50 يوما من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة... الدلالات والاحتمالات

لا شيء يقيني بعد في إسرائيل وعند الفلسطينيين

AFP
AFP
قذائف إسرائيلية تتساقط على شمال قطاع غزة في 1 ديسمبر

50 يوما من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة... الدلالات والاحتمالات

مضى 50 يوما على الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة، إذ لا يمكن توصيف الهجوم المباغت، الذي بادرت إليه "حماس" في 7 اكتوبر/تشرين الأول، كحرب، مثلما لا يمكن تفسير حرب الإبادة، التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين كرد على تلك العملية، فقط، رغم أنها الأولى في نوعها من حيث الحجم، والمكان، والقوة، لأن إسرائيل وحدها هي التي تمتلك القدرة والإمكانيات على الحرب، وليس أي طرف فلسطيني آخر.

توصيف الحرب

لنلاحظ، أولا، أن عملية "حماس"، رغم قوتها وجرأتها وأثرها الكبير على صورة الجيش الإسرائيلي، إلا أنها، من الناحية العملياتية، ظلت محدودة في المكان والزمان ونوعية السلاح.

ثانيا، ثمة في إحالة الحرب إلى تلك العملية مبالغة ورغبوية ومخالفة للواقع، إذ إن إسرائيل شنت الحرب، بكل آلتها العسكرية، في كل بقعة من قطاع غزة، حتى مع عمليات القصف الصاروخي، من قبل "حماس"، ضد المدن الإسرائيلية، فشتان بين تأثير القصف من الجهتين.

AFP
خلال إنقاذ رجل من تحت أنقاض مبنى تعرض لقصف إسرائيلي برفح في 1 ديسمبر

ثالثا، واضح أن إصرار إسرائيل على تأريخ الحرب بعملية "حماس" يخدم سرديتها في أن الصراع مع الفلسطينيين بدأ منذ تلك اللحظة، وتاليا تقديم نفسها كضحية، مع احتكار حق الدفاع عن النفس، وإظهار الفلسطينيين كـ"متوحشين" يريدون القضاء عليها، مع بروباغندا إعلامية ثبت دجلها، وذلك للتغطية على حقيقتها كدولة استعمارية وعنصرية وعدوانية في سياساتها إزاء الفلسطينيين من النهر والبحر.

رابعا، عمليا انتقلت "حماس"، بعد يوم الهجوم، من مرحلة الهجوم إلى مرحلة الدفاع، وهذا فارق أساسي.

خامسا، ما يفترض إدراكه أن إسرائيل فرضت حصارها على قطاع غزة، بعد انسحابها الأحادي منه (أواخر 2005)، قبل صعود "حماس"، وسيطرتها كسلطة، إذ الحصار جزء من نهج إسرائيلي، قوامه التطهير العرقي، أو إخفاء الفلسطينيين وراء الجدران، وتهميشهم، وفك أي تواصل بينهم.

في حرب إبادة كالتي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، لا مجال لحديث انتصاري، ولا عن أن المرأة الفلسطينية ولّادة، وتعوض

القصد أن إسرائيل استغلت هجوم "حماس" كفرصة سانحة لها لتحقيق ثلاثة أهداف، الأول: إخضاع الشعب الفلسطيني نهائيا لإملاءاتها، بالتسليم بسيطرتها من النهر إلى البحر. الثاني: إزاحة جزء من الفلسطينيين من أرضهم ووطنهم بكل الطرق، لاستكمال ما لم تنهه في النكبة الأولى (1948)، أي إزاحة وتغييب الفلسطينيين، وضمنه التخفف من الثقل الديموغرافي الذي يشكله 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة الضيق (365 كلم مربع)، في محاولة ترانسفير جديدة، كجزء من عملية إخفاء أو تطهير عرقي أو إبادة. الثالث: تخليق، أو هندسة، مشرق عربي مختلف، بكل تنويعاته، متصالح مع إسرائيل، ويتيح علاقات طبيعية معها في المنطقة (لاحظ الاستثمار في النظام الإيراني وميليشياته بتشريد ملايين السوريين والعراقيين مثلا).

