نزول إسرائيل وإيران عن الشجرة

من "طوفان الأقصى" الى هدنة غزة

Lina Jaradat
Lina Jaradat

نزول إسرائيل وإيران عن الشجرة

فرضت الهدنة في غزة نفسها، وأصبحت خيارا لا بد منه بعد عجز الجيش الإسرائيلي عن الاستجابة للسقوف العالية التي وضعتها القيادة السياسية في إسرائيل لتحقيق أهدافها الوهمية. وأمام تراجع كثير من القوى الغربية الفاعلة عن مواقفها المتسرعة في ضوء نجاح الإعلام العربي في وضع تفاصيل الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل على مدى سبعة أسابيع في متناول الرأي العام العالمي، تجاوز الفشل الميداني السقوف الزمنية المتاحة وأكره حلفاء إسرائيل على التخلي عما اعتبروه حقا لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، كما استنفد كل محاولات الولايات المتحدة في تغطية وتبرير الوحشية الإسرائيلية.

كثيرة هي الدروس المستفادة من الحرب ضد غزة على المستويات كافة، لكن البحث عن الظروف التي أدت إلى الاتفاق على هدنة إنسانية يبدو أكثر جاذبية. لقد بدت الهدنة مستحيلة التحقيق في خضم التصعيد المتعدد المستويات، ثم عادت وفرضت نفسها كمسار أوحد رغم وحشية العدوان والمبالغات الإسرائيلية بتوهم الاستمرار في رفض الاتفاقات الدولية والمبادرات العربية المتصلة بمشروع إقامة دولة فلسطينية، وحتى أي شكل من أشكال السلطة الفلسطينية المستقلة. تمثل الهدنة أمرا واقعا لا يمكن تجاوزه ومنطلقا لمرحلة جديدة من التوازن الفلسطيني الإسرائيلي ضمن إطار عربي فرض نفسه، فما هي مقومات هذه الهدنة وما شروط استدامتها:

أولا: النجاح العربي في السيطرة على مسار التفاوض

هي ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها قطاع غزة لعدوان إسرائيلي، لكنها المرة الأولى التي تتنصل فيها طهران من أي صلة لها بالعمليات التي تخوضها الفصائل الفلسطينية تخطيطا وتنفيذا وتسليحا، وهي المرة الأولى التي يصدر فيها الموقف الإيراني عن المرشد علي خامنئي، والذي كرّره وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان في الأمم المتّحدة وفي كل الجولات الدبلوماسية التي قام بها. الموقف الإيراني لم يكتف بالتنصل من عملية "طوفان الأقصى" بل تنصل من أي وصاية على الفصائل الفلسطينية، مؤكدا على استقلاليتها ومسؤوليتها في اتخاذ القرار الميداني وعلى الدور الريادي لـ"حزب الله".

انتقل الموقف العربي، المصري والأردني والخليجي، من موقع الترقب القلق لما يجري في الميدان- بفعل التباعد العقائدي مع حركة "حماس"- إلى موقع المعني بشكل مباشر بالتطورات

لقد انتقل الموقف العربي، المصري والأردني والخليجي، من موقع الترقب القلق لما يجري في الميدان- بفعل التباعد العقائدي مع حركة "حماس"- إلى موقع المعني بشكل مباشر بالتطورات، لا سيما بعد المواقف الإسرائيلية المطالبة بتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، ومن الضفة الغربية إلى الأردن، كسبيل للتمكن من القضاء على حركة "حماس".

وقد وضع الموقف الإسرائيلي الدول العربية في دائرة الاستهداف، واستدعت المخاطر المترتبة عليه نشوء موقف عربي موحّد لاحتواء المشهد المتفجر في غزة. وقد تمسك الموقف العربي برفض التعرض لحياة المدنيين واحترام القانون الدولي الإنساني والتمسك بحل الدولتين، كما حرص في الوقت نفسه على عدم استثارة الولايات المتحدة والتأكيد على مسؤوليتها لأن ما يجري هو نتيجة طبيعية لعدم إلزام إسرائيل باحترام الاتفاقات الدولية.

