"حماس" تتمدد لبنانيا وتدخل سلفيين إلى الميدان... و"حزب الله" يخرجهم

تعتيم كامل على مقتل أربعة سلفيين بينهم تركيان

AFP
AFP
القيادي في "حماس" صالح العاروري اثناء اجتماع بالامين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله وزعيم حركة "الجهاد الاسلامي" في الضاحية الجنوبية لبيروت في الثاني من سبتمبر

"حماس" تتمدد لبنانيا وتدخل سلفيين إلى الميدان... و"حزب الله" يخرجهم

لم تكن الخطوة التي أقدمت عليها حركة "حماس"، والمتمثلة في الإعلان عن تأسيس "طلائع طوفان الأقصى"، هي الأولى من نوعها لها في لبنان. لكنها كانت الأوضح. وهذا ما يفسر ردود الفعل السياسية اللبنانية الرافضة لها والتي أجبرت قادة الحركة في لبنان على التراجع عنها بطريقة مواربة، من خلال الظهور الإعلامي المكثف للتوضيح بأن هذا التشكيل مدني وليس عسكريا.

تدرجت "حماس" في نشاطها الأمني والعسكري في لبنان، من قيام "كتائب عز الدين القسام" بقصف المستعمرات الإسرائيلية الشمالية من الجانب اللبناني. مرورا بمقتل شاب لبناني من أصول فلسطينية، ينتمي إلى "حماس" التي نعته ببيان رسمي، بنيران إسرائيلية حينما كان برفقة إعلاميين إيرانيين. ثم إشراك الجماعة الإسلامية في المناوشات الحدودية بشكل مفاجئ. وصولا إلى مقتل أربعة شبان منتمين إلى التيار السلفي (لبنانيان وتركيان) حين كانوا بصحبة قيادي في "القسام" مقيم في لبنان، بعدما استهدفته مسيرة إسرائيلية.

Reuters
جثمان احد ضحايا الغارة الاسرائيلية بعد الصلاة عليه في طرابلس في 21 نوفمبر

يأتي ذلك إلى جانب اتخاذ "حماس" للعاصمة بيروت مركزا للنشاط الإعلامي والتعبوي، انطلاقا من كونها "عاصمة محور الممانعة"، حسب توصيف وسائل الإعلام المقربة من "حزب الله". واللافت أن الأخير التزم الصمت، ما يؤكد دعمه وتغطيته لتحركات "حماس" على الأراضي اللبنانية، وتخليه عن المحظورات التي كانت تقيد عمل الفصائل الفلسطينية، بسبب الحساسيات الداخلية اللبنانية.

واللافت أكثر هو أن مقتل الشبان السلفيين الأربعة أحيط بتعتيم كبير من كل الأطراف المعنية بالقضية: "حزب الله" المسيطر على الحدود اللبنانية الجنوبية، والسلطات اللبنانية، والدولة التركية، وتيارات الإسلام السياسي في لبنان. وانسحب الأمر على وسائل الإعلام اللبنانية التي بالكاد أورد بعضها الخبر وبشكل مقتضب للغاية.

يدفع الأمر إلى التساؤل عن سر هذا التعتيم، كما حول التيار السلفي وحركات الإسلام السياسي، هل تخطت خصومتها الآيديولوجية مع "حزب الله" ودخلت المعارك إلى جانبه؟ وما دور حركة "حماس" في ذلك؟

الإسلام السياسي اللبناني

بداية لا بد من التوضيح بأن حركات الإسلام السياسي في لبنان محدودة الحضور والتأثير. ذلك أن السنة يميلون تقليديا إلى الاعتدال في بلد ذي توازنات طائفية ومذهبية شديدة الحساسية والتعقيد. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال وجود ثلاثة نواب فقط من أصل 27 نائبا سنيا يمثلون تيارات الإسلام السياسي.

التيارات السلفية ضعيفة الحضور من الناحية السياسية، غير أن لديها تأثيرا معنويا كبيرا في مدن الشمال، حيث الثقل السني، وخاصة في مدينة طرابلس، التي تعد موئل تيارات الإسلام السياسي

اثنان منهما ينتميان إلى "جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية"، وهي حركة صوفية أشعرية، لديها حضور واسع في مخيمات الشتات الفلسطيني، إنما تحرص على عدم اتخاذ مواقف سياسية حادة. ونائب فقط لـ"الجماعة الإسلامية"، وهو تنظيم قديم، ينتمي إلى جماعة "الإخوان المسلمين". وكذلك "حماس" كانت محدودة الحضور في مخيمات الشتات، باستثناء القليل منها في الجنوب اللبناني الأقرب إلى فلسطين المحتلة لكنها بدأت في توسيع  حضورها على الساحة اللبنانية عقب انتخاباتها الداخلية عام 2017، والتحول الذي أفضت إليه بوصول يحيى السنوار وصالح العاروري إلى المكتب السياسي، ورؤيتهما الداعية إلى توطيد عرى التحالف مع إيران و"حزب الله"، خاصة بعيد الانفتاح التركي على الدول العربية، والضغوط التي تعرض لها بعض قادتها المقيمين هناك، وأبرزهم العاروري نفسه الذي انتقل للإقامة في لبنان. 

