مواقف طهران وإعادة توصيف دور "حزب الله"

AFP
AFP

مواقف طهران وإعادة توصيف دور "حزب الله"

الحرب على غزة مستمرة، ومشاهد العدوانية العبثية الإسرائيلية تفوقت على كل مجازر وجرائم الحرب التي ارتكبت على امتداد النزاعات التي عرفتها الدول منذ القرون الوسطى حتى اليوم، بل عبر عصور غابرة سطرت أحداثها أساطير ومدونات لم نستطع تبيان حقيقتها.

همجية إسرائيلية وُضعت في خدمتها أكثر التقنيات العسكرية حداثة، وسط عجز دولي يعبّر عنه صمت فرضته قوة أميركية قاهرة ألزمت حكوماته على تعليق الاستجابة لكل القيم الأخلاقية والإنسانية التي ادّعى حمايتها، بانتظار تحقيق شروط الإخضاع التي لم تستكمل، رغم التدمير والقتل الجماعي.

لم يقوَ كل ما ارتكب بحق الشعب الفلسطيني في غزة وسواها حتى الآن على استئصال أو حتى على التفوق على الخوف الكامن في نفوس كل المشاركين في ولادة وحماية إسرائيل، وليس ما يحصل سوى محاولة يائسة للقضاء على كل مؤشرات الحياة، سوى إمعان في السير بعكس الحتميات التي يفرضها تاريخ وسوسيولوجيا المجتمعات البشرية على مر العصور.

السكون الدولي البالغ حيال الجريمة المتمادية لم يخرقه حتى الآن سوى سيل الاحتجاجات الشعبية التي تعم الشارعين الأوروبي والأميركي- القادرين على إظهار المشاعر الإنسانية وربما مواقف سياسية رغم عجز الحكومات- وتبدّل في المواقف السياسية ظهرت بداياته على المستوى السياسي مع موقف رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز الذي أعلن التزامه بالسعي لتفعيل مسار سياسي عنوانه حلّ الدولتين، وموقف أيرلندي مطالب بوقف التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل، وموقف فرنسي لا زال محصورا في مطالبة إسرائيل بوقف قصف المدنيين دون المطالبة بوقف إطلاق النار.

بالتوازي مع الحرب المفتوحة على قطاع غزة لا يمكن إلا التوقف عند الاشتباكات اليومية التي تجري على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، والتي يتبادلها "حزب الله" مع الجيش الإسرائيلي، ومدى اتّساقها مع الموقف الإيراني الذي تمّ التأكيد عليه

وفيما تسجّل المواقف الأوروبية بعض التطور الإيجابي وإن على المستوى الإعلامي يؤخذ على طهران مزيد من التراجع عن التزاماتها حيال الحرب الدائرة في غزة، بدأته بإعلان التنصل من أي علاقة بالهجوم الذي شنته "حماس" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، واستتبعته بالتنصل من أي علاقة ميدانية لها بالفصائل التي تدعمها في لبنان وسوريا والعراق واليمن. المواقف الإيرانية ربما كان أكثرها صدما ما أعلنته مصادر باسم المرشد علي خامنئي تطلب من إسماعيل هنيّة لدى زيارته الأخيرة لطهران "إسكات الأصوات التي تطالب إيران و"حزب الله" بالتدخل في الحرب ضد إسرائيل، وأن طهران لن تدخل الحرب نيابة عن "حماس"، وأن إيران- التي تدعم "حماس" منذ فترة طويلة- ستواصل تقديم دعمها السياسي والمعنوي للحركة لكن دون التدخل بشكل مباشر". 
هذا بالإضافة إلى أن طهران لم تتبنَ ولم تُصدر أي موقف حيال الهجمات المتكررة التي تتعرض لها القواعد الأميركية في العراق وسوريا والتي تتبناها الميليشيات المرتبطة بطهران.
وبالتوازي مع الحرب المفتوحة على قطاع غزة لا يمكن إلا التوقف عند الاشتباكات اليومية التي تجري على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة، والتي يتبادلها "حزب الله" مع الجيش الإسرائيلي، ومدى اتّساقها مع الموقف الإيراني الذي تمّ التأكيد عليه. وعلى المستوى الميداني لا بدّ من تسجيل مجموعة من التقييدات التي تؤكد على وجود نظام معركة منضبط ومسيطر عليه يحترمه الطرفان بشكل كامل: 
أولها: التزام كل من إسرائيل و"حزب الله" بحصر المواقع المستهدفة ضمن عمق لا يتجاوز القرى الحدودية أو المستوطنات المحاذية للحدود (3 إلى 4 كيلومترات). 
وثانيا: نوعية الأهداف التي لا ترقى إلى أهداف عالية القيمة سواء على المستوى العملياتي أو البنية التحتية الدقيقة (مراكز قيادة وسيطرة، مرافق ذات قيمة اقتصادية، عسكرية أو سياسية هامة...) والاكتفاء باستهداف وحدات برية وآليات منتشرة على الحدود. 

