السنّة في لبنان... من تراجع الدور إلى الإنهيار

شكل اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005 نقطة تحول

Aliaa Aboukhaddour
Aliaa Aboukhaddour

السنّة في لبنان... من تراجع الدور إلى الإنهيار

شكل اغتيال الزعيم السنّي رفيق الحريري عام 2005، نقطة تحول في تاريخ لبنان السياسي أوصلنا إلى حقبة جديدة عُرفت بـ"الشيعية السياسية". ومنذ ذلك الحين، يواجه المكون السنّي تحولات تاريخية كان آخرها انسحاب سعد الحريري وتيار المستقبل من الحياة السياسية عام 2022، فأضحت الطائفة السنيّة تفتقد إلى القيادة السياسية ومشرذمة في الداخل والخارج.

ساهمت مجموعة عوامل في تراجع الزعامة السنيّة، كان أبرزها تقدم "محور الممانعة" بقيادة إيران في المنطقة، في مقابل تراجع المحور المقابل. فجاء اجتياح بيروت عام 2008، ليظهر مدى قوة "حزب الله" وتحكمه في مرافق الدولة الحيوية ومنها مطار بيروت، مقابل ضعف مؤسسات الدولة، ما أوصل إلى "اتفاق الدوحة" وبداية مرحلة التنازلات من قبل القيادة السنيّة.

وفي العام 2016 جرت التسوية الرئاسية، وقد تم في سياقها ربط النزاع مع "حزب الله" حول سلاحه، وترافق ذلك مع تورط الدائرة المقربة من الزعامة السنيّة في صفقات المحاصصة والفساد؛ فأصبح مركز رئاسة الحكومة السنّي يدور في فلك "محور الممانعة". ترافقت هذه التنازلات مع تدهور علاقة الزعامة السنيّة مع دول عربية، ووقف للمساعدات الخارجية، وتصفية شركة "سعودي أوجيه" العائدة لسعد الحريري؛ كما نشير إلى أنه- باستثناء "مستقبل ويب"، و"إذاعة الشرق"- لم يبق من إمبراطورية الحريري الإعلامية، أية مؤسسة، بعد أن أعلن تعليق العمل في تلفزيون "المستقبل" بعد 26 عاما من تأسيسه، معللا قراره بأسباب مادية. أما عن مؤسساته الاجتماعية والتربوية، فقد أغلق معظمها، وما تبقى منها تم تسليمه لرئيس "جمعية بيروت للتنمية الاجتماعية" أحمد هاشمية، الذي وقع اتفاق تفاهم مع "مؤسسة الحريري" برئاسة نازك الحريري، تسلم بموجبه الإدارة المالية والتربوية لجميع المدارس التابعة للمؤسسة في بيروت.

الأمر الذي يطرح الكثير من التساؤلات، حول مدى انعكاس تدهور الوضع السياسي على الدور الاقتصادي والاجتماعي للطائفة السنيّة في لبنان، بخاصة مع الانهيار المالي الذي شهده البلد بعد انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 2019.

لقد أدت الانتفاضة المذكورة إلى تقديم سعد الحريري لاستقالته من رئاسة مجلس الوزراء، ووصل بعده حسان دياب مفتقدا لأي حيثية شعبية ومدعوما من "محور الممانعة"، وهو الذي أعلن في مارس/آذار 2020 قرار الحكومة اللبنانية التوقف عن تسديد ديون لبنان من اليوروبوند لأول مرة في تاريخه. وقد اعتمدت حكومة حسان دياب ومن بعدها حكومة نجيب ميقاتي سياسات دعم السلع الأساسية والمحروقات والدواء من خلال توفير العملة الصعبة (الدولارات) من مصرف لبنان، حيث اتسمت هذه السياسات بضعف الفعالية وارتفاع الكلفة، وصبت في مصلحة التجار والمستوردين والمحتكرين (المقربين- بطبيعة الحال- من الشيعية السياسية) بدلا من دعم المواطنين والأُسر المحتاجة، كما شجعت تلك السياسات التهريب إلى سوريا.

