اجتماعات مراكش على إيقاع جورجيفيا... وحرب غزة

لا اقتصاد من دون سياسة وسلام... وكل الأرقام والنسب صارت في مهب الحرب

Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

اجتماعات مراكش على إيقاع جورجيفيا... وحرب غزة

مذ سجلت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفيا الهدف في المباراة الودية الاستعراضية بكرة القدم، التي اقيمت على ملعب مراكش الكبير الأحد الماضي، تضامنا مع المغرب وأطفال ضحايا الزلزال الأخير في البلاد، عشية افتتاح الاجتماعات السنوية للصندوق والبنك الدوليين، واصلت طوال هذا الاسبوع الاستعراض، متنقلة بزهو من قاعة الى أخرى، في باب إغلي، حيث مقر الاجتماعات، توزع ابتساماتها الدائمة ورسائلها المالية والنقدية والسياسية المبطنة، أو المباشرة، مركزة على الوصفات التقليدية للصندوق في الاصلاح الهيكلي واستخدام الديون ضمن الشروط المعهودة، مع ابراز أهمية دور الشباب وانخراط أكبر للمرأة في الشأن الاقتصادي وسوق العمل خصوصا، في ظل اقتصاد دولي منهك، تكالبت عليه النزاعات والحروب والأوبئة، والتغيرات المناخية وندرة المياه، وارتفاع الأسعار والتضخم وتكلفة الديون، وضعف النمو، وتفاقم الفوارق بين الدول، والحرائق والفيضانات وتزايد الكوارث الطبيعية.

EPA
المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا، كما بدت متألقة في اليوم الثاني من الاجتماعات

ارتدت جورجيفيا ثيابا مغربية ملونة ومزركشة طوال الوقت، وكانت تشجع الجمهور الهادئ على التصفيق دائما عندما تعجبها جملة أو موقف، تناسب توجهات الصندوق، تحيي "الجماهير" من الحضور برفع يديها على طريقة الزعماء في المهرجانات الانتخابية، فقد كانت مزهوة بالمغرب، "التلميذ النجيب" لمؤسسات "بريتون وودز" الذي نال من الثناء على سياساته الاقتصادية والتنموية ما لم تنله دولة أخرى في الأيام الأربعة الماضية، فيما أصابت سهام النقد واللوم والعتب والتقريع أسوأ نماذج الدول الفاشلة مثل زامبيا وغانا ولبنان (على الرغم من أن جورجيفيا زفت للحضور في جلسة بعد ظهر أمس الاتفاق على إعادة هيكلة الديون مع زامبيا، ما سنعود اليه في حلقة لاحقا عن اقتصاد أفريقيا وهمومها)، إضافة الى هز العصا لمصر، المطالبة بمزيد من تعويم الجنيه المصري وانسحاب مؤسسات الدولة من الاقتصاد و"إلا فالقادم أسوأ".

المغرب الناجح في الامتحان

طبعا لم تكن جورجيفيا لتتمكن من إحراز الهدف الكروي في المباراة الودية، من دون تمريرة من الوزير المنتدب المكلف بالموازنة، ورئيس الجامعة الملكية لكرة القدم ولجنة تنظيم كأس العالم 2030، فوزي لقجع، كما أن عبارات الغزل والإشادات المتبادلة بينها وبين وزيرة الاقتصاد والمالية المغربية نادية فتاح العلوي كانت ساطعة، كل ذلك وغيره كان لإظهار الرسالة الأساسية للصندوق وتأكيدها أن نموذج المملكة المغربية هو فخر نماذج الصندوق حاليا، العاجز عن تحقيق انجازات مماثلة في دول أخرى.