Reuters
المرشد الايراني علي خامنئي مجتمعا برئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" في طهران في 21 يونيو

وقد نجحت الدبلوماسية العربية بعد ذلك في إطلاق حركة دبلوماسية واسعة إلى دول القرار لا سيما بعد القمّة العربية- الإسلامية التي عقدت في الرياض يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري. ومما لا شك فيه أن نجاح الموقف العربي في التفرد بحصرية الدور المفاوض استند إلى عاملين: الأول، العدوانية الإسرائيلية غير المبررة والتي تجاوزت حدود الإبادة الجماعية والإصرار على تهجير الفلسطينيين إلى خارج القطاع. والثاني استمرار طهران في التأكيد على عدم صلتها بما يجري في غزة وانفصالها الميداني عن كل الفصائل المسلحة المعنية مما أخرجها تلقائيا من دائرة الوساطة.

ثانيا، سقوط الخيار العسكري الإسرائيلي

قد يكون البحث في أسباب الإخفاق الميداني العملياتي للجيش الإسرائيلي بحاجة إلى توثيق ومناقشة العديد من المناورات المعتمدة والاستماع إلى شهادات لقادة الوحدات المتدخّلة حول الصعوبات التي واجهتها، والتي أدت إلى عجز نظام المعركة المطبّق عن التعامل معها. لكنّ وقائع الميدان تؤكد افتقاد نظام المعركة الذي تعتمده الوحدات الإسرائيلية المرونة المطلوبة، كما تؤكد على إخفاق منظومة القيادة والسيطرة في تقدير المواقف المستجدة وإصدار الأوامر الجديدة وإدارة المعركة لمواجهة المعطيات الطارئة، بما في ذلك ربما استحالة تعديل مهام الدعم الناري والدعم الجوي القريب.

لا بد من تسجيل جملة من عوامل التفوق التي أكدها أداء المقاتلين الفلسطينيين ومنها استدامة القدرة على المواجهة رغم الإمكانات النارية الهائلة للجيش الإسرائيلي

من جهة أخرى، لا بد من تسجيل جملة من عوامل التفوق التي أكدها أداء المقاتلين الفلسطينيين ومنها استدامة القدرة على المواجهة رغم الإمكانات النارية الهائلة للجيش الإسرائيلي، وشجاعة الالتحام مع وحداته المدرعة وإفشال تقدمها، مما يؤكد على تطبيق لامركزية واسعة في نظام القيادة والسيطرة عجز الجيش الإسرائيلي عن التعامل معها وأتاح استخدام الأنفاق كبعد إضافي للمعركة، بالإضافة إلى بعدٍ جديد "ما فوق الأرض" أتاحه الدمار الهائل الذي تسبب به الاستخدام غير المسبوق لكافة الوسائل النارية.

وتؤكد المقارنة بين المواجهات الكثيرة التي عاشها قطاع غزة على نجاح المقاتلين الفلسطينيين في استدراج الجيش الإسرائيلي إلى مواجهات ميدانية قريبة، بما يؤدي إلى حرمانه القدرة على الاستفادة من نقاط قوته وقدراته المدرعة والنارية، وفي المقابل تؤكد التجربة على تراجع قدرة الجيش الإسرائيلي على الإحاطة بنظام المعركة المتجدد للمقاتلين الفلسطينيين واتّخاذ الإجراءات المناسبة، مما أدى ويؤدي إلى فشل ميداني محتم. بالإضافة إلى افتقار إسرائيل في الأساس للعمق الجغرافي الذي يتيح القيام بعمليات عسكرية دون تعريض البنية التحتية الحساسة وحياة المدنيين والمرافق العامة للخطر. هذا العمق الجغرافي تضاءل مع التطور النوعي للسلاح الفلسطيني بحيث أصبحت الأهداف الإسرائيلية الحساسة ذات القيمة المرتفعة متاحة ومهددة في أي وقت.