AFP
مظاهرة دعت اليها حركة "حماس" في مدينة صيدا احتجاجا على الحرب على قطاع غزة في 10 ديسمبر

عقب عملية "سيف القدس" عام 2021، أطلق "حزب الله" حرية العمل لـ"حماس" على الأراضي اللبنانية تحت شعار "وحدة الساحات" الذي أعلنه أمينه العام حسن نصر الله، راميا بذلك إلى استغلال القضية الفلسطينية بهدف إجراء مصالحة معنوية مع السنة، بعد عقد ونيف من العداء على وقع اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، ومن ثم التورط الدموي لـ"حزب الله" في الحرب السورية. 
وفي المقابل، فإن التيارات السلفية ضعيفة الحضور من الناحية السياسية، غير أن لديها تأثيرا معنويا كبيرا في مدن الشمال، حيث الثقل السني، وخاصة في مدينة طرابلس، التي تعد موئل تيارات الإسلام السياسي، حيث شهدت ولادة التيار السلفي، و"الجماعة الإسلامية"، و"حزب التحرير"، و"حركة التوحيد الإسلامي" المقربة من إيران، و"هيئة علماء المسلمين" التي أنشئت إبان الثورة السورية بهدف انتزاع الشرعية من دار الفتوى، لكنها لم تنجح في ذلك. التأثير المعنوي للتيارات السلفية التي سبق أن شاركت في دعم المعارضة السورية في الموارد المالية والبشرية، جعل المناخ العام في طرابلس معاديا لـ"حزب الله"، حيث يصعب حتى اليوم أن ترتفع راية له فيها رغم وجود بعض الحلفاء له. 


التيار السلفي وإحراج تركيا


لذا، فقد بدا مقتل الشبان الأربعة على الجبهة الجنوبية مفاجئا وغير مفهوم. شابان سلفيان من تركيا وآخران من طرابلس، أحدهما مساعد إمام مسجد التقوى فيها، والذي تعرض للتفجير بسيارة مفخخة عام 2013، وأثبتت التحقيقات الرسمية تورط المخابرات السورية فيه، ولديه مواقف واضحة وموثقة ضد "حزب الله"، فيما الثاني له خلفية جهادية. ماذا كان الأربعة يفعلون مع قيادي من "كتائب القسام" في منطقة نفوذ "حزب الله"؟

أقصى ما يمكن أن يسمح به "حزب الله" هو ترك "حماس" تستغل رصيدها المعنوي عند السنة، كحركة مقاومة سنية الهوية، من أجل تدجين حركات الإسلام السياسي، والعمل على تقريبها من "الحزب"

في البداية أصدرت حركة "حماس" بيانا نعت فيه القيادي خليل الخراز، دون ذكر شيء عمن كانوا معه في السيارة. كما أن وسائل إعلام "حزب الله" والمقربة منه تحدثت عن مقتل 4 كوادر من "حماس". وبعد اتضاح الصورة نتيجة تداول الأخبار والصور عبر شبكات التواصل الاجتماعي بكثافة، وتوتر الأجواء في مدينة طرابلس، أصدرت "حماس" بيانا ثانيا نعت فيه الشهداء الأربعة الذين كانوا يقومون بـ"واجب إغاثة ونصرة أهل غزة". 
واستنادا إلى الحديث مع عدة رجال دين من قيادات التيار السلفي، نفوا أن يكون للشبان الأربعة دور في العمليات العسكرية، وأكدوا أن الأمر محصور بتقديم تبرعات مالية جرى جمعها في وقت سابق لدعم المجاهدين في "كتائب القسام"، تأسيا بالحديث النبوي: "من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا". وقد حضر الشابان التركيان من بلدهما خصيصا لتقديم المساعدات بنفسيهما، نظرا لأن قنوات التعاون بين "حماس" وحكومة "العدالة والتنمية" تقتصر على الجانب الإنساني والإغاثي. 

