رائدة طه: لسنا عناوين ولا أضحيات لهذا العالم

تعرض مسرحيتها "ألاقي فين زيك يا علي" في بيروت

Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

رائدة طه: لسنا عناوين ولا أضحيات لهذا العالم

بيروت: اختارت الممثلة والكاتبة والناشطة الفلسطينية رائدة طه خشبة المسرح منبرا لتقول ما تريد ولتدافع عن قضيتها العادلة ضدّ الاحتلال المتمادي لأرضها. تعرض طه حاليا مسرحيتها المونودرامية "ألاقي فين زيك يا علي"(كتابتها وإخراج لينا أبيض) في بيروت حيث التقتها "المجلة" وأجرت معها هذا الحوار.

  • فقدتِ والدك علي طه وأنت في عمر السابعة، شقيقة لثلاث أخوات صغيرات. عاشت العائلة، كما تشيرين في نصك، حالات مشحونة بالقلق والانفعالات، هل أردت من خلال المسرح الإضاءة على هذه القصة؟

كان لاستشهاد والدي الشاب (33 عاما) وأنا لا أزال صغيرة جدا أثر سيئ في نفسي، طفلة لا تفهم معنى القضية والبطولة والتضحية وأهمية النضال، ولا تعرف عن الحق شيئا. لا شيء واضحا عندها سوى أنها فقدت أغلى من في حياتها. رافقني غيابه طوال عمري، وتحكم بحياتي، وطرحتُ أسئلة كثيرة وتملكني غضب كبير. والدتي فتحية أصرّت حيث تربينا في بيروت على أن تعزّز هويتنا الفلسطينية، في اللهجة والثقافة والسلوك، حتى أنها كانت تحمل ثمار الفاكهة وتنسبها إلى مكان زراعتها في فلسطين (القشطة من القدس والعنب من الخليل والجوافة من يافا). كانت أيامنا دروسا يومية عن الوطن والعودة. تردّد أمي دوما بلهجتها الفلسطينية: "إذا إحنا طلعنا من فلسطين، فلسطين ما لازم تطلع منا". أورثتني وجدّاتي وعمّاتي وخالاتي اللواتي لم ألتقهنّ، ذكرياتهن التي حملتها معي وكنت دوما أعيد تشكيلها كأني أعيشها بنفسي.

استدعيت أبي من الغياب وخلعت عنه هالة البطولة وتحدثت إليه وتصالحت معه، ومنذ ذلك الوقت صارت قضيته قضيتي

 

  • من المعروف أن والدك قتل خلال مشاركته في عملية خطف طائرة بلجيكية متجهة من بروكسيل إلى مطار اللد، للضغط من أجل إطلاق سراح أسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية. هل هذا جعل والدك "بطلا" بالنسبة إليك؟ من هو البطل في رأيك؟

البطل هو الثابت، وغير المتساهل، الذي يفترض أن قضية الآخرين أهم من قضيته، فما بالك إذا كانت قضيته هي قضية الآخرين، هو الذي يضحي بحياة ممتلئة بالحب والأطفال ومضيئة وميسورة فيقدمها قربانا لهدفه السامي، للوطن. البطل هو الذي يترك أثرا كبيرا، فيكون بذلك منارة للأجيال.

يتم فلسطيني

  • تروين في المسرحية علاقتك بوالدك، كيف لنص مسرحي يعرض بعد خمسين سنة على عملية اختطاف الطائرة وموت الأب، أن يظل صالحا في 2023؟ هل ترين أن لسان حالك هو لسان حال الفلسطينيين، وان قصتك هي قصة كل طفلة فلسطينية يتيمة؟

طبعا قصتي تشبه قصص الكثيرين، هي مأساة أبناء شعبنا الميتم. أعداد القتلى وبالتالي الأيتام لا يمكن إحصاؤها منذ 75 عاما. لقد عشت مع أمنية وحيدة، كبرت وكبر الغضب معي تجاه كل ما حصل، علاقتي بأبي ظلت شائكة فيها الكثير من العتب والملامة حتى وعيت وفهمت القضية ومعانيها، استدعيت أبي من الغياب وخلعت عنه هالة البطولة وتحدثت إليه وتصالحت معه، ومنذ ذلك الوقت صارت قضيته قضيتي وأيقنت أن الأوطان لا تتحرّر إلا بأبهظ الأثمان.

 

  • بين "صفية" في "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني، والابنة اليتيمة في "ألاقي فين زيك يا علي"، توثقين القضية الفلسطينية، وتشيرين إلى دور المرأة الفلسطينية فيها، هل تمارسين على المسرح فعلا سياسيا هربت منه على أرض الواقع؟

أنا معنية جدا بالمرأة الفلسطينية وقضاياها، فما أنا عليه الآن هو نتيجة تربية مجموعة من النساء، أمي وجدّاتي وعماتي وخالاتي، أليست هي التي تولد هؤلاء الأبطال والبطلات والمقاومين والمقاومات، أليست هي الصابرة القادرة المدبرة المقاومة؟ أمي بمبادئها وثباتها وصلابتها في تربيتنا وإصرارها على أن نتعلم ونعمل ونناضل كل منا من منبره عزّزت ثقتنا وعلمتنا معنى الكرامة كما فعلت أمهات فلسطين بالأمس وكما تفعل أمهات غزة اليوم.