لا شك أن المغرب نجح بامتياز في استضافة أكبر تجمع اقتصادي ومالي عالمي سنوي، على الرغم من الزلزال المدمر بقوة 6,8 درجات الذي سبق الاجتماعات بشهر واحد فقط. كما أن تجربته تنطوي على "دروس ملهمة لاقتصادات أخرى"، ولا سيما في العالم العربي وأفريقيا. إذ "خاض المغرب رحلة مميزة نحو تحقيق استقرار الاقتصاد والتنمية الاقتصادية"، على مدى العقود الثلاثة المنصرمة، ولكن لا يزال أمامه "شوط طويل في سعيه لتحقيق نمو قوي وقادر على الصمود وشامل للجميع (...) ولا تزال ثمار التنمية الاقتصادية بعيدة المنال عن جزء كبير من سكان المغرب، ولا سيما الشباب والنساء، نظرا الى ارتفاع مستوى البطالة بينهم ووجود قطاع اقتصادي غير رسمي كبير. إلا أن أمرا مميزا يبرز تجربة المغرب، ألا وهو إدراك صنّاع القرار أن التصدي لهذه القضايا سيتطلب سلسلة جديدة من الاصلاحات الجريئة والطموحة"، كما جاء في كتاب "جهود المغرب من أجل نمو أكثر قوة وشمولا" الذي نشره الصندوق عشية الاجتماعات.

غزة قلبت التوقعات... وبدلت الأرقام

خلال أربعة أيام أمطرنا مسؤولو الصندوق والبنك الدوليين ورهط من الخبراء بمئات الأرقام والنسب والمقاربات والتوقعات التي استغرقت معهم أشهرا طويلة، ودروس سنوات قبلها، لكن السؤال الكبير الذي بقي بلا جواب حقيقي وواقعي، هو عن أي برامج اقتصادية وإصلاحية لدول الشرق الأوسط نتحدث، فيما الأخطار الأمنية والعسكرية السابقة والحاضرة تستمر تؤجج الحروب وعدم الاستقرار و"عدم اليقين"، ولا سيما في الدول المنتشرة على الحدود الجغرافية لفلسطين، وأولاها لبنان وسوريا ومصر، التي تقع في صلب المواجهة الدائمة والمفتوحة على مصراعيها هذه الأيام الحزينة.

AFP
فلسطيني وسط الدمار في مخيم جباليا للاجئين في غزة في أعقاب غارات جوية إسرائيلية ليلية

لا تفيد هنا "اللغة المالية والنقدية" المنمقة والديبلوماسية الاقتصادية ، وكذلك عناوين الجلسات البراقة التي لطالما تميز بها أركان الصندوق والبنك الدوليين، والتي نجحت في مراكش في تطبيق معادلة "لا تثير مشاعر المدينين ولا تفرط في مصالح الدائنين"، لكن لم تمنح العاملين السياسي والأمني في المنطقة حقهما من النقاش والتحليل عموما، على الرغم من إعلان رئيس البنك الدولي أجاي بانغا أن "الصراع بين إسرائيل وغزة صدمة اقتصادية عالمية لا ضرورة لها، وسيجعل من الصعب على البنوك المركزية تحقيق خفض سلس للتضخم في اقتصادات عديدة إذا انتشر"، مشيرا إلى "أنه مأساة إنسانية وصدمة اقتصادية لا نريدها".

حرب غزة قلبت التوقعات وبدلت الأرقام ... لم يعد الحديث عن أي برامج اقتصادية وإصلاحية لدول الشرق الأوسط يجدي، من دون الأخذ في الاعتبار الأخطار الأمنية والعسكرية والحروب وتكاليفها الباهظة

لا شك ان الحرب المستجدة تتعارض مع جهود بانغا في عمله على تحقيق تنمية أفضل، وبيئة أفضل، باعتباره أول رئيس للبنك قادم من شعوب الجنوب، مطمئنا الدول الفقيرة، في حضوره وكلماته، أنه قادر على التأثير على قادة الشمال، كما قال. 

وفي وقت كان ملحّاً حديث الخبراء في الجلسات عن مآل اقتصاد العالم والاصلاحات المالية والهيكلية للدول، وكيف يمكن ضبط التضخم المزمن والارتفاع المتواصل للفوائد، واستمرار هذا الواقع مع الحرب التي شنتها روسيا على أوكرانيا، جاءت أنباء حرب غزة الجديدة لتضيف عبئا مضاعفا على الاقتصاد العالمي، وتوقعات بمزيد من الانفاق العسكري العالمي، ولا سيما مع الاستنفار الأميركي والأوروبي لنجدة اسرائيل من المأزق الجديد، وتوجه حاملة الطائرات "جيرالد فورد" الى الشرق الأوسط، وهذا ما استدعى إثارة القلق لدى البنوك المركزية والمؤسسات المانحة وأسواق المال والنفط والممرات البحرية وغيرها، كما لمح بانغا.

