سرقة الودائع في لبنان تتطلب محكمة دولية لا صندوق النقد

الإصلاح موجع للمصارف التي تطالب بالمسؤولية الجماعية مع الدولة والبنك المركزي

سرقة الودائع في لبنان تتطلب محكمة دولية لا صندوق النقد

كشف النقاب أخيرا في لبنان عن مشروع قانون يتعلق بإصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها، أعدته لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان. أثار المشروع انتقاد جمعية مصارف لبنان التي سجلت اعتراضها على الكثير مما ورد فيه، بما يستأهل التعليق والتحليل والتذكير، لجهة المسؤوليات عن الكارثة المالية التي ألمت بالبلاد.

أولا، ذكرت الجمعية بداية "أن المشروع يرمي إلى تحميل المصارف مسؤولية الأزمة المالية النظامية التي تسببت بها سياسة الدولة ومصرف لبنان الخاطئتان باستخدام توظيفات المصارف لديهما بالدولار لتثبيت سعر الصرف وتغطية مصاريف عامة مع التخلف عن سدادها، مما حال دون رد المصارف للودائع إلى أصحابها".

هذا كلام غير دقيق، فالقاصي والداني يعلمان أن المصارف هي المسؤولة الأولى عن الأزمة الحاضرة وتفاقمها بمخالفتها القوانين ومشاركتها مصرف لبنان مخالفة القوانين.

فقد خرجت المصارف عن موضوعها الأساسي المحدد في القانون، وهو توظيف ودائعها لدى القطاع الخاص لتنمية الاقتصاد، إذ وظفت ما يتجاوز 75 في المئة من هذه الودائع في إصدارات آجلة للخزينة ولمصرف لبنان، مما يندرج ضمن إطار نشاطات مصارف التسليف المتوسط والطويل الأجل.

AFP
مدخل مقر جمعية مصارف لبنان، الذي صار حائط مبكى المودعين

وخلافا للقواعد التي تحظر على المصرف التجاري تجاوز الاعتمادات الممنوحة بشكل مباشر وغير مباشر لشخص واحد نسبة 30 في المئة من أموال المصرف الخاصة، وأيضا، خلافا للقواعد الاحترازية التي تطالب المصرف بمواءمة آجال إيداع الودائع والقروض، وبتكوين نسب سيولة عالية في حال التعامل بودائع بالعملات الاجنبية لعدم توافر"المقرض الأخير" المليء بهذه العملات، والقادر على تأمين سيولتها عند الاقتضاء. كلها أمور لفتت إليها وإلى أخطارها تقارير صندوق النقد الدولي. علما أن الرئيس السابق لجمعية المصارف، الدكتور فرنسوا باسيل، كان قد حذر عام 2014 من تمويل المصارف لطبقة سياسية فاسدة، وقد اختارت إدارات غالبية فروع المصارف الأجنبية الانسحاب من السوق اللبناني على الانغماس بالمغامرة القاتلة التي قامت بها المصارف الاخرى.

من الضروري تحميل المصرفيين المسؤولية الكاملة، أكانت مدنية أم جزائية، عن أفعالهم في حالة ارتكابهم المخالفات القانونية. ويجب ألا يكونوا قادرين على الإفلات من العقوبات بدفع الغرامات فقط فتدبير كهذا أثبت محدوديته

كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي

أيضا شارك العديد من المصارف في الهندسات المالية التي أطلقها مصرف لبنان لكي يستقطب ودائع المصارف لدى مراسليها إلى صناديقه، خلافا للنصوص القانونية التي تمنعه كتاجر من الاقتراض مع فقدان رأس المال. وقد قدر الاقتصادي توفيق كسبار عوائد هذه الهندسات بما لا يقل عن 30 مليار دولار لم تظهر في موازناتها.

"المقصلة" لأموال المودعين

كذلك عمدت المصارف، بطلب من مصرف لبنان ومن دون أي اعتراض منها، الى تكوين توظيفات إلزامية بالعملات الأجنبية لديه، في مقابل فوائد مجزية، خلافا للقانون الذي لا يتحدث سوى عن تكوينها لاحتياطات إلزامية من دون أي عائد. وتبلغ قيمة هذه التوظيفات حاليا نحو 8 مليارات دولار.