ثالثا، امتلاك الهدنة لشروط الاستدامة

تمتلك الهدنة المعلنة الشروط الكافية للاستدامة، فقد شكّلت بالدرجة الأولى مخرجا لإسرائيل من نفق المواجهة العسكرية المقفلة الأفق بل أضحت الإنجاز الوحيد الذي مكّنها من المباشرة باستعادة أسراها ومن مواجهة موجة الغضب العارم في الداخل الإسرائيلي ما يجعل التمسك بها مصلحة سياسية إسرائيلية لمواجهة الغضب الدولي حيال هول المجازر المرتكبة بحق المدنيين والدمار الهائل الذي أُلحق بالقطاع. هذا بالإضافة إلى أن المواقف المعلنة التي تؤكد استئناف القتال بعد انتهاء التفاوض هي من ضرورات الانتقال من الخيار العسكري إلى خيار آخر وهي بمثابة سُلَم النجاة للنزول الهادئ والآمن عن شجرة الفوقية الإسرائيلية التي فقدت مقوماتها.

تؤمّن الهدنة للمقاومة الفلسطينية كما للسلطة إطارا لترشيق الهدف السياسي للصراع المستمر ومنصة عربية مشروعة لاستئناف التفاوض.

من جهة أخرى، تؤمّن الهدنة للمقاومة الفلسطينية كما للسلطة إطارا لترشيق الهدف السياسي للصراع المستمر ومنصة عربية مشروعة لاستئناف التفاوض بعيدا عن الإدانات الدولية والاتهامات التي تعيق حركة "حماس" كجزء من الإسلام السياسي المتطرف الذي أضحى ورقة سياسية خاسرة على مستوى المنطقة. وما التعثر المحدود الذي مرت به عملية التبادل في يومها الثاني واللجوء المتكرر من قبل إسرائيل و"حماس" إلى الوساطتين المصرية والقطرية سوى تأكيد على التمسك غير المعلن بالهدنة كخيار نهائي بالرغم من التهديد الشكلي بالعودة للحرب. وتبدو الهدنة محكومة بالاستمرار لأسابيع في ضوء الإلزام الذي تفرضه الحاجة الإسرائيلية لإطلاق سراح كافة الأسرى، وهي مهلة كافية لتهيئة الظروف الدولية للمرحلة المقبلة مما سيتيح المجال للانتقال نحو صيغة قابلة للاستمرار على المستويين الأمني والسياسي.

ما حقيقة الموقف الإيراني من الهدنة المعلنة وما دلالاته؟

لا يمكن إلا التوقف عند الحركة المضطربة للوزير عبداللهيان والتي تبدو كمحاولة لاستجماع الأوراق تمهيدا للدخول مجددا إلى المشهد إن لم يكن من بوابة غزة فعبر الحدود اللبنانية. لقد اعتقدت طهران أن عملية "طوفان الأقصى" ستفضي إلى خسارة مؤكدة لـ"حماس"، وبالتالي فإن التنصل من العملية والإيعاز لـ"حزب الله" بعدم المشاركة سيعزّز موقعها لدى الولايات المتحدة وسيضعها لاحقا في موقع المفاوض النزيه بما يؤسّس لشراكة ودور جديدين لها في المنطقة.

الرسائل الحقيقية التي شاءت طهران توجيهها لواشنطن أتت من خلال تكريس الاستباحة للساحة اللبنانية والتعامل بدونية فاضحة مع من التقاهم عبداللهيان

لقد عاد الوزير عبداللهيان إلى بيروت دون إعلان مسبق يوم 22 من الشهر الجاري أي قبيل سريان العمل بالهدنة في غزة وتزامنا مع مناسبة عيد الاستقلال في لبنان، ولم تكن اللقاءات الشكلية التي عقدها مع كل من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ورئيس المجلس النيابي نبيه بري هي السبب الملح للزيارة.

