طرابلس: عراقة التاريخ تغرقُ في الفقر والخواء السياسي

محمد أبي سمرا
محمد أبي سمرا
عمران الفقر وصور الزعماء في طرابلس

طرابلس: عراقة التاريخ تغرقُ في الفقر والخواء السياسي

غالبا ما تُعتبر مدينة طرابلس في لبنان الشمالي، المدينة الأكثر تعبيرا عن النبض السني اللبناني؛ فالتوازنات المذهبية والطائفية طبعت المدن اللبنانية بطابعها. وهذا ما تزايد في سني الحرب الأهلية الطويلة وبعدها؛ فصار يقال إن جونيه، على ساحل كسروان، عاصمة الموارنة. وزحلة عاصمة الكاثوليك في الشرق. والمختارة عاصمة الدروز. وأخيرا جعل "حزب الله" ضاحية بيروت الجنوبية عاصمة الشيعة.

ويقدر عدد سكان طرابلس- المدينة الثانية في لبنان من حيث المساحة، والأولى من حيث الكثافة السكانية- بنحو 850 ألف نسمة. ويشكل السنة نحو 80 في المئة منهم، مقابل 10 في المئة من العلويين. وكانت نسبة المسيحيين 10 في المئة أيضا، لكنهم تضاءلوا كثيرا في المدينة أثناء الحرب وبعدها. وهناك من يشبه تركيب طرابلس الديموغرافي، وعاداتها وتقاليدها، بتلك المعروفة في مدن سورية وتركية.

وطرابلس هي المدينة بالنسبة إلى ريف الضنية والمنية وعكار. وهذه أكثرية سكانها من السنة. فيتجاوز بذلك عدد السكان السنة شمالي لبنان مليون نسمة (أكثر من نصف سنة لبنان) لديهم 11 مقعدا في البرلمان، هي أقل من نصف مقاعد السنة بقليل (27 مقعدا). والمدينة التي شغل سياسيون منها منصب رئاسة الحكومة السني، تعاني اليوم من خواء سياسي، في أصدق تعبير عما أصاب السنة بعد عزوف سعد الحريري عن السياسة، فتراجع حضورهم وتأثيرهم السياسيان إلى مستويات غير مسبوقة منذ تأسيس الدولة اللبنانية سنة 1920.

بين تركيا وفلسطين وإيران

الخواء السياسي في طرابلس اليوم من وجوه الشعور بـ"مظلومية سنية"، شكل اغتيال مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ حسن خالد (1921-1989) ورفيق الحريري (1944-2005) حلقتها الدامية. واستُكملت تلك "المظلومية" بوأد الثورة السورية التي ناصرها الطرابلسيون بحرارة. ولا تزال طرابلس وجوارها تحتضنان السوريين الهاربين من الجحيم بتلاوينه العسكرية والاقتصادية. وها هي طرابلس تبحث عن أي "نصر" معنوي، حتى ولو في الصين، لتدفع عنها شعورها الممض بالمظلومية؛ فبدا لها أحيانا أنها وجدته بانتصارات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان المتوالية. أما عملية "طوفان الأقصى" التي جرت على غزة ما يشبه حرب إبادة إسرائييلية، فقد أعادت تزخيم حضور القضية الفلسطينية في طرابلس: لبست المدينة الكوفية الفلسطينية وانتشرت في شوارعها أعلام فلسطين، وشهدت تجمعات رمزية ومظاهرات.

الحالة العاطفية الشعبية الراهنة في طرابلس لا تشبه الماضي؛ فالشك فيها يبدو اليوم سيد الأحوال؛ فقلوب الطرابلسيين مع غزة بلا جدال، لكن عقولهم تنظر بريبة إلى "حزب الله" ومشروعه الإيراني وأهدافه التوسعية في العالم العربي.