كي ينتظم النقاش

ما تقدم يفيد بضرورة تدارك نظرة قاصرة، أو خاطئة، مفادها أن إسرائيل تستهدف "حماس"، فقط، والتي جري تبنيها في ظل الجوع لانتصار، أو للثأر، من السياسات القهرية والعدوانية والعنصرية الإسرائيلية، إذ إن تلك النظرة، سيما إذا صدرت عن حسابات فصائلية أو آيديولوجيات "إلهية"، تضفي، بشكل غير مقصود، نوعا من مشروعية على ادعاء إسرائيل بأنها تحارب "حماس" فقط، والأخطر من ذلك أنها تبدو كمن لا يحسب الخسائر الباهظة، التي تكبدها الشعب الفلسطيني، والأهوال التي تعرض لها، كأنه شعب آخر أو في مكان آخر.

AFP
الدخان يتصاعد من جنوب قطاع غزة جراء القصف الإسرائيلي في 1 ديسمبر

هذا يخص الكلام المتسرع، المضر، والمتباهي، لدى بعض قياديي "حماس" بأن "المقاومة بخير"، وبأن إسرائيل لم تنجز شيئا في حربها، كونها لم تستطع فرض الاستسلام على "حماس"، ولم تستطع إطلاق إسرائيلي واحد من الأسر أو الحجز، خلال 50 يوما، وهذا جيد طبعا، لكن ماذا في شأن فلسطينيي غزة، الذين تبطش إسرائيل بهم، هل هم بخير حقا؟ وما قيمة غزة بفلسطينيين مشردين، يتوقون لنقطة ماء أو لقمة خبز؟ وما أهمية المقاومة، مع إزاحة فلسطينيي غزة، أو تحويل حياتهم إلى جحيم؟ طبعا لم تنتصر إسرائيل على "حماس"، وهذا جيد أيضا، لكن ذلك لم يمنعها من تحويل غزة إلى مكان غير صالح للعيش.
في حرب إبادة كالتي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، لا مجال لحديث انتصاري، ولا عن أن المرأة الفلسطينية ولّادة، وتعوض؛ ففي ذلك استهانة بحياة البشر وعذاباتهم، ولو عن غير قصد، فلكل شهيد أو جريح أو مفقود، اسم وحياة وأحباب، وكلها أشياء لا يمكن فقدانها ببساطة، ولا تحت أي شعار، والقصد هنا أنه يمكن الحديث عن بطولات وصمود، وقدرة على تدفيع إسرائيل أثمانا باهظة لعدوانها، فقط، وهذا يكفي، أما الانتصار فله شروطه غير المتوفرة عند الفلسطينيين الآن، سيما أنهم وحدهم، في عالم يتفرج عليهم، في هذه المقتلة المهولة.

من المبكر، كما من الصعب، التكهن بمآلات تلك الحرب، أو بالتداعيات التي ستنجم عنها، بالنسبة لكل الأطراف

و"الهدنة"، أشبه بخديعة أو فضيحة دولية، فبينما المطلوب وقف آلة الحرب العدوانية الإسرائيلية، كنا إزاء مجرد استراحة مؤقتة، بالتأكيد كل دقيقة منها كانت مهمة للفلسطيني، لالتقاط الأنفاس والحصول على لقمة خبز وشربة ماء، لكنها في المقابل أعطت لإسرائيل فرصة لتلقيم المدافع، وتعزيز شرعية استمرار الحرب، التي اختزلت بمعركة للإفراج عن أسرى ومحتجزين إسرائيليين، وإدخال مساعدات لفلسطينيي غزة، وبعدها استأنفت إسرائيل حرب الإبادة التي تشنها على الفلسطينيين؛ مع التقدير لكل أسرى الحرية الفلسطينيين الذين تم إطلاقهم، وبانتظار حرية الجميع.

في شأن اليوم التالي

في المحصلة، بعد 50 يوما على حرب إسرائيل الوحشية، أو حرب التطهير العرقي، أو الإبادة، على الفلسطينيين في قطاع غزة، التي جعلت منه، سيما في الشمال، منطقة تكاد تكون غير صالحة للعيش، نتيجة قصفها بعشرات آلاف الأطنان من القنابل المتفجرة، في حرب انتهجت فيها سياسة الأرض المحروقة، ربما لم تشهد مثيلا لها منذ الحربين العالميتين، من المبكر، كما من الصعب، التكهن بمآلات تلك الحرب، أو بالتداعيات التي ستنجم عنها، بالنسبة لكل الأطراف، إذ كل المعطيات والدلائل تشير إلى أن إسرائيل معنية باستمرار هذه الحرب ربما بطريقة أقسى وأكثر تدميرا لفرض إرادتها على الفلسطينيين، وإخضاعهم، وهندسة أحوالهم، وأحوال المنطقة وفقا لرؤيتها لمصالحها.
من الجهة المقابلة يمكن أيضا ملاحظة أن قوات حركة "حماس" (كتائب القسام) مازالت تبدي عنادا، وقدرة، في مواصلة القتال، بدليل استمرارها في الاشتباك مع القوات الإسرائيلية بشكل مباشر، وأيضا من خلال القصف الصاروخي للمدن الإسرائيلية. 

