بغداد... تنافس انتخابي حصيلته خرابها

عشية انتخاب المجالس المحلية

AFP
AFP
مظاهرة في النجف تأييدا لمقاطعة التيار الصدري انتخابات المجالس المحلية في 14 ديسبمر

بغداد... تنافس انتخابي حصيلته خرابها

تنتشر هذه الأيام في الساحات العامة وعلى الأرصفة وأعمدة الإنارة في الشوارع العراقية، لافتات دعائية لمرشحي انتخابات مجالس المحافظات. واللافت في هذه الدعاية تزاحم صور المرشحين مع صور القيادة السياسية للتحالف الذي يشاركون فيه. وهناك فقط صور أخرى لقيادات حزبية أو سياسية مع رقم القائمة. وهنا تكمن المفارقة؛ إذ إن أغلب هذه القيادات الحزبية أو السياسية أو من تزعم هذه القائمة أو تلك، لا يرتبط بأي علاقة مع المحافظة التي ترفع فيها صورته.

EPA
موظفان في بغداد يجريان تجربة على عملية الاقتراع في انتخابات المجالس المحلية في 25 سبتمبر

يتوهم كثير من السياسيين العراقيين أن "الزعامة السياسية" يمكن أن يتحلى بها أي شخصية سياسية تحصل على منصب سياسي في مؤسسات الدولة التشريعية أو التنفيذية. هذا الوهم لم يأت من فراغ، وإنما هو نتيجة لمنظومة سياسية ترسخت أعرافها بعيدا عن المنتظم الحزبي الذي يمكن أن يكون هو البيئة السياسية التي تحدد من هو "الزعيم السياسي"؛ إذ أصبح منصب رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان أو النائب أو الوزير لمجرد حصوله على هذا العنوان الرسمي، يعتقد أنه أصبح "رجل دولة". ومن ثم، يصبح التنافس مع عناوين ورمزيات سياسية تعيش في وهم الزعامة حقا مكتسبا.

تكاد تكون أغلبية الشخصيات السياسية التي تتزعم التحالفات الانتخابية المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات، من خارج المحافظة التي تزج بصورها في الدعاية الانتخابية

لا أريد الدخول في نقاش الغرور السياسي وعلاقته بوهم الزعامة، فهذا موضوع يستحق مقالا منفردا يناقش هذه الموضوع من منظور علم الاجتماع السياسي. ولكن الغاية من الإشارة إليه ترتبط بالتنافس الانتخابي الذي يشهده العراق بين فترة وأخرى. فعندما ترفع دعايات انتخابية صورا لشخصيات سياسية تترأس قوائم انتخابية، في بغداد على سبيل المثال، من دون أن يكون لها أي ارتباط بهذه المحافظة. وهو قد يكون حاصلا على المقعد البرلماني كونه مرشحا من محافظة أخرى غير بغداد. فهذه إشكالية لا يمكن وصفها إلا بالأوهام السياسية بالزعامة!

AFP
مؤيديو رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر في مظاهرة في مدينة الناصرية لتأكيد مقاطعتهم الانتخابات المحلية في 14 ديسمبر

تكاد تكون أغلبية الشخصيات السياسية التي تتزعم التحالفات الانتخابية المشاركة في انتخابات مجالس المحافظات، من خارج المحافظة التي تزج بصورها في الدعاية الانتخابية. وما عدا بعض القوائم التي يقودها المحافظون، فإن أغلب القوائم تقودها شخصيات لا تنتمي إلى تلك المحافظات لا عشائريا ولا عائليا ولا حتى من خلال السكن فيها. على سبيل المثال، من يقود حزب "تقدم"، محمد الحلبوسي رئيس البرلمان الذي تم عزله بقرار المحكمة الاتحادية، حصل على المقعد النيابي كمرشح من محافظة الرمادي. ورئيس "تحالف العزم" السيد مثنى السامرائي هو نائب عن محافظة صلاح الدين. أما رئيس تحالف "الحسم" ثابت العباسي فقد حصل على المقعد البرلماني- قبل أن يكون وزيرا للدفاع- عن محافظة نينوى. ورئيس "ائتلاف دولة القانون" نوري المالكي لم يرشح عن بغداد إلا في انتخابات 2010 بعد أن حصل على منصب رئيس الوزراء في 2006، وقبل حصوله على المنصب كان مرشحا عن محافظة كربلاء. وكذلك السيد هادي العامري رئيس "تحالف نبني"، لم يدخل التنافس الانتخابي في بغداد إلا عام 2018 وقبل هذا كان يحصل على المقعد النيابي باعتباره مرشحا عن محافظة ديالى. أغلب هذه الانتقالات كانت تأتي بعد الحصول على المنصب السياسي أو الوزاري، وهي مؤشر على الانتقال بالعمل السياسي من الأطراف إلى المركز. 

يعتقد كثيرون أن ترييف المدنية لا تختص به عاصمة دون أخرى من عواصم البلدان العربية، وتحديدا في بدايات منتصف القرن الماضي