ولطرابلس تاريخها مع فلسطين. فالطرابلسي فوزي القاووقجي شارك في قتال العصابات الصهيونية، وقاد جيش الإنقاذ العربي في حرب عام 1948 بفلسطين. ولطالما خرجت في المدينة مظاهرات عارمة في كل مفصل أو مجزرة إسرائيلية، واحتضنت ياسر عرفات بعدما طردته إسرائيل من بيروت عام 1982. 
لكن الحالة العاطفية الشعبية الراهنة في طرابلس لا تشبه الماضي؛ فالشك فيها يبدو اليوم سيد الأحوال. فقلوب الطرابلسيين مع غزة بلا جدال، لكن عقولهم تنظر بريبة إلى "حزب الله" ومشروعه الإيراني وأهدافه التوسعية في العالم العربي. لذا تُستحضر مجازر الميليشيات الإيرانية في سوريا ضد سنتها. وبذلك يصير القلب مع فلسطين، والعقل زاخر بشكوك تلجم العاطفة وتقيدها.


أنصاب وخواء


كثيرةٌ لا تحصى اليوم اللافتات الصغيرة الأحجام المزروعة على جنبات شوارع طرابلس الرئيسة والفرعية مكررة عبارات: "غلطة العمر سَب الله"، "أكبر الظلم سَب الله"، "إلا الله". وهنالك ظاهرة أخرى تتميز بها طرابلس: كثرة صور زعمائها السياسيين ونوابها، قدامى وجُدُدا، مزروعة في شوارعها بأحجام متنوعة. ومنها الجدارية المرسومة يدويا بألوانٍ زيتية كثيفة وحارة. والصور والجداريات هذه موزعة بالقسطاس على زعمائها السياسيين.

محمد أبي سمرا
نهر أبو على وتلة عمران عشوائي بطرابلس

والغريب أن عزوف أثريائهم، مثل محمد الصفدي، ونجيب ميقاتي، عن الترشح للانتخابات النيابية، لم يقلل من كثرة صورهما. ويعلل طرابلسيون عزوف سياسيي مدينتهم الأثرياء عن التنافس على إعالة مواليهم وأتباعهم، بعزوف سعد الحريري عن السياسة والحياة السياسية. وعزوفه نزل بردا وسلاما على صدور سواه من زعماء طرابلس، فأراحهم من بذل ما ملكت أيمانهم لشراء ولاء الناس في بلاد لا تقوم السياسة فيها إلا على الولاء والعصبية والإتجار بالمناصب والتزلم، ورفع الصور والشعارات كأوثان في الشوارع العامة. 

هنالك ظاهرة أخرى تتميز بها طرابلس: كثرة صور زعمائها السياسيين ونوابها، قدامى وجُدُدا، مزروعة في شوارعها بأحجام متنوعة

وهذا ما كان يبعث في الماضي القريب نوعا من حركة اقتصادية ومالية في طرابلس الفقراء، فتوقفت مع انهيار الدولة والبلاد على رؤوس أهلها. لذا يغلب الحنينُ طرابلسيين كثيرين إلى زمن تنافس الزعماء الذي خلف انطفاؤه ركودا في المدينة.


لماذا تأخرت طرابلس؟


ظلت تكثر في طرابلس حتى عشيات الحرب الأهلية (1975) مرافق المنتديات الثقافية، والصحف المحلية، ودور السينما والمسارح والمسابح والملاهي الليلية. لكن المدينة خرجت من الحرب (1986 كانت عمليا السنة الاخيرة التي شهدت جولة من جولات الحرب الاهلية) منكوبة وبلا أي من هذه المرافق تقريبا. ومن عناوين هذه النكبات:
1- إهمال مرفأ طرابلس الأقدم من مرفأ بيروت؛ فالمشاريع الكثيرة التي وُضعت لتحديثه وتوسيعه، ظلت بلا تنفيذ، فيما احتكر مرفأ بيروت النشاط التجاري في لبنان، وحُرمت منه طرابلس.
2- إقفال شركة نفط العراق (I.P.C) عشية الحرب سنة 1975. كان عدد موظفي الشركة 4,800 شخص (600 منهم بريطانيون وأوروبيون)، فشكلوا "جالية" كبرى حدّثت الحياة في المدينة، بينهم نسبة كبرى من أبناء طرابلس التي انطلقت فيها حياة اقتصادية واجتماعية ناشطة حول "مجتمع I.P.C" العصري الذي خسرته المدينة. 
3- إقفال مطار القليعات الذي أنشأته "IPC" شمال طرابلس، واستعملته لطائراتها الخاصة بين بريطانيا والعراق والخليج. وكالعادة وُضعت خطط حكومية لتشغيل المطار، فظلت كلها كلاما بلا تنفيذ.
4- إهمال معرض طرابلس الدولي الذي أُنشئ على مساحات شاسعة في بدايات العهد الشهابي (1958-1964). لكن منشآت المعرض لم تكتمل نتيجة عدم اهتمام الإدارة الحكومية وكسل مبادرات المجتمع الطرابلسي. ويقال إن النظام السوري وقف ضد نشاط معرض طرابلس، خشية منافسته معرض دمشق الدولي. واليوم متروكة منشآت المعرض للإهمال والتآكل.

