكير في ما يفترض أنّه بديهي "لا تنسوا أنّ الجنوب جزء من لبنان". وهو لسان حال نشطاء يدعون في فيديوهات ومدوّنات إلى التعاطف مع الجنوبيين والتعامل معهم بلطف في المناطق المضيفة. في عمق هذا الموقف دعوة الى الترفّع عن الأحقاد المذهبيّة الّتي يعتقد البعض أنّها عامل مساهم في اللامبالاة اللبنانية إزاء أزمة أهالي الجنوب، بسبب انطباع صورتهم بقسرية الانتماء إلى "حزب الله".

REUTERS
دخان يتصاعد من الحدود الإسرائيلية اللبنانية في شمال إسرائيل، 13 نوفمبر/ تشرين الثاني، 2023.

طلبة بلا تعليم

وضعت الاشتباكات في القرى الحدودية اللبنانية العام الدراسي في مهبّ الريح. في الأصل، تعتري التعليم الرسمي مشكلات كبيرة انطلقت على وقعها المدارس بخطى متعثرة في 16 أكتوبر/تشرين الأول. وبالكاد بدأ التعليم، حتّى أصدر وزير التربية قرارا بإقفال جميع المدراس على القرى الحدودية، وترك لإدارات بقية المدارس في الجنوب خيار استئناف الدروس. أمّا في خصوص النازحين، فطلب من المعلمين إعطاء الدروس في المدارس القائمة في مناطق النزوح، وأن يلتحق التلامذة في مدارس هذه المناطق.

تنتقد ميرفت بزّي، المعلمة في التعليم المهني والأم لطفلتين، ما تسمّيه "ارتجالية قرارات وزير التربية التي أثبتت أنّها معزولة عن الواقع". وتستعرض الأمّ التي توقف عملها ونزحت إلى منزل ذويها في ضاحية بيروت الجنوبية، تجربة زوجها الأستاذ في ملاك التعليم الرسمي عندما نزحوا أولا إلى صور "دعي زوجي للدخول فورا إلى الصف ليعطي درسا في الفلسفة. أتساءل أي مستوى تعليمي سيتلقاه النازحون لو حصلوا أصلا على فرصة التعليم؟".

تتابع أنّ زوجها تعاقد مع مدرسة خاصّة ليحافظ على مدخول لأسرته "يعيش زوجي نزوحا مزدوجا. ينهي نهاره التعليمي في قرية تبنين ثم يعود للسكن في منزل أهله في الجميجمة وفي عطلة نهاية الأسبوع ينتقل إلى بيروت ليلتقيني مع ابنتينا".

وفق الأم، عقّد هذا التشتت الاحتقان النفسي لدى طفلتيها اللتين حُرمتا التعليم "المدرسة الرسمية غير مزوّدة آليات التكيف مع الأزمات، وتلامذتها هم الحلقة الأضعف".

في المقابل، تتابع المدارس الخاصة في قرى الجنوب تعليمها عبر منصات "الأونلاين" التي اعتمدتها إبان أزمة كوفيد19، كما سمحت لقسم من تلامذتها بالالتحاق بمدارس أو مراكز تعليمية تابعة لجمعياتها وتعتمد المنهاج نفسه، مثل مدارس "المهدي" و"المبرات".

تعلّق الأم "لم تكن هذه التحدّيات موجودة خلال حرب يوليو/تموز. قد أجد عزائي في أنّ معاناتي ملطّفة مقارنة بالتي يعيشها النازحون في المدارس، خصوصا النساء اللواتي يحتجن إلى حيّز من الخصوصية. لكنّنا جميعا بعيدون عن الأنظار. وهذا الوضع غير مستجدّ، لاعتقاد سائد بأنّ المناطق الحدوديّة هي مناطق مهجورة وقاحلة- في الواقع، حدود الجنوب هي بيوت الناس وحقولهم".

AFP
الضاحية الجنوبية في لبنان

فواتير الأرض

للأرض بمعنييها المجرد والمادي قيمة جليلة عند أبناء الجنوب. أرض التراب والبيت، وخصوصا الرمز الذي صنعوا منه سبب وجودهم المقاوم ضدّ الاحتلال الاسرائيلي. من جهة أخرى، يرتكز النشاط الاقتصادي لغالبية هؤلاء على الزراعة وفلاحة الأرض، فتؤمّن لهم القوت ومصدر العيش.

الأرض في الجنوب مُنيت أخيرا بخسائر فادحة لم تحظَ بأي اهتمام. فقد وثّقت وزارة البيئة لغاية أوّل نوفمبر/تشرين الثاني، أن إسرائيل أحرقت بالقذائف الفوسفورية 462 هكتارا من الأراضي الزراعية والحرجية في البلدات الجنوبية الحدودية، والخسائر في تصاعد مستمر. وتتمتع هذه المساحة بأهمية بيئية عالية وتشكل مجالا لعشرات آلاف أشجار الزيتون.

والحال، لم يحترق فقط موسم الزيتون الذي باغتته الحرائق قبل أن يحصده الأهالي، ولكن الطبيعة الفوسفورية للقنابل ألحقت أضرارا بالأرض والتربة ستستمر إلى سنوات طويلة مقبلة.

