خرق "قواعد الاشتباك الاقتصادي"

خرق "قواعد الاشتباك الاقتصادي"

يعود مصطلح "قواعد الاشتباك" العسكري الى منتصف الخمسينات خلال الحرب الباردة، وهو مصطلح أميركي يستخدم منذ الحرب الكورية بشكل واسع في العلوم العسكرية، وتُقصد به الأطر والمبادئ التوجيهية التي يجب على الجيوش النظامية أو القوات المتقاتلة، التزامها وعدم تخطيها ضمن رقعة الاشتباك، أو الحدود الجغرافية المتنازع عليها. ولعل الأهم في معنى القواعد أو "الحدود" هو عدم الإقدام على أفعال وحشية ولا انسانية، وهذه تحكمها اتفاقات ومواثيق دولية رادعة و"شرف عسكري"... هذا ما يفترض الأخذ به، وهو ما لا تقيم له إسرائيل وزنا الآن في غزة ولا على مدى تاريخها.

تشمل "قواعد الاشتباك" على مستوى الدول، مجموعة من المعطيات، من أبرزها البعد الوطني-الاقتصادي، والمصالح الاستراتيجية العليا للدول وشعوبها، موازناتها وقدراتها المالية والتموينية.

في حسابات الربح والخسارة السياسية في دول العالم "الطبيعية"، يحكم الاقتصاد، فإن ازدهر عمّ الاستقرار السياسي، والفائزون في الانتخابات هم عموما "أبطال الاقتصاد"، أصحاب البرامج الاقتصادية التي تحقق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي للناس، لا أبطال الحروب، والتاريخ حافل بالشواهد. المعيار (لديهم) هو رفاه الإنسان، صحته وتعليمه، استقرار أسواق الأسهم ومؤشرات التضخم ونسب الفوائد، أمان المصارف وتوافر مسالك آمنة للنقل البري والبحري والجوي، وهذا قلما عرفته منطقتنا، منذ أكثر من نصف قرن.

من الضاحية الى... باب المندب

ما يحصل اليوم في البحر الأحمر وفي لبنان (لم يعد دقيقا القول في جنوبه فحسب بعد اغتيال صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبية)، يعاكس كل قواعد الاشتباك على أنواعها. إنه تجاوز لـ"قواعد الاشتباك" العسكري والاقتصادي على حد سواء، فتبادل الرشقات بين "حزب الله" وإسرائيل بالتوازي مع حرب غزة، وكذلك التعديات "الحوثية" على السفن التجارية عند مضيق باب المندب، يمسان مصالح دول كبرى، لا بل قارات وأمم، وهذا بلغة الاقتصاد والأرقام، يتخطى معايير و"قواعد سلاسل التوريد" والتجارة العالمية، وهذه مسألة يقابلها التضخم واضطراب الأسعار وربما الحروب فالخراب ولا شك.

يدرك اللبنانيون تماما المعاني الاقتصادية لمصطلحات "قواعد الاشتباك" و"تلازم المسارين" أو "قواعد اللعبة" و"محور الممانعة"... ويدركون تاليا مدى تأثيرها على حياتهم، بل خبزهم اليومي 

في لبنان مثلا، يدرك اللبنانيون تماما المعاني الاقتصادية لمصطلحات "قواعد الاشتباك" و"تلازم المسارين" أو "قواعد اللعبة" و"محور الممانعة"... ويدركون تاليا مدى تأثيرها على حياتهم، بل خبزهم اليومي وساعات الكهرباء النادرة التي يحصلون عليها، ونوعية الدواء المتاح لهم. هم تعلموا وتلمسوا – ليس جميعهم ربما – معنى "الانهيار الثلاثي" التاريخي المتزامن، لخزينة الدولة والليرة والمصارف، حيث يتخبط الجميع منذ أكثر من أربع سنين في خضمّ أهوج، بلا أي قواعد تذكر.

إلى هذا التخبط، ها هو البنك الدولي يعلن في تقرير "المرصد الاقتصادي للبنان" أن طلائع آثار حرب غزة "تمثّل صدمة إضافية كبيرة لنموذج النمو الاقتصادي اللبناني غير المستقر. فبعدما كان من المتوقع قبل الصراع أن يحقق الاقتصاد - وللمرة الأولى منذ عام 2018 - نمواً بنسبة 0,2 في المئة في عام 2023، أظهر سيناريو تحليلي لتقييم تأثير انخفاض الإنفاق السياحي على النمو الاقتصادي أن إجمالي الناتج المحلي الحقيقي سينكمش بنسبة 0,6 في المئة إلى 0,9 في المئة".