محمد أبي سمرا
مشهد في القبة بطرابلس

وروى ناشط طرابلسي تخلي عن نشاطه في تيار المستقبل الحريري أن فئة اجتماعية طرابلسية واسعة كانت قد صعدت في المدينة طبقيا واجتماعيا إبان عهد الحريري الأب حتى عام 2009، مستفيدة من منح التعليم والوظائف والأعمال الأخرى. لكن هذه الفئة انهارت وفقدت أعمالها ومداخيلها بدءا من عام 2016، فصعدت فئة أخرى من الحرفيين غير المتعلمين، تتلقى أجورها بالدولار (حدادين، نجارين، وسمكرية... إلخ) وحلت مكان الفئة المنهارة. أما في منطقة أبو سمرا الطرابلسية فلأموال جمعيات المهاجرين الإسلاميين، وخصوصا في أستراليا، حضور فاعل في توسعها العمراني، والتعليمي الديني والمدني، وفي نجدة عدد وافر من أهاليها المقيمين.

حطام بشر وزعماء


كيف يمكن وصف حياة سكان محلة باب التبانة في طرابلس اليوم؟
لا يعني شيئا القول إنها أفقر حي في أفقر مدينة على شاطئ البحر المتوسط، على ما يرد في تقارير منظمات دولية كثيرة، غالبا ما تستعيدها وسائل الإعلام والمتابعات الصحافية كلما وقعت حادثة في طرابلس.
والعابرُ صباحا في شارع بين البنايات العالية، أو حزام الصدأ، بباب التبانة، يشعر بخوف وانقباض داهمين. جدران مهولة صدئة على مد البصر، يصعب تخيل طبيعة الحياة خلفها. وتبدو في الفضاء الرصاصي، الأغبر والرمادي، كأنها من مخلفات زلزالٍ قديمٍ تركها واقفة لبشر محطمين. وها هم يطل بعضهم من على شرفاتها على خرابٍ صاروا مثله خرابا بشريا يقيم ويسعى في صدأ الإسمنت والمعدن والكرتون والبلاستيك والذباب... والوحل. وها هي مداخل البنايات سوداء فاحمة، فلا تدري أهو العتم أم إن الجدران فحمتها حرائق قديمة.

لأموال جمعيات المهاجرين الإسلاميين، وخصوصا في أستراليا، حضور فاعل في توسع منطقة أبو سمرا الطرابلسية العمراني، والتعليمي الديني والمدني، وفي نجدة عدد وافر من أهاليها المقيمين