وعند اندلاع الأزمة، مارست المصارف "مقصلة " استنسابية. إذ سهلت للسياسيين والنافذين وعلى نحو غير قانوني تحويل مبالغ طائلة الى الخارج، وهو أمر يعاقب عليه قانون العقوبات. وقد أشار إلى هذه الاستنسابية صراحة حاكم مصرف لبنان في أحد كتبه إلى وزير المالية بعد أشهر من اندلاع الأزمة في أكتوبر/تشرين الأول 2019، لكن من دون اتخاذ أي اجراء لوقفها، بدليل تأكيد نائب رئيس مجلس النواب، الياس بو صعب، أخيرا في كلمة له من مجلس النواب، "أن هناك عددا كبيرا من النافذين في لبنان لا يزالون يرسلون أموالهم إلى الخارج، منهم سياسيون ورجال أعمال وضباط وقضاة" كما قال. ولا توجد إحصاءات رسمية بالقيمة الإجمالية لهذه التحويلات بما فيها التحويلات الائتمانية، وإن كانت بعض الدراسات تشير إلى مبلغ لا يقل عن 8 مليارات دولار.

للمزيد إقرأ: بيروت: دراجات نارية ومصارف قاتلة

AP

من جهة أخرى استفادت مصارف عديدة من تعميم أصدره مصرف لبنان ومطعون في قانونيته، يطالبها بقبول تسديد الأقساط أو الدفعات المستحقة من قروض التجزئة الممنوحة بالعملات الأجنبية لغايات شخصية أو سكنية، وفي حدود معينة على أساس 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد (يبلغ حاليا نحو 90,000 ليرة لبنانية)، فوسعت إطار هذا التعميم ليشمل من دون حق إيفاء قروض تجارية وقروض مستحقة لسياسيين ونافذين، مما نجم عنه انخفاض حاد في حجم القروض للقطاع الخاص بنحو 30 مليار دولار.

يقارب مجموع المبالغ السابقة حجمَ الفجوة الموجودة في حسابات مصرف لبنان وتتجاوز نسبة 80 في المئة من مجموع الودائع المسجلة في موازنات المصارف.

ثانيا، ذكرت جمعية المصارف أنه "لا يجوز إخضاع المصارف، كما ينص مشروع القانون، لمهل قصيرة، تعيد خلالها تكوين مراكزها المالية تحت طائلة التصفية. فالمصارف تحاول امتصاص خسائر لم تتسبب بها وتقتضي مساعدتها لا معاقبتها".

هذا كلام غير صحيح، فالتعميم الأساسي الرقم 154 طالبها بإﻋﺎدة ﺘﻔﻌﻴل ﻨﺸﺎطﺎﺘﻬﺎ وﺨــدﻤﺎﺘﻬﺎ لعملائها منذ منتصف عام 2020.

حجز أموال المساهمين

ثالثا، شددت الجمعية في كتابها على "أنه لا يجوز تحميل إدارات المصارف ومساهميها الكبار والمفوضين بالتوقيع ومفوضي مراقبة المصارف مسؤولية الأزمة وحجز أموالهم". 

وهذا قول لا يستقيم مع دعوات مسؤولين عدة بضرورة معاقبة المرتكبين والمقصرين وأهمية ذلك في أي عملية إصلاح مصرفي.

وقد ذكرت كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، خلال ندوة نظمها الاحتياطي الفيديرالي في تاريخ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وكانت حينها المدير العام لصندوق النقد الدولي أنه "من الضروري تحميل المصرفيين المسؤولية الكاملة، أكانت مدنية أم جزائية، عن أفعالهم في حالة ارتكابهم المخالفات القانونية. ويجب ألا يكونوا قادرين على الإفلات من العقوبات بدفع الغرامات فقط فتدبير كهذا أثبت محدوديته".

وكان البروفسور دانيال تارولو، استاذ القانون في  كلية القانون في جامعة هارفرد، والعضو السابق في مجلس الاحتياطي الفيديرالي، ذكر "أن الانتظام المصرفي الصحيح لا يرتكز فقط على ضرورة توافر المعايير الموضوعية التقليدية كرأس المال والسيولة والملاءة واختبارات الإجهاد، وضمان الفصل بين نشاط المصرف التجاري والاستثماري وغيره، بل أيضا على ضمان وجود قيادات مصرفية لا شائبة على سلوكها المهني في إدارات المصارف، ويجب عند انحراف هؤلاء أن يحظروا علنا من ممارسة العمل المصرفي، وأن يلاحقوا جزائيا ويسجنوا تماما كما يحصل مع الافراد".