Reuters
قذيفة فوسفورية تنفجر قرب الحدود اللبنانية في 12 نوفمبر


وثالثا: الالتزام بنوعية الأسلحة المستخدمة لجهة القدرة التدميرية واقتصارها على الأسلحة المضادة للدروع وبعض المقذوفات المحدودة. 
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن نماذج المسيّرات المستخدمة في الاشتباكات لا تخرج عن التقييدات المشار إليها. 
من هنا يمكن التساؤل حيال انسجام ما يجري على الجبهة اللبنانية الجنوبية مع المهمة التي أعطيت لها والتي وصفّها أمين عام "حزب الله" بـ"جبهة المساندة" لتخفيف الضغط عن غزة، والتي تلزم إسرائيل بنشر ثلث قواتها على الحدود مع لبنان، وأن توسيع هذه الجبهة مرتبط بتطور الموقف الميداني في غزة. 

من المجدي وضع ما يجري في الجنوب اللبناني ضمن سياق الاستراتيجية الإيرانية التي اعتُمدت منذ ثمانينات القرن الماضي، وهي التمدد إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان، بصرف النظر عن الأهداف المعلنة التي أُخذ بها بعض اللبنانيين لا سيما تحرير فلسطين وبيت المقدس والتصدي للمصالح الأميركية

لا شك أن موقف المرشد الايراني يغني عن الخوض في مدى مطابقة ما يجري على الحدود مع مهمة المساندة التي أعطيت لهذة الجبهة، فحجم التدمير والعدد الهائل من القتلى بين المدنيين الفلسطينيين الذي لم يؤدِ إلى توسيع الاشتباكات أكثر من كافٍ لنفي مهمة المساندة، بل ربما يشكّل ما يجري دافعا قويا للبحث عن مهمة هذه الجبهة وعن الأهداف الحقيقية وراء هذه المشاركة المنضبطة في الحرب. أليس ما يجري في الجنوب هو استكمال لمشهد إقليمي شاءته طهران وتعذّر عليها التعبير عنه في غزة؟ وماذا يعني دور المساندة ومتى ينتهي ومن يحدّد ذلك؟ إذا كانت طهران تنأى بنفسها عن ادّعاء أي دور لها سواء في غزة أو فيما يجري في الجنوب.
قد يكون من المجدي الذهاب إلى وضع ما يجري في الجنوب اللبناني ضمن سياق الاستراتيجية الإيرانية التي اعتُمدت منذ ثمانينات القرن الماضي، وهي التمدد إلى البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان، بصرف النظر عن الأهداف المعلنة التي أُخذ بها بعض اللبنانيين لا سيما تحرير فلسطين وبيت المقدس والتصدي للمصالح الأميركية، أو تثبيت حقوق الأكثرية الشيعية التي أُخذ بها بعض العراقيين أو نظرية تحالف الأقليات التي أدارت بوصلة التوجه السياسي للحكم في دمشق ورضخت لها الأقليات المسيحية والإسلامية في المشرق وأدخلت دوله في صراع مذهبي مع العمق العربي والخليجي، لا سيما بعد صعود فصائل الإسلام السياسي المتطرفة والتي ثبت أن لطهران دورا كبيرا في صعودها. 

ولقد مرّ تطور الدور الإيراني في لبنان بمراحل عديدة يمكن إيجازها بما يلي:
المرحلة الأولى: وهي المرحلة التي بدأت بالاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وخروج منظمة التحرير الفلسطينية وانتهت باتّفاق أوسلو. وكانت هذه الفترة مثالية لطهران لملء الفراغ في الجنوب اللبناني لا سيما أن إسرائيل أبقت على احتلالها حتى عام 2000، وقد حظي تمدد النفوذ الإيراني بدعم كبير من النظام السوري الذي كانت قواته المسلحة تمسك بالأمن والحياة السياسية في لبنان منذ عام 1976.
لقد سُجل في هذه الفترة تصاعد كبير في العمليات النوعية ضد العدو الإسرائيلي، كما سُجل تفجير السفارة الأميركية في بيروت شهر أبريل/نيسان 1983، وتفجير كل من مقر قوات المارينز الأميركية بالقرب من مطار بيروت الدولي ومركز القوة الفرنسية جنوب بيروت يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 1983، وتفجير مقر المخابرات الإسرائيلية في صور يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني. هذه العمليات التي شاركت فيها مجموعات من القوى الوطنية في لبنان، لم يلبث أن تعرض قادتها لعمليات اغتيال حتى تم إقصاؤها بشكل كامل عن العمل الميداني الذي تفرد به "حزب الله" فيما بعد. وقد شهدت هذه المرحلة إعلان الرسالة المفتوحة التأسيسية لـ"حزب الله" يوم 16 فبراير/شباط 1985 وولادة حركة "حماس" يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1987. ولا بد هنا من التذكير بالاشتباكات الدامية بين حركة "أمل"، و"حزب الله" لإقصاء حركة "أمل" والتي استمرت على امتداد عامي 1988 و1989 وتوقفت باتّفاق سوري إيراني. 
المرحلة الثانية: وقد بدأت مع توقيع اتّفاق أوسلو في 13 سبتمبر/أيلول 1993 وإعلان المبادئ بين إسرائيل ومنظمه التحرير الفلسطينية في البيت الأبيض بين عرفات ورابين برعايه الرئيس بيل كلينتون، تحت عنوان "غزة- أريحا أولا". النتيجة كانت إنهاء الانتفاضه الفلسطينية الأولى ودخول أجهزة منظمة التحرير إلى غزة والضفة الغربية ودخول طلائع قوات الأمن الوطني الفلسطيني إلى الأراضي الفلسطينية ليبدأ عمل أول سلطة وطنية فلسطينية بقيادة ياسر عرفات.