ومن مشاهد باب التبانة مغاسل بيضاء محطمة مرمية في العراء، فوق كومة نفايات يسيل منها سائل أسود متأكسد. مقاعد حمامات من البورسلين الأبيض المتسخ في خربةٍ قبالة محل مقفل. وذاك شاب مفتول العضلات، حاد القسمات، خشن الصوت، جالس على مقعد خرب مُنتزَعٍ من سيارة متهرئة، ومرمي أمام مستوعب محطم يستعمله الشاب مخزنا لعُدة ورشة إصلاح سيارات وتزويد محركاتها بالزيوت المستنقعة كثيقة سوداء حول الشاب إياه في جلسته في المقعد الملطخ بمواد دبقة. وتسمع هناك أصواتا تخرج ثخينة جافة من أفواه شبان ثلاثة متكئين على سيارة يتبادلون كلمات عن شرائح الهاتف الخلوي. وفجأة تسمع بكاء طفل هزيل وصراخه، بعدما صفعه أحد الشبان الثلاثة.
وتحدث عازب سبعيني عن تراجع إعالة الزعماء الأثرياء الطرابلسيين أهالي باب التبانة، بعد تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية في البلاد. كأنما المنافسة المحمومة بين الزعماء على استمالة ولاء الأهالي البائسين قد أضعفتها الأزمة الخانقة. وفي لغة العازب السبعيني السريعة، يصعب سبر طبقات الولاء والمشاعر وملابساتها وتحولاتها؛ فهي تتراكم وتتراكب وتتداخل وتنقلب حسب الظروف والمناسبات. ومن الأمثلة على ذلك صور الزعماء التي يعلقها أهالي باب التبانة في بيوتهم ومحالهم وعلى نواصي الشوارع. وهي ثلاثية بل خماسية الأبعاد. فما إن تقلب مثلا صورة يعلقها أحدهم لأشرف ريفي، حتى تطالعك صورة سعد الحريري على قفاها. على بعدٍ ثالث من الصورة عينها قد تطالعك صورة فيصل كرامي. ولمحمد الصفدي صورة على بعد رابع، لتصل ربما إلى صورة لنجيب ميقاتي أو سليمان فرنجية، وهكذا دواليك.

ديار خراب ومشردين

 

وباب التبانة تتراكم فيها طبقات أزمنة سياسية وحروب مستفة فوق بعضها منذ ستينات القرن العشرين. وهي تشكل مرآة حقب مرت فيها طرابلس:
- حين كانت معقلا للمقاومة الشعبية بقيادة خليل عكاوي الموالية لفتح ياسر عرفات، وخاضت حروبا مع مسلحي حي بعل محسن الموالين لنظام الأسد (1975-1979).
- حين صارت إمارة من إمارات حركة التوحيد الإسلامي بقيادة الشيخ سعيد شعبان الذي حول طرابلس كلها إلى إمارة إسلامية (1982-1985) اجتثت بمقاتل متتالية الشيوعيين والبعثيين العراقيين وسائر أحزاب الحركة الوطنية.
- وكانت المقتلة الأخيرة المروعة في باب التبانة وسائر أحياء طرابلس، تلك التي ارتكبها جيش النظام السوري وأتباعه لاجتثاث إمارة التوحيد الإسلامية.

وخرجت باب التبانة من هذا كله ديار خراب ومشردين وسجناء في معتقلات الأسد. ويروي كثيرون من أهلها أن المقتلة الأخيرة فيها تشبه تلك التي ارتكبها نظام الأسد في مدينة حماة السورية سنة 1982.


عمران منقسم


تنقسم طرابلس إلى طرابلسَيْن: فقيرة وميسورة. تفصل بينهما جادة فؤاد شهاب وامتداداتها. والجادة هذه كانت محور حداثة طرابلس الستينات: خروجها من "حارات الأهل" إلى "جادات اللهو" والتحديث، ومن عطلة "نهار الجمعة" إلى عطلة "نهار الأحد"، حسب عنواني كتابَيْ خالد زيادة في سيرة عمران المدينة، وأنماط عيشها.

طرابلس الحداثة والميسورين التي قامت شوارعها وعمرانها غرب جادة فؤاد شهاب، على بساتين الفيحاء التي لم يبق منها أثر اليوم

تمتد جادة فؤاد شهاب من مدخل طرابلس الجنوبي في البحصاص، وصولا إلى مخرجها الشمالي في اتجاه حلبا وعكار، مرورا بساحة عبد الحميد كرامي (النور حاليا) وساحة التل ومتفرعاتها، رمز التحديث العثماني منذ نهاية القرن التاسع عشر، ومركز طرابلس المديني وشبكة مواصلاتها والنقل فيها بعد نشوء دولة لبنان الكبير. أما الطرابلسان اللتان تفصل بينهما الجادة وامتداداتها والساحتان فهما:

طرابلس الشرقية المرتفعة قليلا وتدريجا على تلالٍ تعلو المدينة القديمة وما كان سهل الفيحاء الشهير ببساتينه. وتتوسط هذه التلال قلعة طرابلس التاريخية الأثرية المشرفة على ساحة التل. وطرابلس هذه تشمل ما صار بطيئا وبالتدريج، منذ الخمسينات، أحياءها الفقيرة.