يخضع مرفأ بيروت الحيوي لسيطرة "حزب الله"، الأمر الذي يحرم الدولة من رسوم الجمارك ومن العائدات المالية الطائلة، مما يؤدي إلى احتكار التجار الشيعة للدورة الاقتصادية في البلاد

وجاء انفجار مرفأ بيروت عام 2020 مدمرا لقلب المدينة، فتحولت بيروت إلى مدينة منكوبة وأقفلت معظم أسواقها التجارية؛ إذ إننا نشهد ومنذ عام 2005، تخريبا للممتلكات الخاصة والعامة في بيروت من قبل "محور الممانعة"، وتنتشر في أوساط سنيّة بيروتية مقولة "إنهم يحاولون الانتقام من بيروت. يكرهون صورة بيروت التطور والثقافة".
وبحسب تقارير عديدة، يخضع مرفأ بيروت الحيوي لسيطرة "حزب الله"، الأمر الذي يحرم الدولة من رسوم الجمارك ومن العائدات المالية الطائلة، مما يؤدي إلى احتكار التجار الشيعة للدورة الاقتصادية في البلاد عبر المضاربة غير الشرعية من خلال التهرب الجمركي، وذلك على حساب التجار السنّة في بيروت وكل لبنان، الذين يلتزمون بدفع الضرائب والرسوم.
ويقول صلاح سلام، رئيس تحرير جريدة "اللواء" في محاضرة له في المركز الثقافي الإسلامي، عن الوضع الراهن لمدينة بيروت: "سيدة العواصم من أكثر المناطق اللبنانية تخلفا بعد أحياء طرابلس الفقيرة طبعا. شوارعها مظلمة، في حين أن شوارع أصغر القرى مُنارة بنظام الطاقة الشمسية. النفايات تتراكم في الأزقة والطرقات... انتشار السرقات والتعديات على الأملاك العامة والخاصة... أما الإهمال الذي يعاني منه البيارتة فحدّث ولا حرج، يصل إلى حد إقفال المستوصفات البلدية".
وجاءت أزمة المصارف، حيث أدت إلى فقدان الكثير من التجار والمقتدرين السنّة لأموالهم في البنوك، فعلى سبيل المثال يؤكد الباحث السياسي وسام شبلي أن "الأزمة المصرفية أثرت بشكل كبير في البيئة السنيّة"، ويعطي مثالا منطقة البقاع الغربي، "حيث أعلى نسب اغتراب في لبنان، وذلك انطلاقا من معطيات الأرقام الانتخابية، إذ خسر المغتربون السنّة أموالهم بشكل كامل في المصارف اللبنانية". هذا في الوقت الذي عملت به الزعامة السنيّة التقليدية من خلال الحكومات المتعاقبة على بناء الثقة بالقطاع المصرفي، وحيث كان الرأسمال الخليجي داعما لهذا القطاع؛ ففي حين انخرطت البرجوازية السنيّة في القطاع المصرفي، بحسب ما يؤكده الدكتور جوزيف ضاهر في بحث له صادر عن معهد الجامعة الأوروبية في إيطاليا، فقدت المصارف اللبنانية- في المقابل- الثقة بها خلال حقبة الشيعية السياسية، وبخاصة بعد فرض عقوبات أميركية على شركات ومؤسسات ومصارف لبنانية اتهمت بتقديم المساعدة لـ"حزب الله"، مثل "جمال ترست بنك".
كما باتت مؤسسة "القرض الحسن" مثلا، الكيان الرئيس الذي يستخدمه "الحزب" في معاملاته المالية، وأصبحت أيضا، بحسب الباحثة حنين غدار، البديل الافتراضي للمصارف بالنسبة لمناصري "الحزب". وبحسب الباحث في الاقتصاد سليمان كريمة، قام "حزب الله" عبر صيارفة معروفين بانتمائهم له، بوضع يده على جزء من السيولة بالدولار والعملات الأجنبية المتوفرة في الأسواق اللبنانية من خلال شبكة من محال الصيرفة القانونية وغير القانونية في عدد من المناطق اللبنانية، حيث عملت تلك الشبكة على امتصاص سيولة الدولار والمضاربة على سعر الليرة الوطنية.