نقد ذاتي

  • تمارسين النقد الذاتي وتبوحين بأنك تخطّيت مرحلة التصفيق الفلسطيني لأي شيء، برايك ألم يكن على الشعب الفلسطيني وأمام هول المجازر في الداخل وقسوة العيش في مخيمات الخارج، أن يكونوا سبّاقين في إعلاء قيمة الإنسان؟

 لأننا اناس طبيعيون، فلا يجب أن تقتصر صورتنا على كوفية وسلاح وحجر، أنا مع النقد الذاتي لأني لا أقبل أن ينظر الآخر إلى الفلسطيني كمادة للتضحية، وكلما قامت الثورة وكثر التهجير والقتل يتزايد تصفيق الجمهور الذي يجد فينا أفكارا حيّة يكتب عنها قصائد ومقالات ومسرحيات وافلاما. لسنا عناوين ولا أضحيات لهذا العالم، وأنا لا أقبل أن يصفق للفلسطيني لأنه فلسطيني بل لكفاءته ومقدراته.

أما بالنسبة لإعلاء قيمة الإنسان، فلا يجب أن يكون هذا واجبنا ولا هاجسنا، نحن طردنا وهجرنا وخسرنا وطننا من هول المؤامرات علينا ومن السكوت والخيانات والمجازر التي ارتكبت بحقنا.. نحن الأجدر بتقديم قضيتنا بالطريقة التي نراها مناسبة، وليعرف العالم أجمع بأنه إذا لم تحل القضية الفلسطينية فلن تحل أية قضية أخرى.

ياسر عرفات

  • ربطتك علاقة عائلية وسياسية بياسر عرفات، صفيه لنا كما كنت ترينه؟ هل أخطأ خلال مسيرته؟

كان ياسر عرفات بالنسبة إليّ الأب الروحي، لقد قام بواجبه الإنساني والوطني والسياسي على أكمل وجه، ربّاني وأخواتي وعلّمنا وزوّجنا، ولكن غياب "علي"  ظلّ لا يُعوض ولا يُستبدل. وعرفات مثله مثل كل الآباء يخطئ ولستُ هنا بوارد أن أعدّد أخطاءه أو أن انتقده ولكني سأختصر القول بأن الثوار ليسوا ملائكة وليسوا مثاليين وخلال مسيرة الثورة ترتكب العديد من الأخطاء ولكنها تنتسى وتموت وتبقى القضية.

  • لماذا اخترت المسرح؟

لم يشجعني أحد حين اخترت المسرح، ولكن الناس الآن على يقين أن المسرح ومعه كل الفنون الجميلة هي نوع من أنواع المقاومة الناجحة والناجعة التي تخترق النفوس والعقول وتحطم الجدران وتلغي الحدود وتطرح قضايا إنسانية مهمة وتناقش إشكاليات فكرية أو جمالية حتى لو لم تقدم حلولا. من تجربتي الطويلة والعميقة مع المسرح، أراه أداة مهمة لحفظ الذاكرة وإحياء المشاعر وترسيخ الحقائق من أجل الأجيال القادمة. ومن هنا نرى أن الكثير من المبدعين والمفكرين الأحرار عبر التاريخ اعتقلوا وهمشوا ونفيوا وقتلوا أيضا لمدى تأثيرهم على محيطهم وقدرتهم على التحريض والتغيير.

عرفات مثله مثل كل الآباء يخطئ ولستُ هنا بوارد أن أعدّد أخطاءه أو أن انتقده ولكني سأختصر القول بأن الثوار ليسوا ملائكة وليسوا مثاليين

محمود درويش

  • حين سئل محمود درويش عن اتفاقية أوسلو، أجاب بابتسامة ماكرة: "أفضل بند في اتفاق أوسلو هو زواج رائدة وسهيل"، أخبرينا عن علاقتك بالشاعر؟

التقيت محمود حين كنت سكرتيرة ياسرعرفات، وتعرفت عليه في تونس، لقد أصبح صديق العائلة وصديق زوجي. أسميه "معلمي" لأني تعلمت منه الكثير، تعلمت ماذا أقرأ وكيف اقرأ، شجعني وقدّر موهبتي في كتابة القصص القصيرة وزاد ثقتي بنفسي ودفعني إلى الاهتمام بالكتابة ونصحني بأن أعطي موهبتي وقتا بقدر ما أعطي وقتا للعمل وللقضية وللآخرين. لقد كان درويش(مع أني لا أحبذ الكلام بلسانه) ضد اتفاقية أوسلو وذلك انطلاقا من معرفته العميقة والمكثفة بإسرائيل وتاريخها والأدب والشعر فيها والدين والثقافة.

  • لا تنقطعين عن زيارة بيروت، ومهما طال غيابك تعودين إليها، ما الذي يربطك بمدينة مسلوبة الإرادة يحكمها سارقوها؟

حبيبتي بيروت، حبها مزروع في قلبي، مثلها مثل أبي علي وفلسطين، لا أسلخها عن جلدي. هي المكان الذي تربيت فيه، هي أول الحب، أول الحياة وأول أشياء كثيرة. شوارعها هي شوارع القدس التي لم أمش فيها، والأصدقاء هم أصدقاء حرمت منهم في القدس. نصف قلبي لبناني ونصفه فلسطيني.

font change

مقالات ذات صلة