طرابلس الحداثة والميسورين التي قامت شوارعها وعمرانها غرب جادة فؤاد شهاب، على بساتين الفيحاء التي لم يبق منها أثر اليوم. وقد امتدت عريضة ومستقيمة وعمودية من الجادة وصولا إلى مدينة الميناء وشاطئ البحر: شارع عزمي، الوالي العثماني الأخير. وهو تجاري فيه أقدم حداثة عمرانية تقليدية جميلة في المدينة. شارع المئتين ببناياته السكنية للفئات الوسطى الطرابلسية في الستينات والسبعينات. شارع رياض الصلح للحداثة والترفيه وسكن الميسورين في التسعينات وحتى 2010. منطفة الضم والفرز لسكن الأثرياء الجدد ومطاعمهم ومقاهيهم الأحدث والأفخم في طرابلس.

أحياء الفقر

1 - حي المنكوبين: نشأ بعد فيضان نهر أبو علي سنة 1955، وجرفه بيوتا كثيرة على ضفتيه. مَن فقدوا بيوتهم أقاموا أكواخا مؤقتة في خلاءٍ شمال طرابلس، فصارت دائمة وتكاثرت وسميت حي "المنكوبين".

2-  باب التبانة: كان يُسمى باب الذهب، عندما كان سوقا قديمة لتجارة الحبوب ولثروات تجارها. ويقع على طرف المدينة القديمة الشمالي. أُقفلت السوق وتحولت أرضها لتشييد بنايات تجارية جاهزة لسكن مهاجري فقراء الريف العكاري. وصارت خزانا للفقر والبؤس والعمران العشوائي.

3- بعل محسن: مقابل لباب التبانة على مرتفع، ويفصل بينهما شارع سوريا. استقبل مهاجري الريف الشمالي العلويين. وتكاثر فيه العمران الفوضوي المكتظ قبالة باب التبانة الذي يغلب السنة على سكانه.

4- الأسواق القديمة: بدأت تُهمل في الأربعينات والخمسينات مع انتقال الميسورين الجدد منها إلى مدينة الحداثة بجاداتها وشوارعها العريضة وبناياتها الجديدة. ترك المنتقلون المقتدرون الحارات والأسواق، فانحدر نمط حياة "أهل الضعف" فيها. وسرعان ما تحولت الأسواق وحاراتها اللصيقة إلى ما سُمي في أواخر الستينات ومطلع السبعينات "دولة المطلوبين" من شبان وفتوات الأحياء وزمرهم المفقَرين و"الخارجين على القانون".

الأسواق القديمة: بدأت تُهمل في الأربعينات والخمسينات مع انتقال الميسورين الجدد منها إلى مدينة الحداثة بجاداتها وشوارعها العريضة وبناياتها الجديدة

5- القبة: تقع على التلة خلف الأسواق القديمة والقلعة الأثرية. في أحيائها الفقيرة البائسة اليوم، بيوت تراثية جميلة متصدعة، كانت مصيف نخبة المقتدرين الجدد المنتقلين من حارات الأهل للإقامة فيها. الهجرات الريفية إلى أحياء القبة حاصرت تلك البيوت، فهجرتها عائلاتها إلى عمارات الحداثة في غرب ساحة التل. وتحولت القبة أحياء فقر وبؤس وعمران عشوائي وإهمال واكتظاظٍ سكاني.
6- أبو سمرا: تلة منبسطة تعلو ساحة عبد الحميد كرامي والبحصاص. كانت تكثر فيها كروم الزيتون شأن القلمون والكورة القريبتين. وكانت مصيف عائلات طرابلسية. في الثمانينات تكاثر فيها سكن مشايخ أنشأوا مدارس ومعاهد للتعليم الديني. وعمران أبوسمرا يشبه عمران عبرا التي تكاثر فيها أتباع الداعية الإسلامي أحمد الأسير على مرتفعات شرق صيدا. 