وصف التنافس الانتخابي بين المركز والأطراف في الانتخابات العراقية، قد يبدو للوهلة الأولى مجانبا للصواب؛ لأن الأعم الأغلب من الشخصيات التي تهيمن على القرار السياسي وتتنافس سياسيا تنتمي اجتماعيا وثقافيا إلى الأطراف، من دون أن يكون للقوى والشخصيات التي تمثل المركز حضورا قويا في هذا التنافس. ولذلك قد يكون الوصف الأكثر دقة هو صراع بين الأطراف والأطراف. وربما هذا التوصيف هو الأكثر دقة، بيد أن المشكلة لا تكمن في خلو ساحة التنافس من قوى وشخصيات تمثل المركز، وإنما في الثقافة السياسية التي تمثلها قوى المركز والأطراف، وهنا نجد ملامح الصراع واضحة في القيم السياسية التي تحكم المنظومة الحاكمة. 
ويكاد يكون الصراع بين المركز والأطراف من أبرز تجليات أزمة الثقافة السياسية في تاريخ الدولة العراقية التي تشكلت في عشرينات القرن الماضي، وغالبا ما تكون العاصمة بغداد مركزا لهذا الصراع. بغداد هي الحاضرة الأكثر تأثرا بتغيير أنظمة الحكم، وبعبارة أكثر دقة، بتغيير الطبقة الحاكمة. فالعراقيون رغم اختلافهم بشأن حكم عبدالكريم قاسم الذي نجح بقيادة قوة عسكرية غيرت نظام الحكم من الملكية إلى الجمهورية، إلا أن أغلبهم يتفقون على أن حكم العسكر هو بداية التغيير في ملامح الهوية المدنية لبغداد. وربما يكون هذا الادعاء صحيحا، لأن هذا في الحقيقة أدى لصعود طبقة حكم جديدة تعود بأصولها إلى الريف ونقلت عاداته وتقاليده إلى المدنية، بدأت مع تحول نظام الحكم من سيطرة الحزب الواحد (حزب البعث) إلى سيطرة (حكومة القرية/ تكريت) ومن ثم (حكم العشيرة/ عشيرة صدام حسين) وأخيرا (حكم العائلة). كل هذه التحولات انعكست بصورة واضحة على مدنية بغداد منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. 
يعتقد كثيرون أن ترييف المدنية لا تختص به عاصمة دون أخرى من عواصم البلدان العربية، وتحديدا في بدايات منتصف القرن الماضي. لكن آثاره الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية، بدت واضحة وجلية بعد التحولات السياسية سواء كان اسمها "ثورة" أو "انقلاب". تلك الثنائيات التي انشغلنا في تعريفها وتحديدها وتركنا مضمونها وانعكاساتها على بنية النظام السياسي والمجتمع. والتي كان أهمها انسلاخ المدن والعواصم من هويتها الحضارية والثقافية. 

AFP
صورة مرشحة من قائمة "السيادة" على مبنى متضرر في الموصل في 26 نوفمبر

أستمع كثيرا إلى حكايات من عايشوا بغداد بين نهاية ستينات وبداية ثمانينات القرن الماضي، وأجدهم يتحدثون عن معالم حضرية واضحة في جميع المرافق والخدمات العامة. ولذلك أعتمد تلك الروايات للمقارنة بحالة التردي التي نعيشها اليوم في عاصمة العراق، والتي يسكنها أكثر من ثمانية ملايين نسمة ينتشرون في مناطق يتقاسمها سوء الخدمات وانعدام التخطيط الحضري. 

بغداد اليوم مدينة عشوائية، تسودها الفوضى في جميع مرافقها العامة والخاصة. بلا تخطيط عمراني ولا هوية حضارية، ولا حتى تقاسيم واضحة المعالم في الطبقات الاجتماعية

ومنذ عام 2003 انقسمت بغداد إلى "منطقة خضراء" و"منطقة حمراء". الأولى أسسها الأميركيون، وبقيت مقرا للحكومة وأغلب أفراد الطبقة الحاكمة. أما المنطقة الثانية فرغم تلاشي الخطر الذي كان السبب في تسميتها بالحمراء، إلا أنها بقيت تعاني من الإهمال والفوضى وتدهور البنى التحتية، وهي المشكلة الحقيقية في تراكمات الخراب الذي تعاني منه مناطق العاصمة بغداد، مقابل تحصين المنطقة الخضراء، لتبقى تعبر عن الفجوة بين الحاكم والمحكوم. 
بغداد في 2021 من أسوأ مدن العالم التي يمكن العيش فيها حاليا، حيث شهدت العاصمة العراقية أعمال عنف وتدهورا أمنيا متواصلا منذ الغزو الأميركي عام 2003، وبلغت مستويات الفقر والتفاوت الاجتماعي معدلات قياسية، بحسب تقرير مجلة "موي نيغوثيوس إي إيكونوميا" الإسبانية التي أعدت قائمة بأسوأ مدن العالم التي لا يُنصح بالعيش فيها بسبب التدهور الأمني والنزاعات المسلحة وسوء الخدمات وتدني مستوى المعيشة. وفي تقرير مجلة "إيكونوميست" البريطانية بداية شهر مارس/آذار 2023، وصف لبغداد بأنها واحدة من أسوأ عواصم الشرق الأوسط على صعيد حركة السير. 
قد تعتمد تلك التقارير على معايير محددة تقارن فيها بغداد التي شهدت حروب وانتقالات سياسية بمدن أخرى تشهد استقرارا سياسيا واقتصاديا؛ فالخطورة الحقيقية تكمن في انعكاس الصراعات السياسية وتغيير أنظمة الحكم على هوية المدن وطابعها الحضاري، وتلك هي المشكلة الأعقد في مدينة بغداد، والتي تجعل ماضيها أفضل بكثير من حاضرها. 
بغداد اليوم مدينة عشوائية، تسودها الفوضى في جميع مرافقها العامة والخاصة. بلا تخطيط عمراني ولا هوية حضارية، ولا حتى تقاسيم واضحة المعالم في الطبقات الاجتماعية. هذا الواقع هو نتاج طبيعي لحروب عبثية خاضها النظام السابق، وحصار اقتصادي بقيت آثاره على بنية المجتمع وثقافته. وتدخل أجنبي أسقط نظام الحكم وأسس نظاما بديلا عنه تولت فيه السلطة قوى وأحزابا وشخصيات لا علاقة لها بمشروع الدولة.

font change

مقالات ذات صلة