وبانهيار مؤسسات الدولة، ضُربت شـبكة الأمان الاجـتماعي للمكون الـسنّي ذات الحضور الكثيف، إن كان في وظائف الـدولة أو في المؤســـسات الأمنيـة

ويؤكد كريمة أن الحزب استفاد من انهيار النظام المصرفي من أجل استبدال دور ذلك النظام بالاقتصاد النقدي المفضل لديه (الكاش إيكونومي)، وبحيث يتمكن عبر ذلك من الإمساك بمفاصل الاقتصاد اللبناني والتحرر من القيود المالية والمصرفية على الاستيراد والعمليات التجارية التقليدية القائمة على فتح الاعتمادات والتحويلات، بهدف زيادة حصته في أسواق الاستيراد، وتحرير الدولار الأميركي من المصارف ليسيطر على أكبر قدر من العملة الصعبة في البلاد. الأمر الذي حصل على حساب التجار السنّة المقيدين في تجاراتهم بعمليات النظام المصرفي، دون أن يمتلكوا الموارد لشبكات التمويل، وشبكات حركة الأموال البديلة المشار إليها.
إن خروج الزعامة السنيّة الأولى من الحكم رفع الغطاء عن المراكز السنيّة في الدولة، وتزامن ذلك مع بدء الهجوم عليها وهذا بغض النظر عما إذا كانت شريكة في الفساد أم لا، فبغياب القيادة جرى توجيه الاتهامات لجهة واحدة، في حين أن النواب السنّة الجدد لم يستطيعوا أن يشكلوا سلطة للقرار داخل الدولة.
ويقول الشيخ الدكتور محمد النقري، مدير عام دار الفتوى سابقا، في هذا الإطار: "إن فشل الرئيس سعد الحريري أثر كثيرا على الطائفة، الحريري ابتعد عن ملء الفراغ السنّي في الدولة فرُفع الغطاء عن المناصب السنيّة، لا يوجد زعيم للطائفة السنيّة اليوم، فلا ثقة بالزعماء بعد الرئيس رفيق الحريري. السنّة يشعرون أنهم متروكون، لا زعامة روحية ولا زعامة سياسية. الناس فقدت الأمل في إعادة دور السنّة في لبنان كما كان، دور وطني، فيما في المقابل هناك طوائف أخرى خرجت عن الدور الوطني لصالح مشاريع إقليمية".
ونعطي هنا بعض الأمثلة عن رفع الغطاء عن المناصب السنيّة في الدولة: محاولة التشهير بموقع قيادة قوى الأمن الداخلي المتمثلة في اللواء عماد عثمان نتيجة لتشرذم القرار السنّي في السلطة السياسية. التشويش على موقع النائب العام التمييزي في لبنان غسان عويدات إثر قضية انفجار مرفأ بيروت...
كما خسر المكون السنّي صفقات تجارية ومــــقاولات لصالح الثنائي الـشيعي، فمثلا انـسحاب مقاولين كانـوا قريبين من دائرة الحريري بعضهم ارتبط اســــــمه بصفقات فساد، وحيث وضع على لوائح العقوبات الأميركية. وبانهيار مؤسسات الدولة، ضُربت شـــــــبكة الأمان الاجـــــتماعي للمكون الــــــسنّي ذات الحضور الكثيف، إن كان في وظائف الـــــدولة أو فــي المؤســــــــــسات الأمنيـــــــة. وكــــمثال على ذلك: كانت منطقة عكار تُعرف بأنها الخزان البشري للجيش اللبناني، فانهارت الرواتب والصناديق الاستشفائية كتعاونية موظفي الدولة والضمان الاجتماعي.
كما جرى تسخير المحكمة العسكرية لقمع كل صوت معارض لمحور الممانعة، وتسليط تُهم جاهزة ضد السنّة: الإرهاب والعمالة مع إسرائيل، وكمثال حادثة عشائر العرب في بلدة خلدة مع "حزب الله"، وتحيز المحكمة العسكرية إلى جانب "محور الممانعة". ويؤكد في هذا الإطار رئيس ملتقى بيروت الدكتور فوزي زيدان: "شجبنا الأحكام الجائرة التي أصدرتها المحكمة العسكرية ضد بعض أبناء العشائر العربية، حيث يظهر للعيان أن هذه المحكمة تعاملت مع أحداث خلدة بعين واحدة، ونطالب بحصر مهماتها بمحاكمة العسكريين دون سواهم".
ونسلط الضوء، على أنه جرى ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل بغياب القيادة السنيّة، وجرت مفاوضات لأكثر من عشر سنوات قادها الرئيس نبيه بري، ومن ثم وقع على الاتفاق الرئيس ميشال عون حليف الثنائي الشيعي، وهذا الأمر ستكون له تداعيات في المستقبل عن طريق الاستفادة من الثروة الاقتصادية للنفط التي سوف يحرم منها المكون السنّي بسبب سيطرة النفوذ الشيعي على الملف.