Reuters
تشييع جثامين ضحايا استهداف طائرة اسرائيلية سيارة تقل سلفيين ومواطنين تركيين ومسؤول في "حماس" في طرابلس في 21 نوفمبر

بيد أن مقتل السلفيين الأربعة تسبب في إحراج جميع الأطراف المعنية؛ فأنقرة ليست في وارد السماح بمثل هكذا أنشطة، ولا تريد إتاحة الفرصة للإعلام الغربي أن يستغل الحدث من أجل التصويب عليها. علاوة على أن موقفها من الحرب في غزة يتماهى مع الموقف العربي، ووزير خارجيتها يشارك مع المجموعة الدبلوماسية العربية في الجهود التي تبذلها من أجل وقف إطلاق النار. 
وتشير المعلومات إلى أن السلطات التركية ضغطت على ذوي الضحيتين من أجل عدم إحضارهما إلى تركيا، ودفنهما في مدينة طرابلس، وطي الموضوع برمته، وهو ما حصل. وقد تواصلنا مع السفارة التركية في بيروت للحصول منها على تعليق، إلا أنها امتنعت عن الرد. حتى إن وكالة الأناضول لم تنشر خبر تشييعهما.


تمدد "حماس" في الشارع السني


وكذلك فعلت وسائل الإعلام المقربة من "حزب الله"، التي تجاهلت تماما مقتل السلفيين الأربعة، رغم أنها تولي الشأن السني اهتماما كبيرا، وتواظب على التصويب على "دار الفتوى" في محاولة لإضعاف تأثيرها السياسي والاجتماعي. فـ"حزب الله" لا يناسبه مطلقا ظهور التيار السلفي في ميادين الجهاد واكتسابه مشروعية المقاومة. لأن ذلك سيتبعه مطالبات بالمشاركة في العملية السياسية وبحصة في السلطة، خاصة أن الساحة السنية تعاني من فراغ سياسي هائل. 

جهة إقليمية فاعلة لديها تأثير واسع على التيارات الإسلامية، تدخلت وطلبت من قيادات التيار السلفي، عبر ممثليها في لبنان، التهدئة التامة والانسحاب من الواجهة

أقصى ما يمكن أن يسمح به "حزب الله" هو ترك "حماس" تستغل رصيدها المعنوي عند السنة، كحركة مقاومة سنية الهوية، من أجل تدجين حركات الإسلام السياسي، والعمل على تقريبها من "الحزب" في سبيل إنجاز مصالحة معنوية مع السنة. 
وبالفعل، نجحت "حماس" في استغلال التعاطف المعنوي مع القضية الفلسطينية من أجل التمدد داخل الشارع السني، حيث اتكأت على نفوذها الكبير داخل أروقة "الجماعة الإسلامية" بحكم قدراتها المالية وأذرعها الاجتماعية العديدة، وقادت تحولا كبيرا جعل الأخيرة تقترب من "حزب الله". كما فتحت قنوات تواصل مع التيارات الإسلامية انطلاقا من المشروعية الدينية للقتال ضد إسرائيل كـ"عدو للأمة الإسلامية"، والتي تجمع عليها كل التيارات الفكرية الإسلامية بما فيها التيارات السلفية ذات النزعة الجهادية، وهي التي تتباين مع "حماس" في الكثير من الأمور، أبرزها التحالف مع إيران و"حزب الله"، وصولا إلى الإعلان عن تأسيس "طلائع طوفان الأقصى" كذراع لبنانية لها، سنية الهوية، يمكنها احتواء الهويات الفكرية المتباينة للتيارات الإسلامية، وتذويبها وتأطيرها بما يخدم الأهداف السياسية لـ"حماس"، و"حزب الله"، و"محور الممانعة".
في المقابل، بدت الدولة اللبنانية ومؤسساتها الرسمية غير معنية بكل ما يحصل، رغم أن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي من مدينة طرابلس، فيما لم تشأ قيادات التيار السلفي التي تواصلنا معها الخوض في مسألة مشاركة السلفيين في "الجهاد"، مكتفين بفكرة تقديم التبرعات المالية لـ"حماس". وبحسب المعلومات، فإن جهة إقليمية فاعلة لديها تأثير واسع على التيارات الإسلامية، هي من تدخلت وطلبت من قيادات التيار السلفي، عبر ممثليها في لبنان، التهدئة التامة والانسحاب من الواجهة. 
وهذا ما حصل، حيث أغلق الجميع الموضوع برمته عقب انتهاء أيام العزاء في الضحايا الأربعة، وكأن شيئا لم يكن. وبذلك طويت صفحة مشاركة هي الأولى من نوعها للتيارات السلفية في المواجهات مع إسرائيل، كي لا يكون هناك شريك لمحور الممانعة في الاستثمار السياسي لنتائج عملية "طوفان الأقصى".

font change

مقالات ذات صلة