EPA
رئيس البنك الدولي أجاي بانغا في حلقة نقاش خلال اليوم الثالث من الاجتماعات

فأي ارتفاع في التضخم يعني أن البنوك المركزية قد تضطر إلى إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة مما يزيد تكلفة الاقتراض ويحد من قدرة المقترضين، من أفراد وشركات، على سداد الديون، ويفضي إلى ارتفاع الأخطار الائتمانية. ومن المتوقع أن ينخفض معدل التضخم العالمي بشكل مطرد إلى 6,9 في المئة في عام 2023 من 8,7 في المئة في عام 2022، وذلك بسبب تشديد السياسة النقدية بالتوازي مع انخفاض أسعار السلع الأساسية العالمية.

منذ اليوم الأول، قال متحدث باسم الصندوق إنه "يتابع عن كثب الوضع في إسرائيل وغزة وإنه من السابق لأوانه تقييم أي أثر اقتصادي". وأضاف: "نشعر ببالغ الحزن لخسارة الأرواح"، كما ذكرنا في الحلقة الأولى من هذه التغطية الخاصة "صندوق النقد الدولي في خريف العمر"

وفي الأمس فقط، وردا على سؤال، علقت جورجيفيا: "اننا نراقب عن قرب كيف يتطور الوضع وما هي تداعياته على أسواق النفط خصوصا، من المبكر الحكم الآن، شهدنا بعض ردود الفعل في الأسواق، وسنراقب ذلك عن كثب، من الواضح أن سحابة جديدة في الأفق، في وقت يشهد الاقتصاد العالمي اضطرابات كبرى، هذه السحابة ستزيد ظلمة الأفق الاقتصادي، وهو ليس بحاجة إليها، لنصلّ من أجل السلام". 

من الواضح أن سحابة جديدة في الأفق (حرب غزة) في وقت يشهد الاقتصاد العالمي اضطرابات كبرى، هذه السحابة ستزيد ظلمة الأفق الاقتصادي، وهو ليس بحاجة إليها، لنصلّ من أجل السلام.

مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفيا

كما أملت المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية نجوزي أوكونجو إيويالا انتهاء الصراع بين إسرائيل و"حماس" سريعا، محذرة من أنه سيكون له "تأثير كبير حقا" على تدفقات التجارة العالمية الضعيفة بالفعل إذا اتسع نطاقه في المنطقة، "مما قد يؤثر كثيرا على النمو الاقتصادي العالمي". 

موارد محدودة للبنك والصندوق

تأتي هذه التوقعات الارتدادية المتشائمة، في وقت سبق للصندوق أنه توقّع في تقرير الآفاق الاقتصادية لعام 2024 أن يعود النمو الى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ويسجل 3,4 في المئة، وهو أعلى بنصف نقطة من النمو العالمي البالغ 2,9 في المئة، بعدما كان تراجع الى 2 في المئة عام 2023 من 5,6 في  المئة عام 2022، وفي ضوء التطورات الحربية لم يعد واضحا ما إذا كانت هذه التقديرات ستبقى قائمة أم لا...

هذه التأثيرات الجيوسياسية على معدلات النمو، عبّر عنها أيضا بيار أوليفييه غورينشا، كبير المحللين في الصندوق، حين وصف الاقتصاد العالمي بأنه صامد حتى الآن على الرغم من "تعثره في المشي"، على حد تعبيره. ولم يُخف عدد من خبراء صندوق النقد الآخرين الذين استطلعت "المجلة" آراءهم، تشاؤمهم من الأحداث الراهنة في غزة وانعكاساتها المحتملة في حال توسعها وانخراط قوى إقليمية ودولية فيها.  

وتواجه المؤسستان محدودية في الموارد المالية وزيادة حاجات التمويل العالمية في ظل هذا الوضع الدولي المتأزم غير المسبوق وعلى شتى الجبهات، مما قد يزيد من قساوة شروط منح القروض، ويرفع تكلفة الاستدانة، لتصبح أكثر إجحافا في حق عشرات الدول الفقيرة التي لا تمتلك إمكانات الامتثال لتلك الشروط وإلا لما استدانت في المقام الأول. وهذا كفيل بأن يثير مشاعر الغضب والنفور لدى نصف سكان الكرة الأرضية. 