الانعكاسات السلبية للحرب في سوريا والنازحون السوريون الذين تجاوز عددهم المليون، أثر على المناطق السنيّة في عكار وطرابلس والبقاع بشكل خاص

وليس هناك اليوم توازن لعدم وجود المرجعية السنيّة التي ينبغي أن تكون مؤهلة من حيث القدرة، وقوة التمثيل في إحداث هذا التوازن الضروري في الحياة الوطنية.

ولا بد من ذكر عامل آخر ألا وهو استبدال المحفظة العقارية لمناطق سنيّة، بمحفظة عقارية شيعية، وفي هذا الإطار يكشف تقرير لقناة "الحرة" عن سيطرة "حزب الله" على طريق جنوب لبنان، وبخاصة بعد أحداث 7 مايو/أيار 2008، حيث خصص لها ميزانية مالية ضخمة، مقيما من أجلها شبكة تجارة عقارية كبيرة ومتشعبة أدت حتى اليوم إلى سيطرة ميدانية للحزب على هذا الطريق من خلال شراء مجمعات ومراكز وأبنية تابعة له من بيروت حتى مدينة صيدا. وذلك كي يصل إلى هدفه الرئيس بالسيطرة على هذه المناطق وتأمين خطوط مواصلاته وتواصله بين مناطق الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت.

وأظهرت الفترة الممتدة من 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 وحتى اليوم، حجم الأهمية التي يوليها الحزب للطريق الساحلي، والتي وصلت به حد إطلاق طائرات من دون طيار من نوع "مرصاد" فوق رؤوس المتظاهرين في بلدة الناعمة وتصوير عمليات قطع الطرقات، كرسالة منه أنه جاهز للتدخل من أجل الحفاظ على الخط الساحلي سالكا.

بدوره، يذكر التقرير نفسه (الصادر عن قناة "الحرة") معلومات على لسان النائب السابق محمد الحجار، حيث يقول: "حزب الله يقوم بتغيير ديموغرافي على هذا الطريق لتثبيت وجوده وتسهيل سيطرته على مفاصل البلاد، ما كان الطريق أبدا بهذا الشكل من التجمعات والتوتر والحضور لسرايا المقاومة".

Aliaa Aboukhaddour

وبالإجمال، فبعد أن كان الرئيس رفيق الحريري يخصص ميزانية عالية للاستثمار العقاري في لبنان وصيدا وبيروت بشكل خاص، نشهد اليوم تراجع الدور السنّي في هذا المجال وتقدما للنفوذ الشيعي بواسطة "حزب الله".

إلى ذلك، فالانعكاسات السلبية للحرب في سوريا والنازحون السوريون الذين تجاوز عددهم المليون، أثر على المناطق السنيّة في عكار وطرابلس والبقاع بشكل خاص. وبحسب ما يؤكده الباحث وسام شبلي، "فإن النازحين السوريين في لبنان، تواجدوا في بداية الحرب السورية في المناطق السنيّة، ورغم أن هذا الأمر يشكل عبئا كبيرا على ميزانية الدولة وعلى الواقع المالي والاجتماعي والاقتصادي للدولة، إلا أنهم قد دخلوا في الدورة الاقتصادية في هذه المناطق وأصبحوا يستحوذون على 90 في المئة من الأسواق التجارية في المناطق السنيّة، مثلا في بر إلياس، والمصنع، وعرسال، وعكار، والبقاع. مما أدى إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية لدى المكون السنّي في هذه المناطق؛ إذ شكلت تهديدا اقتصاديا من خلال فقدان المكون السنّي لأعماله وتجارته لصالح السوريين"، مع اعتبار أن العادات والتقاليد المختلفة للسوريين تهدد اجتماعيا العائلات السنيّة في هذه المناطق.