عراقة بلا حاضر ولا قيادة


طرابلس التي يفاخر أهلها بتاريخها العريق، لم تعرف منذ مئة سنة من عمر الدولة اللبنانية كيف تخرج من أسر نظام شديد المركزية يميز بيروت على حسابها. لذلك صارت تعيش حداثتها في حال انفصام واضح: جسدها في الحاضر، ورأسها يستعيد عراقة التاريخ. ونخبها لم تستطع إيجاد توليفة لإعادتها إلى الحاضر والواقع؛ فمؤسسو الكيان اللبناني اختصروا العلاقة بالعاصمة الثانية وسائر مدن الأطراف بقنوات ضيقة تخدم عددا قليلا من البيوتات السياسية التقليدية. واستمرأ أبناء تلك البيوتات ذلك وجعلوه نظاما راسخا. لذا يمكن اختصار تاريخ طرابلس السياسي المعاصر بآل كرامي، إلى جانب عدد من الظواهر السياسية المحدودة. وهذا وسع الفجوة بين طرابلس وبيروت التي عرفت في التسعينات نهضة قادها رفيق الحريري، فلم تصب طرابلس سوى شذرات منها. 
الحنين إلى ماضي المدينة التاريخي والتبرؤ من الحاضر، يظهران بوضوح في آراء وكتابات مثقفيها. وهذا ما تؤكده السيدة الطرابلسية وفاء شعراني (مدرسة جامعية، ترأست جمعية طرابلس السياحية سنوات وعملت على إحياء إرثها الثقافي). وهي تقول: "طرابلس من أقل المدن حظا في الدراسات المدنية العلمية الحديثة. ورغم كثرة الكتابات الأكاديمية والشعبية الوصفية عنها، فالغالب عليها تاريخ مواقعها وآثارها". وتعتبر شعراني أن طرابلس "أضحت مجتمعا متلاطما مضطربا غير محدد السمات والقسمات، وتفتقد طبوغرافيا اجتماعية وتخطيطا مستقبليا". 

محمد أبي سمرا
شارع وبنايات في باب التبانة

وهي تذكر أن "المعماري العالمي نيماير حاول ربط المدينة القديمة بالبحر من خلال تحفته المعمارية، معرض رشيد كرامي الدولي الذي أُهمل للأسف حتى الآن. ولا يبدو أنه سينهض في المستقبل القريب؛ فالمنطقة العربية المشرقية برمتها بعيدة عن مشاريع السلام. وليس من زعامة سنية صاعدة فيها. ولا أحد من ساسة طرابلس الأثرياء يمتلك رؤية سياسية مستقبلية أو تنموية. والشلل الكامل على ضفتي النهر الذي يعبر فيها يكاد يكون حقيقتها الوحيدة". 
رشيد درباس (مهندس ووزير سابق وسياسي) يشارك شعراني رأيها في افتقاد طرابلس قيادات سياسية. وهو يرى أنها "غنية جدا بتراثها التاريخي وحرفها الموشكة على الاندثار. وكذلك غنية بأسواقها التقليدية وعمارتها ومرفئها المميز بخصائص جغرافية طبيعية تجعله واحدا من أهم المرافئ على شرق المتوسط". لكن هذا "ويا للأسف- يضيف درباس- لا يجد في المدينة سوى إدارة فاشلة تفتقر إلى قيادات سياسية حكيمة وخلاقة ومبادرة. ولولا بعض الجمعيات والمبادرات الفردية لكان الوضع أسوأ بكثير". وهو يضرب على ذلك أمثلة حية: "تكاثر القمامة في شوارع المدينة. ومعرض رشيد كرامي المهجور موشكة أساساته على الانهيار". وتحدث درباس عن "عطب نخبوي بنيوي طرابلسي، يمنع إنتاج قيادات سياسية جديدة لتغيير واقع المدينة وإثبات تأثيرها في قرار البلاد". وهو ربط ذلك بموجة هجرة النخب هربا من الأزمة الاقتصادية، وبضيق آفاق العمل والإبداع في لبنان، وبانسحاب سعد الحريري من الحياة السياسية. و"هذا أدى إلى انكشاف الضعف القيادي السني عامة"، حسب رأيه. 