تقضي الواقعية بالاعتراف بأن العمليات في الجنوب اللبناني والعراق وسوريا لا ترقى إلى مستوى تخفيف الضغط عن غزة، وأن ما يجري ليس سوى رسائل إيرانية موجّهة للولايات المتحدة عبر أذرعها بهدف محاولة سبر الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة

توّجت هذه المرحلة على صعيد تعزيز النفوذ الإيراني في جنوب لبنان عام 1996 بتصعيد إسرائيلي واسع على لبنان، استمر 16 يوما، وانتهى بوصول وزير الخارجية الأميركي إلى سوريا، فكان إخراج اتّفاق مكتوب سُمّي "تفاهم نيسان" قضى بتحييد المناطق المدنية عن الأعمال العسكرية وتوقف إطلاق النار في 27 أبريل/نيسان 1996. شكّل ذلك الاتّفاق مدخلا لملء فراغ في الجنوب اللبناني اختطفته إيران، حيث كرّس "تفاهم نيسان" اعترافا دوليا بالوجود الإيراني بما يمكن اعتباره المدخل الحقيقي للحقبة الإيرانية في لبنان، هذا بالإضافة إلى أن التنسيق بين سوريا وإيران في هذا الأمر أكسب سوريا دورا عزز تأثيرها على كامل المنطقة. 
والجدير ذكره أنّ الدولة اللبنانية لم تتمكن من المشاركة في أي دور في التصدي للعدو الإسرائيلي خلال تلك الحقبة، حيث سُجلت محاولة لإدخال الجيش إلى الجنوب تم إجهاضها من قبل سوريا واتهام الحكومة بمحاولة عرقلة عمل المقاومة. 

AP
الدخان يتصاعد من بلدة عيتا الشعب في جنوب لبنان بعد تعرضها لقصف اسرائيلي في 13 نوفمبر


وقد شكّلت المحطات التي تلت "تفاهم نيسان" سواء مع الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 أو عدوان يوليو/تموز 2006 دلالات على مسألتين: 
أولاهما: خضوع الإرادة السياسية في لبنان لملء الفراغ في الجنوب بقبول سوريا وطهران. 
والثانية: إمعان "حزب الله" وحلفائه في استخدام النفوذ والسلاح الإيراني في معادلة السلطة، حيث تمثلت ذروة هذا النفوذ باستباحة الحدود وتدخل "حزب الله" في سوريا لدعم نظام بشار الأسد.
يدخل النفوذ الإيراني في لبنان مع الحرب على غزة مرحلته الثالثة التي تُرجمت بداية بالانتقال من دور مهاجمة إسرائيل إلى دور جبهة المساندة بعد المواقف اللافتة من قبل طهران، لتصبح الاشتباكات في الجنوب اللبناني فصلا من المشهد الذي تتصدره عمليات الميليشيات الإيرانية في سوريا والعراق ضد القواعد الأميركية، دون أن تتبنى طهران أي موقف منها. 
تقضي الواقعية بالاعتراف بأن العمليات في الجنوب اللبناني والعراق وسوريا لا ترقى إلى مستوى تخفيف الضغط عن غزة، وأن ما يجري ليس سوى رسائل إيرانية موجّهة للولايات المتحدة عبر أذرعها بهدف محاولة سبر الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة، واستدراج العروض لدور إيراني جديد. 
قد يفترض الدور الإيراني الجديد مهام جديدة للأذرع الإيرانية سواء في لبنان أو في العراق وسوريا. وربما يصبح لزاما على اللبنانيين بعد ذلك محاولة التعرف على الدور الجديد لـ"حزب الله" وربما على "حزب الله" إعادة توصيف الدور الجديد للمقاومة بعد أن تضع الحرب على غزة أوزارها.

font change

مقالات ذات صلة