ويتابع شبلي، فيقول: "إن سوريا تاريخيا، تشكل العمق الاقتصادي والتجاري للمكون السنّي في مناطق عكار وطرابلس والبقاع الغربي، إلا أن الحرب في سوريا أثرت سلبيا على التجار السنّة بشكل خاص، لأن النظام السوري وحزب الله هما اللذان يمسكان بالحدود اللبنانية- السورية، فأغلقت محلات عديدة أعمالها في المناطق السنيّة واتجهت حركة التجارة لتجار ينتمون إلى حزب الله، وسوريين. وبسبب الجو العام السنّي المعارض للنظام السوري في لبنان، مُنع الكثير من التجار من الدخول إلى سوريا".

توجد مؤسسات اجتماعية واقتصادية رديفة لمؤسسات الدولة في البيئة الشيعية، وتحظى بتمويل خارجي، مثلا مستشفيات متطورة كـ"مستشفى الرسول الأعظم" التي تمتلك تقنيات متقدمة

كما جاء إغلاق الحدود المتكرر من الجانب السوري، إضافة إلى عمليات تهريب الخضراوات والفاكهة بطرق غير شرعية من سوريا إلى لبنان، وكذلك حظر بعض الدول العربية وأبرزها السعودية للمنتجات الزراعية اللبنانية، إذ إن شحنات الفاكهة من لبنان استخدمت لإخفاء المخدرات (شحنة الرمان)، ما حرم المزارع في هذه المناطق من تصريف منتجاته الزراعية. لذلك من المهم جدا رفع الحظر السياسي عن تشغيل مطار القليعات الموجود في المنطقة السنيّة في عكار، كمطار تجاري، ما يجعل من عكار قاعدة اقتصادية على مستوى الشمال، بالتوازي مع مطار بيروت الواقع تحت النفوذ الشيعي.

AFP
مظاهرة لاهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت الذي دمر قلب العاصمة


أما من الناحية الاجتماعية، فالوضع رديء في البيئة السنيّة، فالكثير من المستشفيات والمستوصفات والمدارس والجمعيات تغلق أبوابها، والمتبقي منها يمر بأزمات اقتصادية ومالية حادة، وهناك توجه أكبر للطلاب نحو المدارس والجامعات الرسمية، في ظل تراجع الدعم العربي للبلد وللسنّة بالتحديد.
ويؤكد الشيخ الدكتور محمد النقري، في هذا الإطار، أن "المؤسسات الدينية السنيّة تراجعت كثيرا بسبب الأزمة وانهيار الليرة، وبسبب اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إذ كان يتبرع بمبالغ ضخمة لدار الفتوى، أما اليوم فقد توقف كل دعم خارجي للمؤسسة وبخاصة المساعدات التي كانت تأتي من الخليج". وعلى مستوى المؤسسات التجارية التي استمرت فذلك عائد لامتداد أعمالها التجارية إلى الخارج، كشركة غندور، ومؤسسات السقال... ويتابع النقري، ملاحظا هجرة شبابية للمقتدرين من العائلات البيروتية إلى الخارج، فيقول: "لا توجد عائلة إلا وفيها هجرة، مثلا: الفاخوري، ومنينمة، وعيتاني...". كما يلفت إلى أن "الزكاة قد انخفضت بسبب الأزمة الاقتصادية، فتراجعت المساعدات الاجتماعية لدار الفتوى، وملأت الفراغ جمعيات تابعة لجمعية المشاريع الإسلامية (الأحباش) والجماعة الإسلامية والحركات الصوفية، وكثير من الجمعيات الأخرى".
ويضيف أن "الأحباش هم الأكثر تنظيما، ولديهم نائبان في البرلمان اللبناني، كما أن جمعية عباد الرحمن أيضا فاعلة جدا". ونشير هنا، إلى تموضع "الأحباش" في محور الممانعة واستمرار تحالفها مع النظام السوري.
في المقابل، توجد مؤسسات اجتماعية واقتصادية رديفة لمؤسسات الدولة في البيئة الشيعية، وتحظى بتمويل خارجي، مثلا مستشفيات متطورة كـ"مستشفى الرسول الأعظم" التي تمتلك تقنيات متقدمة. في حين، تمكن "الحزب" من الدخول إلى منطقة عكار، ذات الغالبية السنيّة، مستغلا الأزمة الاجتماعية والاقتصادية وفي ظل الفراغ في الساحة السنيّة، حيث تعمل مؤسساته الاجتماعية في المجالات الإنمائية وتقديم المساعدات؛ فقد قام الحزب في فترة أزمة المحروقات، بمد مناطق وقرى بالمازوت الإيراني الذي وصل إليه، وسُجل له التدخل على خط انفجار خزان الوقود في التليل- عكار والذي وقع عام 2021، فقدم مساعدات مالية لأهالي الضحايا، وكذلك ساهم في تأمين الطاقة الشمسية، وآخر هذه المساعدات الخدمات الصحية والاستشفائية.

