نهاية مثيرة لإفلاس أول بنك في تاريخ تونس

نجاة خزينة البلاد من تعويضات بمليارات الدولارات... بعد نزاع قضائي دولي لعقود

REUTERS
REUTERS
البنك التونسي - الفرنسي

نهاية مثيرة لإفلاس أول بنك في تاريخ تونس

لم يكن أكثر المتفائلين في تونس يتوقّع مثل هذه النهاية المثيرة، لأطول وأقدم نزاع دولي خاضته الدولة التونسية، اذ وأخيرا نجحت في حسم الملف التحكيمي الذي امتد زهاء أربعة عقود من المواجهات القضائية المسترسلة، وأسدل عليه الستار بتحقيق "انتصار" حفظ لخزينة الدولة ملايين الدولارات.

لمن لا يعلم تفاصيل القضية، يتعلق الأمر بنزاع دولي أمام الهيئة التحكيمية للنزاعات التابعة لمجموعة البنك الدولي في شأن"البنك الفرنسي التونسي" الذي يعد أقدم مصرف في البلاد (تأسس منذ قرن ونصف القرن)، وهو أيضا اول مصرف يعلن افلاسه في تاريخ تونس.

أصدر المركز الدولي لتسوية النزاعات المتعلقة بالاستثمار التابعة للبنك الدولي - ICSID (تأسس عام 1966 ومقره في واشنطن العاصمة) في 22 ديسمبر/كانون الأول الجاري قرارا تحكيميا نهائيا يقضي بإلزام الدولة التونسية دفع تعويض يناهز 350 الف دولار (مليون و100 الف دينار تونسي) لصالح الشركة العربية الدولية للأعمال التي كانت قد توجهت الى التحكيم الدولي ضد الدولة التونسية لتحميلها اثر الانتزاع غير المشروع لأسهمها في "البنك الفرنسي التونسي".

نجاة الخزينة التونسية

تعتبر قيمة التعويض إنجازا تاريخيا لتونس مقارنة بالمبلغ الضخم الذي طالبت به الشركة والذي بلغ تراكميا 12 مليار دولار. وكانت الشركة استحصلت على قرار تحكيمي سنة 2019 لمصلحتها يقضي بتمكينها من غرامة مالية مقدارها مليار دولار مع تنفيذ الحجز على أصول "البنك الفرنسي التونسي" في فرنسا (أهمهما "بنك تونس الخارجي").

وقال وزير أملاك الدولة التونسي محمد الرقيق في تصريح لإذاعة محلية انه تم أيضا الزام الدولة دفع 705,693 آلاف دولار بعنوان "القسط المحمول" على الشركة العربية الدولية للأعمال، كمصاريف وأتعاب للمحكمين والجهاز الإداري للمركز الدولي لفض نزاعات الاستثمار، واعتبر الوزير ان القرار التحكيمي يمثّل انتصارا قضائيا للدولة التونسية، مؤكدا ان هذا القرار نهائي ومبرم وغير قابل للاستئناف.

مرّ هذا الملف بمكاتب ستة رؤساء جمهورية، وما لا يقل عن 15 رئيس حكومة من حقبة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة حتى عهد الرئيس الحالي قيس سعيد

يعد هذا الحكم بالفعل انتصارا قضائيا باهرا أنقذ البلاد من ورطة مالية كانت محل مخاوف حقيقية باعتبار أن تعويضا بمليارات الدولارات كان ليكون بمثابة ضربة قاضية في ظل الوضع المالي الراهن للبلاد.

أفضى القرار التحكيمي النهائي الى خفض قياسي في قيمة التعويض. فوفق المكلف العام بنزاعات الدولة (محامي الدولة) فإن نسبة مبلغ التعويضات الذي أقرته الهيئة التحكمية تقدر بـ 0.003 في المئة من قيمة طلبات خصم الدولة.

وقد طالب رجل الأعمال التونسي الشهير عبد المجيد بودن ( تونسي الجنسية) أو "خصم الدولة" مثلما اصبح يُلقّب إعلاميا، بحسب وزير أملاك الدولة، بتعويض تقدر قيمته بـ 12.6 مليار دولار (37 مليار دينار) أي ما يقارب نصف موازنة تونس لعام 2024 (28.7 مليار دولار).