بالنسبة للفلسطينيين، فإن الحرب ستحدد طبيعة النظام السياسي الفلسطيني، وشكل الحركة الوطنية الفلسطينية

على ذلك، فإن تلك الحرب لم تنته بعد، إذ تصر إسرائيل على مواصلة حربها المجنونة ضد فلسطينيي قطاع غزة، التي سيكون لها تداعيات ممتدة ومتداخلة، على كافة الأصعدة؛ فعلى نتائجها ستتحدد على الأغلب، أولا، وجهة إسرائيل، داخليا، بعد كل التصدعات التي حصلت فيها، بحكم الخلاف بين تياراتها، وهذا يشمل مصير تيار اليمين القومي والديني الحاكم، وعلى رأسه بنيامين نتنياهو، كما يأتي ضمن ذلك هندسة علاقاتها مع الفلسطينيين، سواء كانوا من مواطنيها، أو من الفلسطينيين تحت الاحتلال في الضفة وغزة والقدس، بما في ذلك موقفها من الكيان الفلسطيني، أو الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا يتوقف على مدى الحرب، وعلى نتائجها.

AFP
خلال مسيرة في رام الله تضامنا مع قطاع غزة، في 1 ديسمبر

ثانيا، بالنسبة للفلسطينيين، فإن تلك الحرب ستحدد طبيعة النظام السياسي الفلسطيني، وشكل الحركة الوطنية الفلسطينية، مع خطاباتها وأشكال عملها وكفاحها، للمرحلة القادمة، كما ستحدد مصير السلطة الفلسطينية، أو السلطتين. 
ثالثا، بناء على نتائج تلك الحرب سيتم تحديد مكانة حركة "حماس" في الحركة الوطنية الفلسطينية، كما أن ذلك سيعني تحديد مكانة قطاع غزة في إطار الكيان الوطني الفلسطيني، وفقط ما يخشى منه هنا هو قدرة إسرائيل على خلق أوضاع تدفع جزءا من سكان قطاع غزة لمغادرته بطريقة أو بأخرى. 
رابعا، لقد سلطت هذه الحرب الأضواء على قدرة إيران على استخدام ملفات عديدة، لخدمة أجندتها الإقليمية ولصالح تعزيز مكانتها في المنطقة، ما يضع تلك المسألة على قائمة الاستحقاقات عند مختلف الأطراف المعنيين، في المنطقة وخارجها، أكثر من أية فترة مضت؛ فهل انتهت فكرة الاستثمار الأميركي والإسرائيلي في إيران، أم ما زال ثمة ما يمكن استثماره في سياساتها في المشرق العربي من العراق إلى لبنان مرورا بسوريا واليمن؟

AFP
يمنيون خلال مسيرة تضامنية مع غزة بصنعاء في 1 ديسمبر

خامسا، لا شك أن فكرة "وحدة الساحات"، تآكلت وتكشفت عن مجرد شعار، سيما مع نأي إيران بنفسها عن الحرب، لكن ذلك لم يتم حسمه بعد، فهذا ما ستؤكده أو تنفيه التطورات اللاحقة. 
باختصار، لا شيء يقيني بعد، في إسرائيل وعند الفلسطينيين، ولدى الفاعلين الإقليميين، لا في اليوم التالي للحرب، ولا في الأيام الصعبة التالية. الشيء اليقيني فقط أن إسرائيل تلقت ضربة في الصميم، وأن الفلسطينيين مكشوفون إزاء إسرائيل في حربها الوحشية عليهم، فيما هم يجهدون للصمود ما أمكن في أرضهم، لتفويت نكبة أخرى تحاول إسرائيل إنزالها بهم.

font change

مقالات ذات صلة