خطة الطوارئ، إلى جانب توقيتها المتأخر بالنسبة إلى معارك القرى الجنوبية، يحيط بها الغموض والعوائق، خصوصا في مصادر تمويلها وقيمته، وسط ترجيح الخبراء أن تعجز الدولة عن توفير التمويل اللازم سواء من خزينتها أو من الجهات الدولية

سقف المعارك

أمام كلّ هذه المعاناة، هل للنزوح أجل مرتقب؟

وضع "حزب الله" قرار توسّع الحرب في ملعب إسرائيل. في الوقت نفسه، يتأكّد الانطباع عن سقوط "قواعد الاشتباك" في موازين المعارك التي خرقت إطار هذه القواعد، وحصدت على الأقل 11 مدنيّا ولم توفّر الصحافة، وتتلاحق أضرارها على البيوت والأراضي.

توطّد هذه العوامل انعدام يقين اللبنانيين، وترمي بمحنة النازحين في مدى غير منظور.

المعلوم في "قواعد الاشتباك" انحصار المناوشات في حدود الفعل وردّ الفعل بالحجم نفسه، والتزام الطرفين القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بعد حرب 2006.

لكن اختراق القرار لا يمنع استعادة دوره في تجنيب لبنان حربا طاحنة.

REUTERS

هذا ما أكده لـ"المجلة" العميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ، المحامي البروفسور بول مرقص.

يذكّر بأنّ "القرار 1701 أتى بناء على توافق محلي إقليمي ودولي، وهو إن جُرّد من مفاعيله عندها يسقط بالمعنى السياسي والميداني وليس بالمعنى القانوني، حيث أنه يبقى ملزما ويُعتدّ به من قبل أي طرف يريد إنفاذ موجبات يتضمنها هذا القرار بوجه الطرف الآخر".

ويتابع أنّ عند خرق القرار مرارا من قبل اسرائيل أو حتى من أي طرف في لبنان فإنه بعد زوال الخرق أو حتى أثناء الخرق يبقى ملزما ولا حاجة لاستصدار قرار ثان بالمضمون عينه.

ويؤكدأنّ أي فشل في هذا المجال لا يعود الى القرار بمضمونه وآليته إنما بقدر كبير لعدم التزام الأطراف به، لا سيما إسرائيل وعدم إتمام مضمونه منذ صدوره وخصوصا لجهة انتشار الجيش اللبناني على نحو واسع وكامل إلى جانب القوات الدولية، مستنتجا "لا أستغرب في حال صدور أي قرار جديد عن مجلس الأمن الدولي أن يعيد تأكيد هذا القرار نظرا لأهميته في رسم قواعد الاشتباك في الجنوب اللبناني".

 

خطة الطوارئ مُعلّقة

في حين لا تتحكم السلطات الرسمية اللبنانية بالمعارك، بقيت "خطة الطوارئ الوطنية" مجالا لتحكّمها بما يمكن التحكم به في حال انزلاق لبنان لحرب شاملة. هذا الإطار من التدخل يستهجنه أهالي القرى الحدودية في الجنوب، معتبرين أنّه يستخف بالحرب الدائرة في مناطقهم وبمعاناة النزوح.

تستند الخطة إلى تجربة حرب 2006، وستنفذ تحت إدارة "اللجنة الوطنية لتنسيق مواجهة الكوارث والأزمات الوطنية لدى رئاسة مجلس الوزراء" و"لجنة التنسيق مع المنظمات الدولية" و"وحدة إدارة أخطار الكوارث".

لكن الخطّة وإلى جانب توقيتها المتأخر بالنسبة إلى معارك القرى الجنوبية، يحيط بها الغموض والعوائق، خصوصا في مصادر تمويلها وقيمته، وسط ترجيح الخبراء أن تعجز الدولة عن توفير التمويل اللازم سواء من خزينتها أو من الجهات الدولية.

في هذا المجال يستبعد الباحث في "الدولية للمعلومات" صادق علويّة أن تكون خطة الطوارئ الوطنية قابلة للتنفيذ، مشيرا لـ"المجلة" إلى أن "ما يمكن تأكيده هو استلزام الخطةتمويلا إضافيا يُقدّر بنحو 200 مليار ليرة، أي ما يقارب 2,339,000 دولار أميركي. واتخذ مجلس الوزراء المنعقد في 1 نوفمبر/تشرين الثاني القرار 21  القاضي بمشروع قانون لفتح اعتماد إضافي استثنائي بالقيمة المذكورة ضمن الموازنة العامة للعام 2023. لكن مجلس الوزراء أحال القرار على مجلس النواب على شكل مرسوم، وبالتالي يمكن اعتبار هذه الخطة معلّقة".

ويلفت إلى أن مجلس النواب اللبناني في الفترة الحالية لا يصدر قوانين منذ بدء الشغور الرئاسي باستثناء 6 قوانين صدرت في ظروف خاصة حكمتها الانقسامات الداخلية.

ويختصر الوضع قائلا إنّ 200 مليار ليرة لزوم خطة الطوارئ الحكومية لم تُقرّ عمليا، مما يعني أن أي احتواء حكومي للحرب بموجب خطة الطوارئ لا يزال حبرا على ورق.

font change

مقالات ذات صلة