REUTERS
البنك التونسي - الفرنسي في العاصمة التونسية

وأكد مصدر مطلع وقريب من الملف لـ"المجلة" أن بودن طالب بتعويضات تعادل القيمة السوقية للبنك والبنك العربي لتونس معا، اللذين يعدان أهم مصرفين تجاريين للقطاع الخاص في تونس.

نزاع قضائي مر على 6 رؤساء للجمهورية

يعدّ هذا النزاع القضائي من أقدم الدعاوى التحكيمية المنشورة لدى الهيئة التحكيمية التابعة للبنك الدولي، وتعود جذوره الى عام 1982. حسابيا مرّ هذا الملف بمكاتب ستة رؤساء جمهورية، وما لا يقل عن 15 رئيس حكومة من حقبة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة حتى عهد الرئيس الحالي قيس سعيد.

من المهم الإشارة الى أن "البنك الفرنسي التونسي" ليس أي بنك، فهو يحمل أكثر من رمزية، وهو أقدم المصارف، أسسه عام 1879 الفرنسي راوول دانينوس، وهو أول بنك جرى تأميمه ضمن مسار "تونسة الاقتصاد" في بداية بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، وهو أول بنك يعلن افلاسه في تاريخ المنظومة المصرفية التونسية.

تأمم البنك في بداية الستينات ثم اطلقت عملية خصخصته عام 1980 من خلال رفع رأس ماله وفتحه للاستثمار الخاص. ومُنحت الترخيصَ الشركةُ العربية الدولية للاستثمار التي كانت انذاك تمتلك 4.68 في المئة من مجموع القطاع المصرفي التونسي، لاقتناء 80 في المئة من ملكية البنك، في مقابل 750 ألف دولار (2.5 مليون دينار) .

وعلى الرغم من تحويل قيمة المبلغ الى المصرف المركزي التونسي في الآجال المحددة، أقدمت السلطات التونسية عام 1982 على اصدار قرار بتجميده مع إلغاء رفع رأس مال البنك، وكان ذلك منطلق النزاع بين الدولة التونسية والشركة ممثّلة في رئيس مجلس ادارتها رجل الاعمال التونسي عبد المجيد بودن.

أُغرق البنك منذ عام 1989 بقروض بلا ضمانات وبلغت خسائره 700 مليون دينار (250 مليون دولار). وقال محمد بودن محامي الشركة في تصريح لقناة "فرانس 24" انه تم السطو على البنك وافراغه بقروض بلا ضمانات بعدما كان من أفضل المصارف في البلاد.

واتهم المحامي "عائلات اقتصادية نافذة" بالتدخل لمنع استلام الشركة ملكية البنك وبأنها فرضت التراجع لمنع فتح باب المنافسة. واكد انه استعملت "طرق ملتوية" لانجاح هذا المخطط على غرار الملاحقات القضائية في حق رئيس مجلس إدارة الشركة الذي تمت ادانته بارتكاب جرائم صرف وسجنه، إلى أن خرج من السجن اثر ابرام صلح مع السلطات التونسية، ليهرب من ثم إلى خارج البلاد واطلاق مسار التحكيم الدولي لاستعادة حقوقه.

حسمت دوليا ومستمرة محليا

شهدت بداية عام 2022 إعلان إفلاس "البنك الفرنسي التونسي" واطلاق عملية تصفيته بعد سنتين مع صدور حكم (تم استئنافه) لصالح خصم الدولة التونسية، قضى بإقرار تعويض قيمته مليار دولار (3 مليارات دينار تونسي). وأكد عز الدين سعيدان الخبير الاقتصادي ان افلاس هذا البنك هو أول حالة إفلاس كامل لمؤسسة مصرفية في تاريخ الجمهورية التونسية، وقال انه أساء الى سمعة مركز تونس المالي وسمعة مصرفها المركزي باعتباره المشرف على القطاع المصرفي.

وكشف سعيدان في تصريح لإذاعة "جوهرة أف أم" المحلية ان الخسائر الناجمة عن عملية تصفية "البنك الفرنسي التونسي" ستكون في حدود 500 مليون دينار (180 مليون دولار) تضاف اليها 270 مليون دينار (90 مليون دولار) بصيغة قروض غير مستخلصة.