لكن الرسائل الحقيقية التي شاءت طهران توجيهها لواشنطن أتت من خلال تكريس الاستباحة للساحة اللبنانية والتعامل بدونية فاضحة مع من التقاهم عبداللهيان الذي لم يكلف نفسه عناء المجاملة بالتهنئة باستقلال كيان سياسي أضحى بنظره جزءا من الجمهورية الإسلامية، وكذلك من خلال اللقاءات التي عقدها مع القيّمين على الشأن اللبناني بنظره وهم أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله والأمين العام لحركة "الجهاد الإسلامي" الفلسطينية زياد نخالة، ونائب رئيس حركة "حماس" خليل الحيّة. هذا وقد بلغت الزيارة حدود "الشبق الدبلوماسي" من خلال تكرار موقف سبق أن أعلنه الوزير الإيراني لدى زيارته السابقة لبيروت في 15 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم بأن "قرار توسيع الحرب في لبنان بيد حزب الله".

Reuters
وزير الخارجية الايراني امير حسين عبد اللهيان في بيروت في 22 نوفمبر

وفيما يمكن اعتباره إصرارا إيرانيا على الدخول إلى ملف الهدنة، التقى عبداللهيان في الدوحة بعد زيارته لبيروت رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية، الذي لم يكن طرفا مشاركا في أي من جولات التفاوض التي سبقت إعلان الهدنة. لقد أكد عبداللهيان عبر مقابلة صحافية في قطر حرص طهران على التهدئة ودورها في الهدنة من خلال الاتصالات التي قام بها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لوقف المجازر بحق الشعب الفلسطيني والمبادرات التي أطلقتها طهران بالتنسيق مع الدول الإسلامية ومنها القمّة العربية والإسلامية وقادة دول "بريكس" ومع قطر ومصر ودول أميركا اللاتينية. ولدى سؤاله عن موقف طهران فيما لو طلبت المقاومة من طهران توسيع الحرب استخدم عبداللهيان دبلوماسية "حياكة السجاد" مرددا أن "الشعب الفلسطيني يجب أن يحدد مصيره وفقا للقانون الدولي وأن مساعدة الشعب الفلسطيني والدعم السياسي له هو أساس قانوني وأن حزب الله هو جماعة مؤثرة في لبنان والمنطقة وقد تشكل كنتيجة للاعتداءات المتكررة على لبنان من أجل لبنان والمنطقة وأن ليس لدى طهران أي مجموعة تعمل بالوكالة لصالحها".

وفيما يشبه الالتفاف على الهدنة أكد عبداللهيان في مقابلته الحصرية أن "حماس" مستقرة ولها السيطرة، وهي تقوم بإدارة الحرب رغم مواكبة أميركا ودعمها لإسرائيل وهناك استحالة للقضاء عليها وأن مستقبل غزة يحدده الشعب والمقاومة وأن الولايات المتحدة لا تستطيع اتّخاذ قرار عن الشعب الفلسطيني.

وتجني طهران ثمار موقفها المتسرع من "طوفان الأقصى"، وها هي تحاول التسلل مجددا إلى المشهد الإقليمي من خلال رموز حركة "حماس" التي أضحت خارج معادلة القوة في القطاع منذ ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أو من خلال استحضار عناصر من "كتائب القسام" و"الجهاد الإسلامي" إلى الجنوب اللبناني بصرف النظر عن جدوى وقدرة هذه المناورة على إضافة عامل جديد قابل للاستثمار في إطار الحاجة الدولية لتأمين استقرار الجبهة الشمالية لإسرائيل عبر طهران.

وإذ تخشى طهران استحضار نموذج التهدئة المعقودة في غزة إلى الجنوب اللبناني من قبيل الثقة الدولية بالمبادرات العربية والتزام القرارات الدولية، وهو ما لم تحترمه طهران عبر القفز فوق القرار 1701، فإن عملية "طوفان الأقصى" دفعت طهران إلى النزول الطوعي عن شجرة الممانعة التي احتكرت حصريتها لسنوات، كما أنزلت الهدنة التي تلتها إسرائيل عن شجرة "القوة التي لا تقهر" بصرف النظر عن التطورات والمسارات المعقدة التي ستتخذها الأوضاع في غزة.

font change

مقالات ذات صلة