لا شيء يضيع أو يتبخر، بل يتحول من حالة الى أخرى، كذلك هي ودائع المودعين فهي لم تتبخر بل هي موجودة ومستقرة في جيوب وحسابات وأصول تعود الى المستفيدين من التسبب بالأزمة وتفاقمها

هذا ما فعلته أيسلندا بحسب رئيسها السابق، أولافور راغنار غريمسون، الذي أعلن في دافوس أن خطة بلاده لتجاوز الأزمة هدفت بعنوانها الرئيسي إلى معاقبة المرتكبين والمقصرين ومصادرة ممتلكاتهم وأموالهم حتى في الملاذات الضريبية وإعلان بلاده "دولة قانون"، فكان هذا الحل السحري لعودتها إلى الأسواق المالية سريعا واكتساب الثقة بها. وكانت النتيجة خروج أيسلندا بعد 8 سنوات من أزمتها المالية بتحقيق أعلى وأسرع نمو في العالم في الناتج المحلي الإجمالي، بلغ 7,2 في المئة، في حين أن لبنان يدخل السنة الخامسة من أزمته، ولا تحقيقات قضائية في خصوصها ولا توقيفات، ولا مصادرات ولا تشريعات للخروج منها. وتشير تقديرات غاربيس إيرديان، كبير اقتصاديي مؤسسة التمويل الدولية، إلى أن التوقعات لناتجه المحلي الإجمالي سيكون سالبا للعام 2023 وبمقدار (7-).

المسؤولية بالتكافل والتضامن مع السياسيين

رابعا، ذكرت جمعية المصارف "أن المسؤولية يجب أن تطال بسبب التقصير كل المشاركين في القرارات المؤثرة في مصير المصارف"، أي السلطة السياسية من نواب ووزراء ورؤوساء حكومات، وأيضا السلطات المصرفية، أي مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف.

كلام صحيح، لكن يجب قراءته على أنه مكمل لمسؤولية المصرفيين لتظهير المشهد العام على حقيقته والمتمثل في ارتكاب كل الأفرقاء السابقين، فرادى وبالتكافل والتضامن، العديد من المخالفات القانونية، التي أفضت إلى نقل ثروة المودعين إلى فريق آخر، افراده السياسيون والنافذون وقوى الأمر الواقع والمصرفيون.

AFP

وكما يقول المثل الفرنسي الشهير، لا شيء يضيع أو يتبخر، بل يتحول من حالة الى أخرى، كذلك هي ودائع المودعين فهي لم تتبخر بل هي موجودة ومستقرة في جيوب وحسابات وأصول تعود الى المستفيدين من التسبب بالأزمة وتفاقمها.

لا تتطلب استعادة هذه الودائع إقرار مشاريع توصف بأنها إصلاحية ومتفق عليها مع صندوق النقد الدولي وحقيقتها أنها للتغطية والتعمية على التجاوزات والمنهبة التاريخية وباكورتها تعديلات قانون السرية المصرفية الذي وضع اصلا لحماية الودائع فبات كما هو معروف اداة لعرقلة التحقيق للكشف عمن نهبها.

لقد عرضت صحيفة "واشنطن بوست"، في مقال نشرته بتاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول 2021 التشابك الثلاثي، السياسي والإداري والمصرفي، القائم في لبنان، فذكرت "أن في لبنان تركيزا عالي المستوى في القطاع المصرفي، إذ يعمل فيه 54 مصرفاً تجارياً، 20 منها تمتلك نسبة 99 في المئة من أصول المصارف الموحدة، و18 من هذه المصارف العشرين لديها مساهمون رئيسيون مرتبطون بالنخب السياسية، وتعود نسبة 43 في المئة من أصول القطاع المصرفي إلى أفراد وعائلات مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسياسيين. وتسيطر ثماني عائلات سياسية فقط على نسبة 32 في المئة من الأصول المصرفية الإجمالية".