الحنين إلى ماضي المدينة التاريخي والتبرؤ من الحاضر، يظهران بوضوح في آراء وكتابات مثقفيها.

الدكتور مصطفى علوش (طبيب، ونائب سابق عن طرابلس، ونائب رئيس تيار المستقبل لسنوات، بعد تجربة سياسية يسارية) يرى أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة في طرابلس أفرزت أوضاعا مستجدة غيرت صورة المدينة وخريطتها السياسية. وهو يقصد حقبة ما بعد اغتيال رفيق الحريري، وهيمنة تيار المستقبل الذي ينافسة عدد من أبناء الأسر التقليدية وبعض رجال الأعمال الذين دخلوا حديثا الحياة السياسية، وأبرزهم رئيس الحكومة اللبنانية الحالي نجيب ميقاتي، والنائب والوزير المعتزل محمد الصفدي، وكلاهما واسع الثراء.

ويضيف علوش: "اليوم ضمر اهتمام الناس بالسياسة، وتضاءل تأثير الزعامات التقليدية والأحزاب السياسية بعد انكفاء السياسيين المتمولين عن خوض الانتخابات، مثل نجيب ميقاتي ومحمد الصفدي، إضافة إلى غياب تيار المستقبل. لذا أرخت انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 بثقلها العشوائي على خيارات الناس الانتخابية؛ فمن نجح في البداية سقط لاحقا ليحل محله شخص من التقليديين". ويشير علوش إلى أن "المزاج الشعبي يرفض جميع السياسيين. لكن الفقر جعل للعامل المالي دورا بارزا في خيارات الناخبين، فصوتوا لمن يدفع أكثر. وظهرت وجوه جديدة بلا تجربة وبلا خيار سياسي". وختم علوش قائلا إن طرابلس "فقدت الوجهة والمرجعية السياسيتين، ونخبتها السياسية تقاعدت مبكرا".

بين السلفية والصوفية

 

قبل بروز تيارات الإسلام السياسي، كانت الجماعات الصوفية حاضرة ومؤثرة في طرابلس، وتمثل إحدى الأذرع السياسية للسلطنة العثمانية. الثورة الإسلامية في إيران، وظهور السلفية الجهادية في ثمانينات القرن العشرين، أثرا في التنافس التقليدي بين الصوفية والسلفية في طرابلس. همدت الصوفية وانتحت جماعاتها جانبا ونأت بنفسها عن تطرف جماعات الإسلام الراديكالي.

أدى صعود نجم تركيا منذ مطلع الألفية الثالثة مع حزب العدالة والتنمية إلى نهضة الجماعات الصوفية وتوسع في حركتها في تركيا وخارجها

أدى صعود نجم تركيا منذ مطلع الألفية الثالثة مع حزب العدالة والتنمية الحاكم فيها- وهو إسلامي محافظ، والثقافة الصوفية فاعلة بين قياداته البارزة، وكذلك في حركة الخدمة التي يتزعمها فتح الله غولن- إلى نهضة الجماعات الصوفية وتوسع في حركتها في تركيا وخارجها. وفي طرابلس المحافظة عادت الجماعات الصوفية إلى الحضور في أوساط دينية واجتماعية، من دون أن ترتبط كلها بتركيا. وأثبتت الجماعات الصوفية حضورها في الانتخابات النيابية الأخيرة (ربيع عام 2022) في طرابلس التي انتخبت للمرة الأولى طه ناجي المحسوب على جماعة "الأحباش" التي تنطوي ثقافتها الدينية وتضامنها الاجتماعي على شيء من التصوف الشعبي. وانسحاب الحريري ومؤسسات المستقبل الخدمية أدى إلى تفعيل الجمعيات الصوفية الطابع ومؤسساتها الخيرية. 