يشعر المجتمع السنّي بالإحباط والخوف على المصير وعلى تغيير هوية لبنان أمام ضعف الدولة في مقابل فائض القوة عند المكون الشيعي والمد السوري

ومؤخرا، زادت الهجرة غير الشرعية، من أبناء مدينة طرابلس وعكار السنّة هروبا من الأزمة الاقتصادية وللتفتيش عن حياة أفضل، وذلك بما أصبح يعرف بـ"زوارق الموت". ويؤكد النائب السابق الدكتور مصطفى علوش في هذا السياق، أن "الهجرة غير الشرعية قد ارتفعت بعد انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول، ولكنها كانت موجودة قبلا. وأن الدورة الاقتصادية المحلية للمدينة قد تضاءلت بسبب الأزمة، وتأثرت الأعمال الصغيرة والمتوسطة أيضا بالنزوح السوري بسبب مضاربة الأسعار، وحيث إن قطاع البناء شبه متوقف. ولا توجد مساعدات من دول خارجية إلى طرابلس؛ بما فيها المساعدات الخليجية التي كانت تأتي للمدارس الإسلامية".

وعن الدور التركي يقول: "دعمت تركيا في فترة من الفترات بعض المؤسسات المحلية والجاليات التركية بالفتات، وهذا الأمر لا يكفي". ويتابع: "إن الجمعيات الوحيدة التي تعمل في طرابلس وعكار اليوم هي هيئات الأمم المتحدة المرتبطة باللجوء السوري فقط". ويشدد دكتور علوش على أن "الانهيار الحاصل في الدولة أدى إلى خسارة الزعامات السنيّة التقليدية، لأنها مرتبطة بوجود الدولة وخدماتها".

أما مدينة صيدا ذات الأغلبية السنيّة، فتعاني أزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية، فترفع جمعية تجار صيدا وضواحيها الصوت عاليا، نظرا لما يعانيه القطاع التجاري، بعدما أطاحت الأزمة المالية بمقومات استمراريته اقتطاعا أو حجزا أو تقنينا لودائعه وتقييدا لمعاملاته المصرفية وارتفاعا جنونيا في كلفة الخدمات التشغيلية ولا سيما الكهرباء والمحروقات، ودولارا جمركيا وإيجارات ورواتب وأجورا وضرائب ورسوما، ما كان نتيجته تعثر مزيد من المؤسسات التجارية.

كما أننا نلاحظ، غياب الزعامة السنيّة عن القرار داخل المدينة، فبعد أن كانت النائبة السابقة بهية الحريري قطبا فاعلا في مدينة صيدا، نشهد اليوم تقدما لدور الثنائي الشيعي، وكمثال على ذلك، الأحداث الأمنية المتتالية في مخيم عين الحلوة للنازحين الفلسطينيين، حيث يدور الصراع على السيطرة داخل المخيم من دون تجاهل دعم "حزب الله" للحركات الإسلامية المتشددة كورقة يستعملها في الصراع السياسي، وظهر مؤخرا الدور المتقدم لرئيس مجلس النواب نبيه بري في مسعاه لوقف إطلاق النار داخل المخيم.

بالخلاصة، يشعر المجتمع السنّي بالإحباط والخوف على المصير وعلى تغيير هوية لبنان أمام ضعف الدولة في مقابل فائض القوة عند المكون الشيعي والمد السوري، وأن حل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المكون السنّي بشكل خاص ومعظم اللبنانيين بشكل عام، يكون من خلال إيجاد حل للأزمة السياسية التي يعاني منها لبنان، ولاختلال التوازن الداخلي في قلب السلطة السياسية، مع ما ينتج عن ذلك من تفكك الدولة.

font change

مقالات ذات صلة