نجاح القرصنة الحوثية... حتى الآن

يبلغ عرض مضيق باب المندب نحو 30 كيلومترا، ويصل البحرين الأحمر والأبيض إلى قناة السويس الاستراتيجية التي يمر عبرها 12 الى 15 في المئة من حركة الشحن والتجارة العالمية، وهو ما يمثل 30 في المئة من حركة الحاويات الاجمالية في العالم، وأكثر من تريليون دولار من البضائع سنويا (وكذلك عبر باب المندب)، ويمر من خلال البحر الأحمر نحو 80 مليون طن سنويا من الحبوب، وكذلك يمر عبر قناة السويس 10 في المئة من شحنات النفط والغاز العالمية.

ليس من مصلحة أحد خرق "قواعد الاشتباك الاقتصادي" المضمرة في باب المندب، لكن ما يبدو، بلغة الأرقام وبلا مواربة ولا قفازات، نجاح القرصنة والتعديات الحوثية حتى الآن 

يمر عبر منطقة البحر الأحمر 40 في المئة من حركة التجارة العالمية، و12 في المئة من النفط الإجمالي المنقول بحرا، و8 في المئة من تجارة الغاز الطبيعي المسال من باب المندب وبواسطة خطي أنابيب "سوميد" وقناة السويس، بحسب إحصاءات إدارة معلومات الطاقة الأميركية.

من هنا ليس تفصيلا أن تتضاعف أسعار الشحن البحري حتى الآن، وأن تعلق 18 شركة عالمية للشحن خطط استئناف عبور البحر الأحمر. فقد تجاوزت أسعار الشحن من آسيا إلى شمال أوروبا أربعة آلاف دولار لكل حاوية بطول 12 مترا، وزادت الأسعار من آسيا إلى البحر المتوسط إلى 5175 دولاراً، بحسب آخر أسعار منصة الحجز والشحن الدولي "فريتوس" في الأسبوع المنصرم.

وإذا كان التأثير لا يزال محدودا على قناة السويس، فالتطورات تنذر بالأسوأ، مع ما ينطوي عليه ذلك من مضاعفات، على نسب التضخم والنمو العالمية، وليس على مصر فحسب، بعد توقعات 2024 ببدء تنفس الصعداء من رفع الفوائد الهستيري في العام المنصرم للجم التضخم. 

ليس من مصلحة أحد خرق "قواعد الاشتباك الاقتصادي" المضمرة هناك، لكن ما يبدو، بلغة الأرقام وبلا مواربة ولا قفازات، نجاح القرصنة والتعديات الحوثية حتى الآن في الآتي: 17 في المئة من تجارة الحاويات العالمية سيتم تغيير مسارها، ستطول مدة الرحلات البحرية التي تتوجه عبر طريق رأس الرجاء الصالح بمعدل 14 يوما (2,5-3,5 آلاف أميال بحرية إضافية إلى المسافة الفعلية)، ولا بديل استراتيجيا حاليا من باب المندب وقناة السويس وكفاءة القناة الاقتصادية للشحن والعبور البحري.

ما لا يدركه العقل الميليشيوي هو أن خرق "قواعد الاشتباك الاقتصادي" الدولية دونه أساطيل، وثمة قواعد عبر البحار تحكم الكوكب لانسياب الحبوب ودونها الحروب

ان تفاقم الواقع الراهن، سيعيد "طريق بحر الشمال" الى طاولة النقاش، علما أن من الصعب، بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية وتدهور العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، أن يشكل طريق بحر الشمال بديلا من قناة السويس ومعها باب المندب لأسباب سياسية وأمنية استراتيجية.

لربما يتمتع العقل الميليشيوي بخبرات عسكرية، وبسيادة على رقع جغرافية في البر والبحر، كما يتعلم بالتجربة والنار "قواعد الاشتباك العسكري" من الجيوش النظامية، مثلما يجيد التعامل باقتصاد التشبيح والتهريب و"الكاش" و"الكبتاغون"، لكن ما لا يدركه العقل الميليشيوي بالتأكيد هو أن خرق "قواعد الاشتباك الاقتصادي" النظامية والدولية في البحر الأحمر دونها حسابات أخرى، ودونها أساطيل... ثمة قواعد لانسياب الحبوب والغذاء وسلع غذائية واستهلاكية أساسية عبر البحار تحكم الكوكب، ومضيق باب المندب أحد ممراتها للغذاء والطاقة والحياة ... ودونه الحروب والخراب!

font change