وصف الوزير خصم الدولة بأنه شخصية نافذة في صلب أجهزة الإدارة التونسية، مبينا أن هذا النفوذ كان يمثل نقطة قوة "الخصم" قبل ان يتم "انتزاع" هذا السلاح منه

حتمت دقة الملف وتداعياته المالية الخطيرة على السلطات التونسية تكليف مكتب محاماة فرنسي وآخر أميركي. وبحسب المعلومات الرسمية فإن القيمة الإجمالية لمصاريف التقاضي بلغت 4.2 ملايين دولار فيما أكد رئيس الجمعية العامة للبنوك والمؤسسات المالية نعمان العش في تصريحات لوسائل اعلام محلية ان التقاضي كلّف الدولة 70 مليون دولار (200 مليون دينار).

حُسم ملف "البنك الفرنسي التونسي" على المستوى الدولي لكنه لا يزال يراوح مكانه حتى اليوم بين أروقة المحاكم التونسية. وشملت التحقيقات فيه منذ احالته على القضاء وزراء سابقين وكوادر عليا في الإدارة التونسية والمصرف المركزي وإطارات مصرفية سامية ورجال أعمال، إضافة إلى سهام بن سدرين، الرئيسة السابقة لـ"هيئة الحقيقة والكرامة" (لجنة مكلفة ملف العدالة الانتقالية ) التي مُنعت منذ أشهر من السفر بقرار قضائي.

AFP
زبائن يصطفون للدخول إلى فرع بنك وسط العاصمة التونسية تونس.

يوصف هذا الملف بأثقل ملف فساد وبأكبر جريمة مالية عرفتها البلاد وبأنه حالة تُدرّس في فنون وعلوم التحايل والتدليس وتدمير وتفليس مؤسسة مصرفية تعد الاعرق في البلاد.

يكفي انه تم ايقاف المكلف العام السابق نزاعات الدولة، أو محامي الدولة والمشرف الأول على إدارة ملف النزاع في القضية، محمد النقعاوي، خلال صيف 2021 وهو يحاول اجتياز الحدود التونسية على "قوارب الموت" في اتجاه السواحل الإيطالية.

هذا المسؤول السابق هو من ضمن المتهمين في قضية فساد مالي متشعبة تتعلّق بـ"البنك الفرنسي التونسي" التي قد تشهد تطورات جديدة تهم دائرة المشمولين بالتتبع وقد تطاول اطرافا مؤثرين ورجال اعمال متّهمين بالحصول على ملايين الدولارات كقروض بلا ضمانات.

سر انتصار الدولة

اللافت في ما كشفه وزير أملاك الدولة عن"سر الانتصار" بعد نكسات متواصلة في مسار التحكيم الدولي، شبهة التواطؤ الخطيرة داخل أجهزة الدولة: وصف الوزير خصم الدولة بأنه شخصية نافذة في صلب أجهزة الإدارة التونسية، مبينا أن هذا النفوذ كان يمثل نقطة قوة "الخصم" قبل ان يتم "انتزاع" هذا السلاح منه. وفسّر الوزير ذلك بجملة مقتضبة قائلا: "تمت إدارة الملف من قبل مجموعة جد ضيقة وبسرية تامة". 

كانت قصة رجل الأعمال عبد المجيد بودن وقيمة التعويضات التي تمكن من استصدارها ضد الدولة التونسية، حجة يستعملها رجال الأعمال في صراعهم مع السلطات للاستقواء عليها. وقال مصدر رفيع المستوى لـ"المجلة" عايش فترة حكومة الياس الفخفاخ (أول حكومة بعد انتخابات 2019) ان رجال اعمال هددوا صراحة باللجوء الى التحكيم الدولي إن تم استصدار أي اجراء يجبرهم على دفع مساهمات للدولة لمواجهة تداعيات جائحة "كوفيد-19".

وطُرح خلال أزمة "كوفيد-19" بشكل غير رسمي على رجال الأعمال الكبار تقديم مساهمات استثنائية بعنوان دعم جهود الدولة في مواجهة اثار الجائحة، على غرار ما قام به أرباب الاعمال في المملكة المغربية. اعتُبر "التعويل على الحس الوطني" ابتزازا وضغطا رفضهما رجال أعمال وضعوا تجربة عبد المجيد بودن في مواجهة الدولة قضائيا نصب أعين القائمين على الحكم، وقد رحلت تلك الحكومة سريعا ولم تكمل فترة ستة اشهر.

font change

مقالات ذات صلة