وأشارت الصحيفة في مقالها بعنوان عريض إلى "أن ادارة المصرف المركزي نفذت مخططا لإثراء السياسيين"،وهو أمر متوقع، فهذه الإدارة يتم تعيينها بأخذ رأي السياسيين، وعادة ما يراعي أفرادها مصالح السياسيين الذين رشحوهم في المصارف التي يرتبط الأخيرون بها أملا بتجديد ترشيحهم لولاية ثانية. مراعاة القيمين على المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف، لا تتوقف على السياسيين، بل تتعداهم إلى المصرفيين بحسب رأي البروفسور بيتر كانز، استاذ القانون الاقتصادي في جامعة برن، الذي يرى أن التعيين سيكون مرحلة تدريب متقدمة للطامحين للانتقال إلى المصارف الكبرى بعد الولاية، مما يجعلهم أكثر ليونة مع هذه المصارف كونها تشكل أرباب عمل محتملين مستقبلا. وهذا ما حصل بالفعل مع غالبية نواب الحاكم وأعضاء لجنة الرقابة السابقين، إذ التحقوا، على الرغم من الحظر المفروض عليهم بعدم الانتماء الى أي مصرف أو مؤسسة مالية قبل انقضاء سنتين على انتهاء الولاية، بمصارف قامت بتعيينهم مستشارين في مرحلة أولى، ولاحقا في الإدارة العليا وفي مجلس الإدارة.

للمزيد إقرأ: "لعبة الحرب" في اقتصاد لبنان: هل يأبه "حزب الله"؟

التشابك الثلاثي السياسي والإداري والمصرفي الذي أوضحته "واشنطن بوست"يتعذر بسببه، لا بل من المستحيل تمرير أي قانون إصلاحي، لأن قانونا كهذا يتطلب رد أموال تم اكتسابها بطريقة غير شرعية مثل التحويل الاستنسابي الى الخارج وتسديد القروض على سعر صرف للدولار جد متدنٍّ عن سعر صرفه الواقعي، أو الاستفادة من هندسات مالية غير قانونية أطلقها مصرف لبنان، وغيره. وكلها أمور قام بها الوزراء والنواب أو مقربون منهم، ومن المؤكد أنهم لن يصوتوا على أي مشروع يفرض رد ما تم اكتسابه من هذه العمليات. علما ان نظامي عمل مجلس الوزراء والمجلس النيابي لا يتضمنان أية قواعد تتعلق بمراعاة المناقشات والتصويت على المقررات فيهما لأدبيات متعارف عليها في العديد من الدول مثل تضارب المصالح وغيرها، تحت طائل بطلان المناقشات والتصويت. لا بل أن المتداول به راهنا مشاريع تمويه وتعمية على العمليات غير المشروعة التي جرى الاتيان بها لتشريعها كمشروع فرض ضريبة متأخرة على القروض بالدولار التي تم تسديدها على أسعار صرف متدنية عن الأسعار الواقعية، مما يكسب عمليات السداد المسبق هذه الشرعية المفقودة.

لم يتبق أمام اللبنانيين سوى الضغط لمطالبة المجتمع الدولي بالسعي الى إنشاء محكمة دولية تقتصر مهمتها على التحقيق وإصدار الأحكام بالمتسببين في حصول الجريمة المرتكبة ضد الإنسانية في هذا البلد

مطلوب محكمة مالية دولية

أمام واقع الاطباق الكامل للتشابك الثلاثي على الأمور في لبنان وعجز القضاء عن التصدي لانحرافات هذا التشابك بصريح إعلان وزير العدل "بأن القضاء ليس بخير"، وإعلان رئيس المجلس النيابي نبيه بري "أن الضعيف فقط يراجع القضاء في لبنان"، لم يتبق أمام اللبنانيين سوى الضغط لمطالبة المجتمع الدولي بالسعي الى إنشاء محكمة دولية تقتصر مهمتها على التحقيق وإصدار الأحكام بالمتسببين في حصول الجريمة المرتكبة ضد الإنسانية في هذا البلد وتفاقمها من خلال الإبادة المالية لثروات المودعين في المصارف اللبنانية ونهبها. 

من المفيد في هذا المضمار أن يصار إلى الضغط على إدارة صندوق النقد لوقف أي نقاش مع السلطات اللبنانية، كون تدخل الصندوق مرهونا بحصول صدمات اقتصادية ومالية، وليس بحدوث ارتكابات ومخالفات يعاقب عليها القانون، ويشير إلى سبل معالجتها. لكن التشابك الثلاثي القائم يحول دون هذه المعالجة. ولربما ضغط إدارة الصندوق في اتجاه إنشاء المحكمة الدولية المقترحة، قد يؤدي إلى طي صفحة تقصير الصندوق باتخاذ القرار اللازم تجاه اللبنانيين بعد اكتشافه أن لبنان وصل إلى حافة الهاوية، كما أبلغ ممثله ألفارو بيرريس الى الحاكم السابق لمصرف لبنان في أبريل/نيسان 2016.

font change

مقالات ذات صلة