مدينة بلا فندق!


أواخر التسعينات، أنشأ رفيق الحريري فندقا من فئة 5 نجوم في طرابلس، أثناء استعدادات لبنان لاستضافة كأس آسيا لكرة القدم عام 2000. لكن بعد اغتيال الحريري دخل ذاك الفندق في موت سريري، وأقفل تماما فبل سنوات قليلة لأسباب إدارية. واليوم ليس في طرابلس أي فندق، باستثناء فنادق مدينة الميناء البحرية القريبة منها. وبعد سنوات على تملك نجيب ميقاتي فندق "فيامينا" في الميناء، اشترى في هذه المدينة البحرية مبنى "بيت الفن" التراثي ووضع إلى جانب اسمه هذا على واجهة المبنى عبارة "مركز العزم الثقافي". والعزم هي الكلمة التي شاءها ميقاتي صفة لتياره السياسي، رغم أنه لم يُعرف عنه لا الحزم ولا الشدة، بل هو يحب أن يشتهر باللين والوسطية والمداورة والنأي بالنفس.

محمد أبي سمرا
في أحد أحياء القبة الطرابلسية

ومنذ التسعينات شكل شارع رياض الصلح الذي يربط طرابلس بالميناء، مسرح الحداثة الترفيهية الطرابلسية الناهضة بعد سنوات الحرب، عندما  بدأت العائلات البرجوازية والفئة العليا من الطبقة المتوسطة تنقل سكنها إلى هذا الشارع. وقد استمر ينمو بمقاهيه ومطاعمه ومحاله التجارية الحديثة، وافتتحت فيه صالتا سينما. لكن هذه الحداثة راحت تحتضر مطلع عام 2010، مع نشوء منطقة جديدة (الضم والفرز) للأثرياء الطرابلسيين الجدد. 


كرنفال وداعي للبنان


على مثالٍ شعري إعلاني- راجَ في كتابات نزار قباني المتأخرة، وبعدها في كتابات محمود درويش- شاعت أثناء حركة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 اللبنانية تسمية مدينة طرابلس "عروس الثورة". وروى شاب ناشط في احتجاجات 17 أكتوبر/ تشرين الأول ببيروت أن الحشود وحركتها اليومية في ساحة "النور" (عبد الحميد كرامي) الطرابلسية، ذكرته بالثورة في مدينة حمص السورية عام 2011. وبهرت يوميات العرس الطرابلسي المصورة تلفزيونيا اللبنانيين والناشطين. 
وعاش أهالي طرابلس "عرسهم الثوري" منضوين في شخصية معنوية أو رمزية لمدينتهم. كأنما كانوا يقولون لأنفسهم وللبنانيين: انظروا، طرابلس كلها هنا في الساحة منتفضة مثلكم. وهي تنتفض على صورتها الشائعة والمفبركة لها (قندهار التطرف الديني في لبنان). ونحن وهي براءٌ منها.
وكان الطرابلسيون ينتفضون أيضا على هامشية مدينتهم في الجغرافيا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللبنانية. وغادرت طرابلس حيرتها إلى أي اتجاه تدير وجهها، لتصير مدينة لبنانية كاملة ومكتملة، وغير منقوصة أو مثلومة اللبنانية. 
لكن مأساة طرابلس تكمن في أنها تصل دائما متأخرة؛ فقد يممت وجهها نحو لبنان وعاصمته بيروت، معربة مع اللبنانيين في ثورة العامين 2019-2020 عن توقها إلى الحرية والنهوض والكرامة. لكن هذه الثورة (شأن الربيع العربي الموؤود) انتهت بانفجار مرفأ بيروت. وتحولت صورها إلى كرنفال وداعي للبنان، قبل انهياره الكبير والمستمر. 
وها هو لبنان يبتعد يوما بعد يوم عن نفسه وتاريخه، حتى صار غريبا عنهما، ومسترسلا في يوميات غرقه في الخواء السياسي والإفلاس المالي والاقتصادي، باحثا عن دور جديد يبدو حتى الآن مستحيلا.

font change

مقالات ذات صلة