لا ريب في أن الدرس الأهم للأيام الأولى من الاجتماعات بدأت مع حرب غزة، أن لا اقتصاد من دون سلام، ولا إصلاحات مالية هيكلية من دون ربطها بالقرارات والتفاهمات الاقليمية. 

وعلى الرغم من انخفاض قدرة البنك الدولي التمويلية خمس أضعاف عما كانت عليه في ستينات القرن الماضي، وفّر البنك دعما ماليا بقيمة 73 مليار دولار عام 2023 افادت منه 90 دولة، منها 34 مليار دولار خصصت للدول الأكثر فقرا لمواجهة تداعيات التغيرات المناخية وجائحة كوفيد-19، وهو مبلغ زهيد مقارنة بحاجة دول الجنوب الفعلية في هذا الإطار ومعضلة الأمن الغذائي اللتين تكبدان هذه الدول نحو 3 تريليونات دولار سنويا لمواجهتهما.

رسالة الملك: حلول عالمية مشتركة

جاءت رسالة الملك محمد السادس الطويلة إلى المشاركين في الاجتماعات السنوية صباح اليوم واضحة في هذا المعنى، اذ قال إن ما "نشهده اليوم من تشرذم جيو-اقتصادي وتنامٍ للنزعات السيادية، التي يُعزى جزء منها إلى الرغبة في إعادة ضبط موازين القوى الاقتصادية والسياسية على الصعيد العالمي، بات يشكل تهديدا للتقدم الكبير الذي تم إحرازه خلال العقود الأخيرة في ظل تعددية الأطراف". 

وأضاف: "صحيح أن التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها السنوات الأخيرة تستدعي إصلاح المؤسسات والقواعد التي تحكم نظام تعددية الأطراف، لكن هذا الأمر يقتضي كذلك توطيد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا النظام وإذكاء الروح التي تلهمه. ذلك أنها لا تزال ضرورية لحفظ الاستقرار والسلم العالميين، والدفع قدما بتضافر الجهود للتغلب على التحديات المشتركة التي تواجه كوكبنا وشعوبنا. لكن التصدي للتحديات العالمية يتطلب، كما نعلم جميعا، حلولا عالمية لا تتيسر إلا في إطار الوحدة والاحترام المتبادل بين الأمم، لا سيما عبر إدماج التنوع وتثمينه، باعتباره قيمة مضافة لا مصدرا للنزاع والفرقة مع مراعاة خصوصيات كل دولة ومنطقة. كما يتعين إعادة النظر في المنظومة المالية العالمية والعمل على تحسينها لتصبح أكثر إنصافا واستيعابا لمصلحة الجميع. ولعل هذه الاجتماعات السنوية تشكل، من هذه الناحية، أنسب فضاء لاحتضان حوار ونقاش بناء في شأن هذا الإصلاح. فلئن كان قدرنا أن نحيا جميعاً في هذا الكوكب، فلا سبيل لأي بلد ليبني مستقبله بمعزل عن مراعاة مصائر بقية البلدان". 

AP

لا ريب في أن الدرس الأهم للأيام الأولى من الاجتماعات بدأت مع حرب غزة، أن لا اقتصاد من دون سلام، ولا إصلاحات مالية هيكلية من دون ربطها بالقرارات والتفاهمات الاقليمية. الارتباط وثيق، وغير ذلك ستبقى الحوارات الدائرة في اجتماعات مراكش رهن التقلبات ومواقف الدول الكبرى، تنتظر ما ستؤول إليه الحرب الدائرة في غزة وما تنتجه من خلط للأوراق والأولويات، وتاليا من تبدل في كل الارقام والمعطيات، ولا سيما إذا طال أمد الحرب بين اسرائيل و"حماس" ومن يساندهما وتوسعت لتشمل دولا أخرى في مقدمها لبنان. 

(غدا حلقة ثالثة: مسلسل المديونية العالمية والاصلاحات الهيكلية على ايقاع الدمار و"الأرض المحروقة")

font change

مقالات ذات صلة